الحجاز وقلق التقسيم

قرر الحجازيون الوحدة فقامت الدولة، فهل يقررون نهايتها؟

رغم مرور ما يقرب من ثمانين عاماً على احتلال الحجاز وإنهائه كدولة مستقلة معترف بها على يد القوات النجدية، فإن خطر إمكانية عودة الحجاز الى وضعه القديم تقضّ مضجع السلطات السعودية.. فهو يمتلك كل مقومات الدولة من قيادة دينية وسياسية مختلفة وبنى تحتية وموارد اقتصادية بسبب وجود الأماكن المقدسة والمعادن كالذهب، ويقال أن الدلائل تشير الى مخزون نفطي في الحجاز، حال دون استخراجه القرار السياسي الرسمي الذي لم يشأ إعطاء إمكانية ومكانة إضافيتين الى الحجاز حتى لا ينعكس ذلك على مطامح نخبه بحصص أكبر في الدولة أو يغريهم بتطوير مشاعر الإنفصال.

مما لا شك فيه أن الحساسية بين نجد والحجاز قديمة بل سابقة على نشوء الدولة السعودية الحديثة، وزادت سيطرة النجديين على الحجاز عبر وسائل عنف وارتكاب مجازر في تربة والطائف، زادت من مشاعر الإحتقان والغضب من قبل وجهاء وشخصيات الحجاز، والتي ورّثوها الى أبنائهم وأحفادهم. وجاءت سياسة العائلة المالكة خلال الفترة الطويلة الماضية القائمة على المحاباة والتفضيلية للمنطقة المنتصرة لتجعل من الحساسية أمراً لا مفرّ منه.

بداية اضطر الملك المؤسس لاستقطاب وجهاء وطاقات وكفاءات الحجاز في مؤسسات الدولة، ولكن ما أن تبلورت النخبة النجدية المتعلّمة حتى عمدت الى إقصاء نظيرتها عن عدد غير قليل من مواقعها المدنية والعسكرية والأمنية. إن سياسة العائلة المالكة غير المتوازنة تعبر عن خشية دفينة من انبعاث المشاعر الحجازية من قمقمها، ولكن تلك السياسات وبدل أن تزيل المخاوف زادتها حدّة.

لم يكن أمام المواطنين إلاّ قبول الإستتباع السياسي لنجد، ولم تعرض عليهم الوحدة السياسية إلاّ قسراً، ولم تكن الوحدة ذاتها تعني شيئاً سوى إقرار المغلوب بالهزيمة أمام الطرف الأقوى، وزيادة على ذلك فإن من دفع ثمن الوحدة رغماً عنه هم جموع المواطنين: دماً وإذلالاً وتمييزاً مقيتاً، في حين استفرد المنتصر بكامل المغنم.

نظر السعوديون الى الحجاز في بداية احتلاله فرأوا صعوبة استتباعه دفعة واحدة، فأبقوه كمملكة مستقلة ذات سيادة على حدوده المعلومة وعاصمته مكة المكرمة، ولكن الملك هذه المرة ليس (هاشمياً) بل (سعودياً) حيث أصبح الملك عبد العزيز ملكاً على الحجاز وسلطاناً على نجد وملحقاتها (الملحقات هي الأحساء والجنوب) وعيّن ابنه فيصل نائباً له على الحجاز يديره في غياب أبيه.

أدرك الملك بأن الحجازلا يقبل بسيطرة نجد والوهابية على مقدراته وترابه وتراثه الديني، وإن قيام دولة موحدة لن يتم بدون رضا ومشاركة الحجازيين فيها. وقد استدرج الملك عبد العزيز بالترغيب والترهيب الشخصيات الحجازية لقبول الأمر الواقع، مع حق الإدارة الداخلية للشأن الحجازي. وبعد أكثر من ست سنوات من احتلال الحجاز، وبأمر من الملك، طلب الحجازيون منه إعلان توحيد المملكة، ووضع نظام توارث العرش، ووضعوا المبررات وحددوا الإسم!! لم يكن من بين الموقعين نجدي واحد، ولا من ملحقات نجد نفسها! وكأن المطلوب مجرد إقرار وقبول حجازيين بمبدأ قيام دولة موحدة، والتخلّي عن الإستقلال النسبي مع وعود بأن يكون لهم دور ما في إدارتها.

ففي الثاني عشر من جمادى الأولى عام 1351هـ الموافق 13 سبتمبر عام 1932، اجتمعت أربع عشرة شخصية حجازية في الطائف (إضافة لفؤاد حمزة المستشار الدرزي للملك، والمستشار الليبي خالد القرقني) هم: صالح شطا، عبد الله الشيبي، محمد شرف رضا، عبد الوهاب نائب الحرم، إبراهيم الفضل، محمد عبد القادر مغيربي، رشيد الناصر، أحمد باناجه، عبد الله الفضل، محمد شرف عدنان، حامد دويحي، حسن باسلامة، محمد صالح نصيف، عبد الوهاب عطار. اجتمع هؤلاء الذين كانوا يشكلون مجلس شورى ووكلاء الحجاز، وأصدروا بياناً جاء فيه بأن إسم (المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها لا يعبر عن الوحدة العنصرية والحكومية والشعبية... ولا يرمز الى الأماني التي تختلج في صدور أبناء هذه الأمة للإتحاد والإئتلاف... ولا يدل على الإرتباط الحقيقي بين شقي المملكة المهيبين ـ المقصود نجد والحجازـ ... فإن المجتمعين يرفعون الى سدة حضرة صاحب الجلالة أمنيتهم الأكيدة في أن يتكرم بإصدار الإرادة السنية بالموافقة على تبديل إسم المملكة الحالي الى إسم يكون أكثر انطباقاً على الحقيقة، وأوضح إشارة الى الأماني المقبلة... وذلك بتحويل إسم المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها الى إسم المملكة العربية السعودية).

وبناء على هذا البيان وافق الملك على ما ذكر، وأصدر في الرياض في 17/5/1351هـ بيانه الذي قال فيه: (بناء على ما رفع من البرقيات من كافة رعايانا! في مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، ونزولاً على رغبة الرأي العام في بلادنا، وحباً في توحيد أجزاء المملكة العربية، أمرنا بما هو آت: المادة الأولى ـ تحول إسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها الى إسم المملكة العربية السعودية ويصبح لقبنا بعد الآن: ملك المملكة العربية السعودية) الخ.

لا شك أن الوحدة لم تكن خياراً بل قراراً من العائلة المالكة، ولربما يكون خيار المواطنين بالأمس كما اليوم مع عدم التعايش، وقد يستطيعون التصدّي لمنطق الحكم، وهو أمرٌ لم يستطيعوه فيما مضى، وذلك باقتناص الفرص التاريخية والظروف الدولية والإقليمية.

في هذه الفترة العصيبة التي تمرّ بها المملكة كدولة ونظام حكم، تتجه الأنظار الى الحجاز، المنطقة الأولى المرشّحة نحو الإنفصالية. فالحكومة السعودية المسكونة بالظنون والهواجس رغم أنها لا تجد ظواهر واضحة تماماً تعبّر عن الرغبة والإندفاع واستثمار المأزق الحالي لصالح قيام (دولة الحجاز)، إلا أنها في الوقت ذاته تدرك حقيقة المشاعر وإمكانيّة تحوّلها عن العائلة المالكة، ومن جهة أخرى يعتقد كبار الأمراء بأن النخبة الحجازية المتعلّمة طوّرت علاقات ووسائل تمكنها من تنفيذ خططها.

ويبقى سؤال مهم.. لماذا لم تطوّر العائلة المالكة وسائل سياسية تمتص بها المشاعر الإنفصالية التي بدأت بالتنامي بشكل خطير ليس في الحجاز فقط بل وفي مناطق أخرى في المملكة شرقاً وشمالاً وجنوباً؟ لماذا لم تراجع سياساتها وتبدأ بخطوات معقولة تقنع شعبها بأن مصالحه ومستقبله مع بقاء الوحدة وليس إلغائها؟

الذي يحفظ المملكة اليوم، ويبعد عنها مخاطر التقسيم:

(1) إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين والمناطق وتوزيع السلطة والمناصب والثروة بصورة أقرب الى روح العدالة.

(2) الإسراع بالإصلاح السياسي، فبدونه يبقى خيار التقسيم الجاذب الوحيد والمنفذ الوحيد لتغيير أوضاع لا تطاق ولا يمكن تحمّلها.

(3) إفساح المجال للخصوصيات المحلية لدى المناطق والقبائل للتعبير عن نفسها ضمن حدود المصلحة الوطنية، والتوقّف فوراً عن سياسة القسر والفرض للأفكار والمعتقدات التي تمارسها الحكومة عبر يدها المذهبية (الوهابية).

بهذه الوسائل تتعزّز الوحدة الداخلية، أما الإصرار على تسويد النجدية والوهابية فلا يترك للمتضررين إلاّ البحث عن خيارات أخرى، وفي أولها خيار التقسيم. وهذا الخيار ليس مستبعداً اليوم ـ كما هو واضح ـ نظراً للمناخ والسياسات الدولية تجاه السعودية، ونظراً لأن الوحدة السعودية لم تكن في يوم ما وحدة متوازنة يعززها تجانس اجتماعي، بل هي الى الفرض أقرب. وأيضاً بسبب أن الكثير من المواطنين يعتقدون بأنهم سيكونون منتفعين من الإنفصال أكثر من البقاء ضمن دولة تحرمهم أبسط حقوقهم السياسية، ولا تقدّم لهم إلاّ الفتات من المنافع الإقتصادية.

فهل تتغير السياسات وتحفظ الدولة؟ أم يجري التشديد على الإستراتيجية الخطأ فتكون الدولة الضحية الأولى التي تفرّخ دولاً في المشرق والمغرب والشمال والجنوب، كما يريد البعض، أو كما يخطط الأميركيون؟.

الجواب موجود لدى العائلة المالكة، وسنتعرف على اتجاهات سياساتها في حال تغيرت خلال الفترة القادمة، حيث تحسم كل الأطراف المحلية والدولية خياراتها. من الواضح أن كثيراً من النخب المناطقية والمذهبية في المملكة تؤمّل الإصلاح، فإذا ما تبيّنت استحالته وأبدت العائلة المالكة مقاومة للضغوط التي تتصاعد يوماً بعد آخر، فإن هذه النخب ستتحول في الأغلب الى القبول بمنطق التقسيم وتمزيق الدولة القائمة.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة