محمد بن علي المحمود

الوجه الحقيقي للمتطرفين

العودة إلى حروراء!

محمد بن علي المحمود

قبل خمس سنوات تقريبا، زارني أحد المتطرفين التكفيريين (الأكاديميين!)؛ مناصحا بزعمه، وزاعما، وبدون تواضع، أنه من دعاة الوسطية والاعتدال، وأنه لهذا السبب يستحق أن أسمع منه، وأن أقبل كل ما ينطق به، لأنه لا ينطق بأهوائه ولا بمزاجه، بل لا يقول إلا بما تؤكده الشريعة الغراء. قدّم نفسه كمجرد ناقل للحقيقة الظاهرة (طبعا، ظاهرة بفهمه!) في نصوص الشرع، وأنه ليس أكثر من (أمين) في النقل والتبليغ، وأنني في حال وجدت تكفيرا أو تبديعا أو تفسيقا في بعض ما يقول، فليس هذا من اختراعه، بل هو مجرد مُبلّغ، وهذا حكم الله، ولا ينبغي النظر إلى ما صدر عن الله من أحكام (وهو هنا يشير إلى تلك الآراء المتشددة التي يتبناها كأحكام إلهية يتصور أنه عرفها على جهة اليقين) إلا بوصفها أنزه الأحكام ومعيار الوسطية والاعتدال.

حتى ساعة كتابة هذه الكلمات، لم أجد تكفيريا يعترف صراحة بأنه تكفيري. التكفيريون، منذ عام 36ه وإلى اليوم، يزعمون أنهم وسطيّون معتدلون. التكفيريون ينفون عن أنفسهم تهمة التكفير، ولكنهم يعترفون في الوقت ذاته أنهم منتمون إلى المنظومة التقليدية التي كانت ولا تزال أكبر مخزن لمقولات التكفير، بل إن هوية هذه المنظومة التقليدية لم تقم إلا على التكفير. ومع ظهور هذه الهوية التكفيرية، واشتهارها بها من بين جميع الفرق الإسلامية؛ إلا أن لدى هذه التقليدية لازمة متكررة، تُبرر بها تكفيرها للأغلبية الساحقة من المسلمين، وتنفي في الوقت نفسه عن نفسها تهمة التكفير. إنها لازمة تقول: نحن لا نُكفر إلا من كَفّره الله ورسوله. تقول هذا بتبجح؛ وكأن الخوارج التكفيريين كانوا يزعمون أنهم يُكفّرون الناس بأفكار بوذا أو ماني أو زرادشت قديما، أو بوحي من رأس المال لماركس أو أصل الأنواع لداروين أو الكتابة في درجة الصفر لبارت أو الوجود والعدم لسارتر حديثا. كل التكفيريين يُؤكدون وباستمرار، أن مصدرهم نصوص الوحي، وأنهم لا يفعلون أكثر من تنزيل حكم التكفير الذي حكم به الله ورسوله على البشر، وأنهم مجرد ناطقين بلسان الشرع، وهم للتأكيد على ذلك يستحضرون الآيات والأحاديث التي تؤكد حكمهم على الناس بالتكفير.

هذا التبرير بهذه اللازمة (= نحن لا نُكفر إلا من كَفّره الله ورسوله) ليس غريبا؛ إذ لا بد من هذه الإحالة حتى يكتسب التكفير شرعيته، بل الغريب أن ينخدع بها كثيرون؛ لمجرد أنها تُحيل بادعاء عريض كل تنظيراتها وتطبيقاتها التكفيرية إلى مصدر إلهي متعال. بمجرد أن يقول أحدهم: (نحن لا نُكفر إلا من كَفّره الله ورسوله)، يتبادر إلى أذهان كثير من المخدوعين بمقولات هؤلاء، براءة القائل من تهمة التكفير.

هذا التكفيري الذي زارني، لم يُفصح عن تكفيره منذ البداية، ولكن عرفته في (لحن قوله) منذ بداية اللقاء، وعرفته في صراحة القول عند نهاية اللقاء. لم يخب حدسي في تكفيريّ التقيته قط، فللتكفيريين سيمياء خاصة، قد تكون غامضة ومعقدة، ولكنها أشبه بالغاز السام الذي يكاد يخنق عليك الأجواء، فحضوره يمتلك قوة أن يسحب كل ذرة من أوكسجين الحرية في الفضاء الذي بينك وبينه. بمجرد أن تقف مع تكفيريّ وجها لوجه؛ تحس أنك فقدت في الحال ثلاثة أرباع حريتك إذا كنت لا تريد أن تصدمه في مشاعره، أي أنك تفقد ثلاثة أرباع روحك، فحريتك هي جوهر روحك ومعنى وجودك. ومن لا يحس بمثل هذا الاختناق أو هذا الفقدان، فهو معطوب الحواس بفعل الانغماس اللاشعوري بالأجواء الموبوءة بثقافة التكفير، وبثقافة تبرير التكفير.

هناك روح خوارجية حرورائية تمارس تعطيب كل نشاط إنساني لدينا. طبعا لن تحس بها إذا ما كنت مولودا على فطرتها، لن تكتشفها إذا ما كنت تحاول قراءتها من داخلها ومن خلال تبريراتها. تأكد أنك إذا ما كنت مندغماً بها؛ فلن تستطيع أن ترى أنها (ذهنية تحريم) حرورائية مسعورة، لا تقف بالتحريم عند حدوده، بل ترمي كل من لا يوافقها عليه وعلى تفاصيله (ولو كان بالأمس القريب من أعمدتها) بأنواع الكفر وأنواع الضلال. لكي ترى روح الثقافة الخوارجية؛ تحتاج إلى الخروج ولو مؤقتا من أجوائها، تحتاج إلى أن ترى كيف أن حركة الخوارج التكفيريين كانت حركة تشدد، خالفت في تشددها (وليس في تسامحها ! فالتشدد هوية الخروج الحرورائي) الأغلبية الساحقة من المسلمين. عندما تنظر إلى التقليدية لديك بموضوعية، ترى أنها هي حالة الخوارج تماما، ترى أنها حركة / ثقافة تشدد، تعارض بتشددها العقدي والفقهي الذي أصبح هويتها المعلنة، ما عليه أكثر من 97% من المسلمين.

دار بيني وبين ضيفي التكفيري كلام (طبعا هو كلام وليس حوارا، إذ يستحيل الحوار مع تكفيري، فالتكفيري يستجوب أو يملي أو يعظ أو يؤنب)، ولم يكن الكلام في البداية ذا نفَس تكفيري، لكنه انتهى إلى ما تنتهي إليه التقليدية إذا ما صدقت (أو صرّحت) في تطبيق منهجها. في ظرف ساعتين أو أقل، وبإلزامي له بمقولات التقليدية العقدية أو البراءة منها بمجرد تخطئتها؛ خرج 97% من المسلمين من دائرة الإسلام، ولو أنني دققت معه في التفاصيل لم يبق معه من المسلمين إلا أقل من 1%، أما البقية فهم كفار بزعمه، تتخطفهم الشركيات، وتتقاسمهم (النواقض العشرة) بمخالبها، بحيث إن سَلِمَ أحدٌ من (ناقض) وقع لا محالة في (ناقض) آخر، ولم يسلم منها جميعا إلا أدعياءُ الصفاء والنقاء.

لقد أحس ضيفي التكفيري بمعنى النتيجة التي انتهى إليها أو التي أضطر إلى التصريح بها؛ عند محاكمتي إياه إلى منظومته التقلدية، أحس بأنه تعرّى أمامي كتكفيريّ بامتياز. لم يستطع الاستدراك، ولا ممارسة الاستثناءات، ولا التعلل بالضرورات؛ وإلا فقدت المنظومة التقليدية معنى تمايزها عن بقية المسلمين. وإزاء هذه النتيجة المرعبة، قال مُبرّرا: هذا حكم الله ورسوله، ونحن نطبقه على الجميع، ويبقى الحكم صحيحا؛ حتى ولو كانت النتيجة أن يُحكَم (ولم يقل نحكم!) على جميع المسلمين بالخروج من الإسلام. نفس التبرير الذي كانت تقول به الخوارج قديما. لكن، خاف التكفيري، ولا أدري مما خاف!، وإذ لم يستطع التراجع عن هذا التكفير الشامل الذي لا يستثني إلا القليل، بادرني بقوله:" المجالس أمانات ". وفعلًا، المجالس أمانات، ولولا ذلك؛ لذكرت تفاصيل تهمّ القارئ، لكن ولأنها قد تشي بهويته، تركتها لما هو أهم في هذا اللقاء.

واضح أن الرجل إذ عرف وبصورة مباشرة عدم توافقي معه في الاتكاء على المرجعية التقليدية، قد حكم علي بالكفر (على الأقل بناقض: "من لم يُكفر الكافر فهو كافر" وأنا لا أستطيع أن أُكفّر 97% من المسلمين الذين أصبحوا في حكمه كفارا؛ كي يُعفيني هذا التكفيري من (التكفير)، وإن لم يُصرّح بذلك؛ لمصلحة مرجوة (كما في العرف التقليدي)، حيث كان يرجو أن أكفّ عن تبني بعض الآراء، أو نشر بعض الفقهيات التي لا توافق عليها التقليدية، بل تراها رغم كونها محل جدل في طول التراث وعرضه محض ضلال.

قال لي التكفيري وهو يغلي من داخله، ولكنه يتظاهر بالسماحة والالتزام بأدبيات الحوار: لِمَ تنشر الرأي الذي يرى عدم وجوب صلاة الجماعة، ولِمَ أشرت إلى صحة القول الذي يرى جواز الغناء، لِمَ..إلخ ؟ هل وصلت إلى مرتبة الاجتهاد؟. طبعا لم أدخل معه في جدل حول ما هي مرتبة الاجتهاد وما هي شروطها وما هي حدود الاستغراق الواجب في كل شرط وهل الاستغراق يجب أن يكون تاما، وهل هناك من توفرت فيه الشروط فبلغها، وهل شيوخه قد بلغوها رغم أن شروطها التاريخية في حال تطبيقها بموضوعية عليهم لا تتوفر فيهم ولو بالحدود الدنيا، ثم ما معنى الاجتهاد وفي أي سياق يكون، وهل الكاتب أو المثقف أو المفكر يناقش في منطقة الاجتهاد أم يناقش منطقية الاجتهاد..إلخ؟

تلك التفاصيل التي أعرف يقيناً أن ثقافة هذا التكفيري، حتى في تخصصه، أضيق من أن تستوعبها، فضلا عن أن تستوعب نقدها وتفكيكها.

بعد أن عرفتُ ما يرمي إليه، حوّلت الكلام إلى مستوى يستطيع استيعابه. قلت له: أنا مجرد مقلد، ينقل بعض آراء الأئمة الأعلام (هكذا يقولون !) وينشرها، ولا تثريب على من يقلد علما من الأعلام. قال: لكنك تتبنى الفكرة، أي أنك مقتنع بها، بدليل أنك تنشرها، وهذا يعني أنك حكمت عليها بالصحة، وهذا الحكم يحتاج أن تكون وصلت مرتبة الاجتهاد. قلت له تنزلا: وهل كل من يتبنى فكرة وينشرها، لابد أن يكون قد وصل إلى مرتبة الاجتهاد ؟ قال: نعم. قلت: خطيب جامعنا بالأمس خطب مطالبا المرأة بأن تلتزم بالفتوى التي ترى وجوب ستر الوجه، لأنها بزعمه هي الفتوى الصريحة، فهل وصل وهو من تعرف بضحالته العلمة مرتبة الاجتهاد، هل أنكرت عليه، بل أنت أمام طلابك، ألست تلقي في كل محاضرة عشرات الأحكام وتؤيد بعضها، فهل وصلت أنت إلى مرتبة الاجتهاد، بل لو خرجت من عندي الآن، ولقيك في الطريق شاب وسألك: ما حكم صلاة الجماعة؟ هل ستقول له ما تراه صحيحا أم ستعتذر له بأنك لا تستطيع إخباره لأنك لم تصل مرتبة الاجتهاد ؟. هنا، بُهت الذي تطرف. وهنا قلت له صراحة: ليس اعتراضك على طرحي أنني لم أصل إلى مرتبة الاجتهاد الشرعي، اعتراضك في الحقيقة هو على نوعية الطرح، ولو أني كتبت مقالا في التأكيد على وجوب صلاة الجماعة وفسق من يتأخر عنها، فلن تأتي إلي تطالبني بالسكوت، بل ستتصل بي مؤيدا ومناصرا، مع أني في كلتا الحالين لم أصل مرتبة الاجتهاد.

يسكت الغلاة التكفيريون عن أي كاتب أو داعية أو مثقف أو كاتب، ما دام يقول ما يصب في خانة التشدد. إذا ما تبنى الكاتب أو الداعية لآراء المتشددة، فلن يجد من يطالبه بأن يسكت لأنه لم يُعرف بالفقه ولا بالإفتاء، كل الخطباء وكل والوعاظ وكل ناشري المطويات وكل نجوم الفضائيات من الدعاة، كانوا ولا يزالون، يطرحون عشرات الأحكام، ولا أحد يتكلم، بل يرى التقليديون أن هذا من باب نشر الخير بين الناس وتعميم الفائدة الحكواتي مثلا، هل وصل مرتبة الاجتهاد؛ مع أنه يطرح في برامجه عشرات الأحكام التي تحتاج لاجتهاد؟ التيار التقليدي يبارك كل أنشطة المتشددين مهما كانوا صغارا في العلم والعمل. لكن وبمجرد خروج الطرح عن مسار التشدد، ترتفع الأصوات، بأن هؤلاء ليسوا من أهل الفتوى، وأنه يجب الحجر عليهم، وتكميم أفواههم. ومن الغريب أن الذي يُطالب ليس بأعلم من المطالَب، بل هو فقط أشد تطرفاً منه، ومعنى هذا يفتي، وفي الوقت نفسه يدعو إلى الحجر على من ليس من الفتوى بزعمه في قليل ولا كثير، وكأنه منها في شيء!

واضح، إذن، أن الحرورية هي التي تريد أن تكون لها المشروعية في الساحة، وأن من يخالفها فلابد أن يتم وضعه في دائرة من الحصار، حصار اللامشروعية. ربما يكون تصريح أحدهم أن جرثومة التحريم أصيب بها كثيرون، هو ما أزعجهم؛ لأنها ليست تعبيرا عن مجرد خلاف فقهي، وإنما هي كشف عن روح حرورية، نحتاج لكفاح طويل؛ حتى نشفى منها. بل من المؤكد أننا لن نشفى منها بالكامل في المستقبل القريب، لكن بعض الشفاء فيه ما يقنع المتفائلين.

الصفحة السابقة