كيف ستتعامل العائلة المالكة مع المذكرة الاصلاحية؟

خيارات التهميش والتدرّج والفوريّة

حلقة جديدة من النشاط الاصلاحي قد انعقدت في المملكة، وتنادى دعاة الاصلاح الى بلورة رؤية جديدة متقدمة ومخلصة كما ترجمتها مذكرة الاصلاح المرفوعة الى ولي العهد في الثامن والعشرين من يناير الماضي. إشتملت المذكرة على مقترحات حل لمشكلات البلاد الملحّة الاقتصادية والسياسية والقانونية والفكرية، ولم يغب عن بال الموقعين طبيعة التركيبة السكانية والتكوينات الثقافية والاجتماعية المتنوعة والمتباينة في هذا البلد، فالموقعون على المذكرة هم خير مثال على هذا التنوع.

ما نحاول هنا الحديث عنه ولو بصورة مقتضبة وإجمالية هو قراءة ردود الفعل المحتملة من جانب العائلة المالكة. وأهمية هذه القراءة تنبع من أن العائلة المالكة لم تبد حماساً مقبولاً في الاستجابة للتوجهات الاصلاحية بدرجة مقنّعة، بل في أحيان كثيرة كانت العائلة المالكة عاملاً معيقاً لأي تحوّل سياسي سواء على المستوى الداخلي أو حتى الاقليمي، فقد تأخرت عمليات التحول نحو الديمقراطية في بعض دول الخليج والبحرين كمثال بارز بسبب العامل السعودي الضاغط لجهة كبح عجلة التحول السياسي والسير نحو الانفتاح وتوسعة دائرة المشاركة الشعبية في الحكم.

المذكرة الوطنية التي مازال تعداد المناصرين لها والمؤيدين لمحتوياتها في تزايد مستمر، عبّرت عن صدق اللحظة التاريخية التي إنبثقت فيها، وبالمقارنة مع عرائض سابقة، فإنها ـ المذكرة عكست تطوّر التفكير الاصلاحي لدى الموقعين أولاً والتيار العريض من المناصرين ثانياً.

ثمة تبريرات يلجأ اليها بعض أقطاب العائلة المالكة لتأخير عملية ألإصلاح أو للتعبير عن رفض ضمني لأصل فكرة الاصلاح، وهو كما عبّر عنها مراراً الامير طلال الاصلاحي المزعوم وما هي ـ أي التبريرات الا لسان حال العائلة المالكة. واحدة من تلك التبريرات تقول بأن مجتمعنا غير مهيء للتحول نحو الديمقراطية، وفي واقع الأمر أن المعني بصورة محددة ليس المجتمع بل السلطة وحصرياً العائلة المالكة. ولا يقدّم الامير طلال ولا الأمراء الكبار تفسيراً لهذا الموقف، سوى أن في ذلك إرضاءً للتيار الديني، الذي يرفض بحسب تكوينه الثقافي مبدأ الديمقراطية باعتباره يتعارض مع حاكمية الشرع، بناء على النظرة النمطية الى الديمقراطية بوصفها مشروعاً وأيديولوجية وليس كونها ممارسة وآلية لضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم وطريقة لتحسين أداء السلطة.

وعلى أية حال، فإن الالتصاق بتبرير كهذا لا يعدو كونه سوى قفزاً على الحقائق الاجتماعية والثقافية في هذا البلد ان لم يكن السخرية منها، فشروط التحول نحو الديمقراطية مكتملة، بما في ذلك العامل الدولي الذي ظل مناهضاً لتحول من هذا القبيل خشية خسارة المصالح الحيوية للقوى الكبرى. فالولايات المتحدة هي الأخرى الآن تؤيد الانتقال الى الديمقراطية في السعودية بهدف إفراغ شحنات التطرف وابطال مفعولها عن طريق تشجيع الديمقراطية.

ولي العهد الذي استقبل ممثلين عن الموقّعين على المذكرة الاصلاحية الاخيرة يدرك تماماً جدية وإخلاص أصحابها، وقد عبّر لهم عن ذلك، بل زاد على ذلك بأن أكد لهم جديته في المضي نحو تنفيذ برنامج اصلاحي شامل، واعتبر محاربته للفساد المالي خطوة في طريق الاصلاح الاقتصادي. يقال بأن الأمراء الصقور مثل سلطان ونايف وسلمان مستاؤون من طريقة إدارة عبد الله لموضوع المذكرة الاصلاحية، ويخشون نهاية ملك آل سعود على يده، باعتباره غير مؤهل سياسياً للتعامل مع قضايا حساسة كهذه.

وعلى أية حال، لا يجب التعويل كثيراً على كفاءة الامير عبد الله ومرونته المزعومة، ويتذكر الناشطون سياسياً في هذا البلد طبيعة اللهجة الودودة والماكرة لدى الامير عبد الله في التعامل مع المعارضين. يقول أحدهم بأنه خلال اللقاء الذي جمعه مع الأمير عبد الله بحضور عدد من قادة المعارضة اليسارية فور عودتهم من الخارج بعد وفاة الملك فيصل، خاطبهم الامير عبد الله بلغة لينينية متقدمة، بل زايد عليهم في ذلك قائلاً: إنني متهم في الولايات المتحدة كوني شيوعياً. وهذه اللغة تكررت في لقاء الأمير عبد الله في مناسبات مماثلة، وأخيراً مع الموقعين على المذكرة الاصلاحية، فقد إعتبر ما أورده الموقعون من مطالب ترجمة حرفية لأجندته الاصلاحية تماماً كما الحال مع مبادرة الأمير عبد الله الى القمة العربية في بيروت قبل أكثر من عام والتي كشف عنها الصحافي الاميركي وصاحب المقالة اليومية في جريدة نيويورك تايمز تومس فريدمان.

حاشية الأمير عبد الله قادرة كما هو على تبرير أي تباطوء أو تلكؤ في تنفيذ المذكرة الاصلاحية فلعبة التلاوم (Blame Game) تقتضي أن يرمي كل طرف الكرة في ملعب الآخر، بحيث يخلي مسئوليته من أي نتائج وخيمة ناجمة عن فشل أي طرف في إتخاذ موقف صحيح حيال قضية في الأصل صحيحة. وكيما لا يحمّل أي طرف مسئولية خسارة جزء من السلطة لصالح من هم خارجها، فإن الأمير عبد الله وحاشيته قادرون على مخاطبة دعاة الاصلاح بلغة المشفق تارة والحريص على تحقيق تطلعات الشعب وآمالها تارة ثانية، وثالثة بلغة العاجز بسبب وجود أطراف معيقة للاصلاح. قد توحي لغة العجز عن إختلال ميزان القوى والصراع على السلطة، ولكن قد توحي أيضاً بأن ليس هناك من يملك زمام المبادرة على أساس أن تقاسم الحصص تقتضي أن لا يكون الأمير عبد الله الطرف الحاسم في صناعة القرار السياسي.

هناك، على أية حال، تباين وسط العائلة المالكة في المواقف من المطالب الشعبية وفي طرق التعامل مع الاصلاحيين والأدوات المستعملة معهم، وكل حسب طريقته ومن موقعه.

الأمير نايف، وزير الداخلية، له طريقة خاصة وفريدة في التعامل مع الاصلاحيين، وتكفي تصريحاته الاخيرة حين سئل عن المعارضة في الخارج وموقفها من رجال الأمن، فقد تنزّل الى مستوى شديد الاخلال بمسؤول كبير في دولة، حين خاطب المعارضة بلغة التهديد والوعيد وكشف عن الطبيعة القمعية لأجهزة الأمن وتحدى المعارضة بأن تعود الى الداخل كي تجرّب قوة الاجهزة الامنية، وفي ذلك هبوط لا يجوز لوزير دولة ان يصل اليه. ولعل الأمير نايف أراد ايصال رسالة انشطارية الى المصنّفين في خانة المعارضة بما في ذلك دعاة الاصلاح، سيما في ظل تصدع الجبهة الأمنية في هذا البلد نتيجة تواصل الاحداث الامنية، وهكذا التهديدات التي تحملها نتائج أي حرب محتملة في المنطقة.

لا يتحدث أي من أعضاء الجناح السديري عن الاصلاح السياسي لا بالسلب ولا بالايجاب، وإن كان صمتهم يعتبر مؤشراً سلبياً بحسب التجارب السابقة، والسلوك العام لهذا الجناح. وهناك مخاوف ـ دائماً ـ من تدخل أحدهم أو بعضهم لإخماد جذوة الإصلاح ومقارعة التوجهات الاصلاحية في هذا البلد. ويبرز على الدوام دور الأمير نايف وزير الداخلية والأمير سلمان، أمير الرياض الذين لعبا دوراً قامعاً لرجال الاصلاح، سجناً وتهديداً بالفصل من الوظائف وتشهيراً بالسمعة والقائمة المألوفة من مسلسل المضايقات.

بالمقارنة مع مجريات النشاط الاصلاحي خلال أزمة الخليج الثانية، تبدو الاستجابة الرسمية حتى الآن معقولة، لا أقل كما تعكسها الصحافة المحلية حيث بات الحديث عن الاصلاح السياسي والمذكرة مسموحاً به أو لا أقل غير مدرج في قائمة ''اللامفكر فيه''، وهي قائمة مفتوحة في بلد تكاد تنعدم فيه حرية الصحافة والرأي والتعبير. نكرر، أن مجرد القبول بالحديث عن الاصلاح السياسي يعتبر مؤشراً إيجابياً، ولكن يخشى أن يكون هامش الحرية المسموح به الآن ذا صلة بأوضاع سياسية خارجية وإقليمية، وتحديداً بظروف أزمة الولايات المتحدة مع العراق واقتراب ساعة الصفر في حرب باتت وشيكة في المنطقة والمخاطر الناجمة عنها، كما تحدث عنها مقرّبون من الإدارة الإميركية، والتي ستفضي الى تغيير صورة المنطقة. وتنبهنا أوضاع ما بعد أزمة الخليج الثانية الى أن الحكومة السعودية إستطاعت بعد زوال الخطر المباشر للتفرغ لخصومها المحليين وإسقاط مطالبهم وفرض أسلوبها وجرعة التغيير التي قررتها.

ومهما يكن، فإن قدرة العائلة على المناورة وإبطاء مفعول النشاط الاصلاحي يتوقف على متغيرين: الأول قدرة الاصلاحيين على السير طويلاً مهما كلف الأمر نحو تحقيق أهداف التغيير، أي بمعنى آخر اعتماد سياسة النفس الطويل مع السلطة، وتكثيف الأنشطة الإصلاحية وتنظيمها، ولذلك تبدو مخاوف وتنبيهات الكاتب والقانوني عبد الرحمن اللاحم في جريدة (الوطن) بتاريخ 4/2/2003 للاصلاحيين مهمة حيث ''أن بعضهم ومع تقادم الزمن أنس بالسكوت والاحتساب بالسر والدعاء بظهر الغيب ووجد آخرون في فضاء الإنترنت سلوتهم وآخرون طلقوا القضية برمتها، وأصبحت جهودهم منصبة على شرعنة الأوضاع السائدة وخلق التبريرات الفقهية لها''. وفي حقيقة الأمر، أن هذا ما تراهن عليه العائلة المالكة، حيث يتآكل الاصلاحيون وينسحب بعضهم من ميدان المواجهة ويقرر آخرون بأن لا أمل في الاصلاح، بانتظار قوة جبّارة تتدخل لتحقيق ذلك.

وثانياً:طبيعة الظروف السياسية التي ستنشأ عقب الحرب على العراق. ويجب التذكير دائماً بأن ثمة قوى وتدابير كابحة للإصلاح تعمل بدون توقف داخل العائلة المالكة على المستويين الداخلي والخارجي، فهناك بلا شك قوى محافظة يسعى بعض أمراء العائلة المالكة لاستمالتها من أجل مواجهة تيار الاصلاح، وهناك أيضاً أطراف دولية وربما أميركية يهمها الإبقاء على إستمرار تدفق النفط بوتائر منتظمة، لا ترغب أن يكون تشجيعها للإصلاح السياسي في السعودية على حساب النفط. الدبلوماسيون السعوديون الذين وظّفوا مجهوداً مالياً وسياسياً من أجل إقناع الدوائر السياسية في الولايات المتحدة والى حد ما في أوروبا، فشلوا هذه المرة في إستعمال اللهجة التقليدية في ''تهويل الخطر الديمقراطي على المملكة''، بناء على عقيدة مزوّرة تقول بأن الديمقراطية ستمّهد الطريق أمام المتطرفين والاصوليين للانقضاض على السلطة. فقد تبين فيما بعد أن أعشاش التطرف والاصولية تم بناؤها وصيانتها من قبل السلطة نفسها، ومنها انطلقت طوابير الانتحاريين الى نيويورك وواشنطن كما انطلقت في أماكن عديدة من العالم.

الآن وقد رفعت المذكّرة وأوصل دعاة الاصلاح كلمتهم، يبقى السؤال هنا: كيف سيتم تطبيق بنود المذكرة؟. وعليه تبدو محاولة الكاتب والدكتور عبد الله الفوزان توضيح '' تفاصيل الكيفية التي سيكون عليها النهج الإصلاحي المرتقب وبرامجه الزمنية'' على درجة كبيرة من الأهمية.

إن انطلاقة العملية الإصلاحية تبدأ أولاً بتغيير أساليب تشكيل المجالس المختلفة وفلسفة مقاصدها كما يقول الفوزان، وهذا صحيح، لأن طريقة التأسيس كفيلة بتغيير الوظيفة المنوطة بهذه المجالس. أي، بكلمات أخرى، أن تأسيس مجلس الشورى عن طريق تعيين أعضائه أي بالغاء ارادة الناس واختيارهم سيحيل وظيفته الى عبارة عن تلبية لارادة أخرى غير ارادة الناس بل ارادة الحاكم الذي عيّن اعضاءه. ولذلك فإن تحقيق مبدأ المشاركة السياسية بصورة صحيحة ''يقتضي تغيير أسلوب تشكيل تلك المجالس من أسلوب التعيين إلى أسلوب الانتخاب''.

أسئلة مشروعة حول وضع الاصلاح حيز التنفيذ

ثمة قلق يساور عدداً كبيراً من الاصلاحيين، مفاده أن تأخذ العائلة المالكة بطريقة التدرّج في عملية الانتخاب بحيث تبدأ في حدود ضيقة مثل مجالس الجامعات او البلديات ومن ثم الانتقال الى مجالس المناطق وصولاً الى مجلس الشورى. ولكن هذه الطريقة ـ بحسب أسلوب العائلة المالكة ذات الطبيعة المترددة والبطيئة والمسكونة بالشك ـ تفتح المجال للعائلة المالكة في اللعب على عامل الزمن الى حد مخالفة قوانين التاريخ وحركته، بحيث تضع جدولاً زمنياً مفتوحاً لعملية الانتقال من مستوى الى مستوى آخر ومن دائرة الى أخرى.

ثم لماذا يبدأ التدرج في الاصلاح من الدوائر الصغيرة والمستويات الدنيا، رغم أن الخلل المراد إصلاحه ليس في هذه الدوائر والمستويات بل الخلل كامن في الدوائر العليا، وأن إصلاحها كفيل بتحقق الاصلاح أتوماتيكياً وبصورة تلقائية في الدوائر الدنيا. في حقيقة الأمر، إن القول بالتدرج في الاصلاح وفي حدود ضيقة يلفت الانتباه الى رغبة العائلة المالكة، وليس، بالضرورة، الى شروط ومتطلبات التحول وتطلعات الناس.

ولكن، أولاً وقبل أي شيء آخر، لماذا التدرج؟ هل هو تلبية لرغبة العائلة المالكة أم مراعاة للظروف الداخلية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للسكان في هذا البلد؟ فلكل واحد منهما جواب وطريقة في الدراسة.

ولماذا لا يتم الاصلاح بصورة دفعية ولكن وفق برنامج معدّ بإتقان، وخير مثال البحرين، فالتحول نحوالديمقراطية في هذا البلد لم يستغرق تلك المدة الزمنية الطويلة المتوهمة، بل كانت قيادة وشعب البحرين ناضجين الى مستوى استيعاب شروط التحول وفرصه ومشاكله أيضاً. هناك بطبيعة الحال من يعترض على ذلك بالقول بأن البحرين دولة صغيرة ولا تحتاج لاستعدادات وامكانيات هائلة من أجل الانتقال الى الديمقراطية، والجواب على ذلك بسيط جداً فالقضية لا علاقة لها بالأحجام بل بالاستعدادات النفسية والفكرية لدى الحاكم والمحكوم للدخول في مرحلة الاصلاح. وثانياً إن ثمة شروطاً علمية للتغيير السياسي يجب مراعاتها وهي بلا شك متوفرة في المملكة، منها، على سبيل المثال، نسبة التعليم العالية، ومستوى العمران والتصنيع ووجود طبقة وسطى واسعة قادرة على هضم منتجات التحديث وإعادة استعمالها لتحقيق حاجاتها المادية والمعنوية، اضافة الى وجود نخب فكرية وسياسية قادرة على توجيه الرأي العام، وهكذا مؤسسات أهلية وان في أشكال بدائية. هذه الشروط وغيرها كفيلة بتوفير مبررات التحول نحو الديمقراطية بطريقة سلمية.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة