تركي الحمد:
رفض مطالب الإصلاح بعد أزمة الخليج الثانية سبب محنة السعودية اليوم

السعودية معتقلة ومراقبة وتواجه أزمة وجود

مقالة الكاتب والمفكر السعودي الدكتور تركي الحمد في الشرق الاوسط في الثالث من ديسمبر الجاري تضمنت جزئياً على الأقل لغة تبريرية لما اعتبر خروجاً غير مألوف عن النسق المعتاد لأحاديث الامير نايف ضد الأخوان بما يعزز ما ذهب اليه الكاتب حين أراد تحميل الاخوان الازمة التي تعيشها المملكة هذه الايام و(أنها مسؤولة عن عنق الزجاجة الذي تجد السعودية نفسها فيه الآن) وهي أزمة (تفوق في شدتها أكثر الأزمات السابقة التي مرت بها البلاد) حسب الدكتور الحمد. فعبارات كهذه تميل الى تعضيد موقف الامير نايف من جماعة الاخوان.

ولكن ما يقف خلف هذا الموقف هو الأهم. فالدكتور الحمد يستعرض صورة الاوضاع الاقتصادية والسياسية للدولة السعودية، فالوضع الاقتصادي يبدو ضعيفاً والاداء السياسي والاداري يعاني من بطء في الحركة والمرونة (ومن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أصبحت السعودية محط أنظار العالم في كل تفصيل من تفاصيل حياتها). ويصوّر الحمد وضع السعودية حالياً مثل (حالة معتقل مسلطة عليه الأنوار الكاشفة ليلاً نهاراً، بحيث أن ما كان عادياً في السابق لم يعد كذلك اليوم، وما كان سلوكاً طبيعياً في السابق، أصبح له من مختلف التأويلات والتفسيرات الشيء الكثير اليوم).

ويلخص الدكتور الحمد خطورة الازمة التي تعيشها المملكة حالياً بأنها (ستحدد مصير الوضع السعودي برمته، في الداخل والخارج معاً، بشكل يفوق ما حدث في أعقاب أزمات وجودية كبرى سابقة) مثل الصدام بين الملك عبد العزيز وحركة الاخوان السلفية والصدام التاريخي مع التيار القومي في الستينات.

انتاج الدكتور الحمد لسياق فرعي عند وصوله للحديث عن المواجهة بين التيار القومي والملك فيصل يخدم غرضاً محدداً له علاقة بحديث الامير نايف. هذا الغرض يبدأ من فتح الملك فيصل (أبواب السعودية لمعارضي الأنظمة القومية من الاسلامويين، والاخوان المسلمين في مصر والشام تحديداً، ممن استطاعوا في الخاتمة أن يؤثروا في التركيبة التقليدية للوهابية السعودية في علاقتها بالسلطة السياسية، بصفتها الأساس النظري أو الآيديولوجي لشرعية هذه السلطة). ولا نعلم حقيقة كيف تحقق التأثير الاخواني في تركيبة الوهابية السعودية، ولماذا لم يظهر هذا التأثير الا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أي بعد مرور ما يربو على الاربعين عاماً من وصول الاخوان الى المملكة، ولماذا لم يتم الربط بين الاخوان المسلمين وحركة جهيمان عام 1979 حيث لم تسفر التحقيقات عن روابط علنية او سرية للاخوان المسلمين وحركة جهيمان العتيبي.

عودة للسياق الاصلي لسلسلة الازمات السياسية الكبرى التي مرت بها المملكة كانت ازمة الخليج وحرب الخليج الثانية حيث مثّلت الحلقة ما قبل الاخيرة في سلسلة الازمات الا أنها حسب الدكتور الحمد (لم تفرز ما كان متوقعاً منها من إعادة تنظيم الدولة وفقاً للمتغيرات الطارئة، كما في الحالتين الأولى والثانية، الا أنها أدت الى نوع من مأسسة نسبية: مجلس الشورى، أنظمة الحكم والمناطق، تضاف الى تلك المأسسة التي قام بها الملك فيصل). ولكن ثمة شيء يريد الحمد اضافته هنا، أي بخصوص أزمة الخليج الثانية. يقول بأن كثيراً من المعضلات التي تواجهها السعودية اليوم، (يمكن ارجاعها الى عدم الاستجابة المناسبة والمفترضة لمتغيرات أزمة وحرب الخليج الثانية). وهي نقطة تعتبر جوهرية، فهي تبطن نبرة اعتراضية على استجابة هزيلة للحكومة السعودية ازاء الحركة المطلبية العارمة التي شهدتها المملكة منذ الايام الاولى لأزمة الخليج الثانية، هذه الاستجابة المتمثلة في اعلان الانظمة الثلاثة والتي تسببت في احداث حالة احباط عامة تترجمت لاحقاً في سلسلة اضطرابات واعمال عنف وانفجارات لم تتوقف حتى الآن.

حاول الدكتور الحمد استكشاف أبعاد مغفولة او مسكوت عنها في حديث الامير نايف الذي استخرج منه الحمد ثلاث قضايا محورية: قضية السيادة، وقضية اعادة فهم الدين، وقضية تماسك النخبة الحاكمة. ففي القضية الاولى أورد الدكتور الحمد نموذج هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأحد الاجهزة التي تضع سيادة الدولة على المحك ويجري من خلالها اختبار سيادة الدولة، هذه السيادة بما تعني (أنه لا سلطة تعلو سلطة الدولة، ومتى ما اهتزت هذه السيادة لهذا السبب أو ذاك، عنى ذلك اهتزاز كيان الدولة ذاته). ولكن ما علاقة الهيئة بالسيادة؟ يجيب الحمد بأن (الهيئة في السعودية متهمة باتهامات كثيرة) وحين يقول الأمير: (ان الهيئة لا تتمتع بالاستقلال عن الدولة وأنظمتها، فهو يتحدث هنا عن السيادة، التي اذا اصطدم بها أحد، فلا بد أن تكون مواجهته عنيفة من حيث أن الكيان ذاته هو المعرض للخطر في النهاية، وليست القضية مجرد اختلاف في الغاية أو الاتجاه). وبمزيد من الصراحة يقول الحمد: (إن كثيراً من الجماعات والنشاطات والهيئات وصلت في يوم من الأيام الى نقطة تحدي السيادة ذاتها، وكانت الدولة تغض الطرف عن ذلك كثيراً. ولكن، وكما يستوحى من حديث الأمير، لم تعد الأمور تسمح ذلك اليوم، وخاصة أن كيان الدولة هو الذي على المحك بعد أحداث سبتمبر وتداعياتها على السعودية).

القضية الثانية التي وردت في حديث الامير نايف حسب الدكتور الحمد هي قضية اعادة فهم الدين ممثلاً في الوهابية، بوصفها مصدراً أساسياً من مصادر شرعية النظام السعودي. يعتقد الدكتور الحمد بأن الوهابية شهدت تبدلات عميقة في موقفها الفكري حيث نجحت الدولة في تطويعها سياسياً ثم جاءت المتغيرات السياسية (الصراع مع القوميين، الاحتكاك مع فرق سياسية ترفع شعار الاسلام، انتشار التيارات التكفيرية، الثورة الايرانية وطروحاتها الفكرية، الجهاد الأفغاني وأحزابه وغيرها)، لتؤدي الى ما وصفه الدكتور الحمد بـ (تطعيم) الوهابية السياسية بمفاهيم غريبة عليها، (بعضها اخواني المصدر، وبعضها قد يصل حتى الى الخمينية، الموصومة بالكفر عقدياً عند معظم تلك التيارات، مثل مفهوم ولاية الفقيه الذي وجد طريقه الى بعض فرق السلفية من السعوديين، حتى وان لم يُذكر المفهوم بالاسم، وان مورس بالفعل). وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا الرأي يثير جدلاً واسعاً بل ومن شأنه ان يخلق معارضين اكثر من مؤيدين، وهذا يتطلب عودة سريعة الى التراث العقدي والفكري الوهابي كي يتم قراءة الوهابية من مصادرها الاصلية كي نحدد أين الاخواني والخميني والتكفيري والقومي بل والافغاني في ادبيات الوهابية. وفي نظرنا ان الافكار الوهابية التي استعملت في مواجهة الدولة نفسها هي افكار اصيلة تماماً كما وردت في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرهط المتناسل من مدرسته العقدية، وإن خطر تلك الافكار على الاساس الديني النظري للدولة السعودية اذ لم يدرك الا بعد احداث سبتمبر 2001 فإنها استعملت من قبل الاخوان القدامى والجدد. وأن الاعتقاد بأن الاسلام دين ودولة ومصحف وسيف هي ذات المكونات الواردة في كتب الشيخ بن عبد الوهاب .

اما وباء التكفير الذي يزعم الامير نايف بأن عدواه أصابت الوهابية، فإن الدليل عليه يبدو متهافتاً، فالكتابات الوهابية القديمة بما في ذلك كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب تضج بعبارات التكفير، حتى مناظراته مع بعض العلماء من أتباع المذاهب الاسلامية في العراق والشام تضمنت مقولات دفاعية للشيخ بن عبد الوهاب في مسألة تكفيره المسلمين. المفارقة هنا أن الشيخ المرحوم محمد الغزالي وهو الرمز الاخواني المعروف باقامته في المملكة لفترة طويلة صنّف كتباً عديدة يرد فيها على تطرف رموز المدرسة الوهابية كما في كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) و (السنة النبوية بين أهل الفقه واهل الحديث) وغيرها. فتوجيه اللوم الى الاخوان المسلمين فيما يتصل بانتشار ظاهرة التكفير يعتبر تجنياً على الحقيقة، فالتكفير في عصرنا هو انتاج وهابي بامتياز.

اما القول بأن (معظم التيارات الاسلاموية العربية المعاصرة، العنيف منها والمسالم، انما خرجت من عباءة الاخوان المسلمين في بداية تكوينها) فهي كتابة تحت السطر بمعنى أنها قراءة غير منتظمة عن الاخوان والتي تؤدي التزام الكاتب بسياق موضوعي موحد. فخروج تيارات اسلامية عربية عنيفة ومسالمة من عباءة الاخوان هو محاولة فتح السياق الجغرافي الذي نشأت فيه هذه المقولة ليتم استيعاب مناطق اخرى كالسعودية مثلاً. فاعادة نقل الحكم الصادر في مصر الى اجواء قضائية سعودية خالصة لن يؤدي الى انجاح القضية وان تبدلت جغرافيتها. تماماً كالقول بأن الاخوان (أول من سيس، أو لنقل أدلج الاسلام).. ولكن كي تنطبق التهمة على الاخوان وحدهم، فلابد من خلق معنى ضيق للغاية لمعنى التسييس بحيث تستثني الحركات الاسلامية المقاومة للاستعمار، أو التي بنت الدولة من العدم كما فعلت الوهابية، على أنه لم ينته دورها السياسي بنهاية عملية البناء تلك، بل ما جرى كان عملية انهاء للحركة الوهابية على يد ابن سعود. فالنهاية السياسية للوهابية بعد قيام الدولة السعودية لم تكن اختيارية بل كانت قهرية وظلت هذه الحركة تناضل من اجل استعادة مكاسب خسرتها على يد الدولة.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة