أميركا السيئة جداً في حربها على العراق وبعدها

إن أول إنطباع أنتجته عاصفة الطائرات في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 أنها مثّلت عملاً بحجم حماقة اميركا، وهو انطباع تبين فيما بعد أن ثمة ميولاً متنامية داخل الولايات المتحدة بل وداخل الادارة الاميركية نفسها تنزع الى ارجاع ما جرى في نيويورك وواشنطن الى السياسة الخارجية الاميركية التي ظلت تعمل وفق توجيه ''المصلحة القومية العليا'' للولايات المتحدة بمعزل عن مصالح شعوب عديدة في العالم كانت تشهد تحولات ثقافية وسياسية وحضارية في العالم لعقود من الزمن، وكان فيها منطق التفوق الاميركي والمصلحة القومية نشطاً، وكان هذا المنطق وراء نشوء ظواهر متطرفة عديدة في العالم، وهو المنطق الذي فاجأ الاميركيين يوم الحادي عشر من سبتمبر وأثار السؤال: لماذا بتنا مكروهين؟

كانت احداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة منبه كارثي لما يمكن ان ينتجه منطق السياسة الخارجية الاميركية الذي يتجاهل مصالح الشعوب وحقها في التمتع بنظام سواسي عالمي يكفل لها الافادة من خيرات بلدانها، ويضمن لها فرص عيش افضل لا تسرقها اميركا بقيودها وقروضها وسياساتها الاستتباعية وسلطانها الجبروتي على العالم.

وقيل لنا آنذاك بأن المطبخ السياسي الاميركي بدأ تحضير خلطة سرية لسياسة خارجية متوازنة، وبدأنا نسمع عن دولة فلسطينية مستقلة وشيكة، وتشجيع للديمقراطية في بلدان حليفة للولايات المتحدة في الشرق الاوسط، واسقاط الديون ومشاريع تنموية في دول فقيرة وبرامج اعانات سخية لشعوب مسحوقة. وفوجئنا بأن هذه التصريحات تمثل العناصر الاساسية في بناء التحالف الدولي لصالح الولايات المتحدة ضد افغانستان، ولحظنا بأن ارتداداً سريعاً الى الخطاب الاميركي المتعالي، او منطق الشرطي الاميركي الحاكم بأمره بدأ يعلن عن نفسه منذ بدأت مؤشرات انكسار حكومة طالبان في الثالث عشر من نوفمبر عام 2001، حيث بدأ عقل المنتصر يوجّه الأحداث بطريقة أشد استخفافاً بالآخر مما كانت عليه في بدايات الازمة حين ذرف الرئيس الاميركي بوش دموع الانكسار في مكتبه البيضاوي.

هنا بدأ العقاب جماعياً يطال الشعوب والحكومات بالعصا الاميركية وباتت اميركا لا تكترث بما يقال عنها، فهي المنتصر، وهي وحدها القادرة على فرض منطقها، فليس يعنيها ما يقال عن انحيازها الكامل للحكومة الاسرائيلية أو حتى ان توصف بأنها تمثل الاخيرة في مجلس الامن لاستعمال سلاح الفيتو لتخريب أي اجماعات دولية ضد سلوكها الدموي مع الاطفال والنساء والشيوخ في الاراضي الفلسطينية المحتلة.

وهكذا عادت الحماقة الاميركية الى انتاج نفسها لتهيء ظروفاً مماثلة لخلق حماقة مضادة، وقرأنا لتوماس فريدمان صاحب العمود اليومي في الجريدة الاكثر اميركرائيلية ينصح الحكومات العربية بأنه اذا كان على اميركا ان تتكفل بالقضاء على ابن لادن، فعلى القادة العرب القضاء على الظاهرة ''البنلادنية'' ونسي فريدمان أن الشخص والظاهرة هما صناعة اميركية إما ضرورة او سلوكاً. فنظام لا يعيش الا على صناعة العدو ليصنع انتصاراً عليه وهزيمة لخصومه بإسمه يصبح إبن دلان ضرورة. كما أن نظاما دولياً بهذا الجبروت والبشاعة في انحيازه لقوة الشر الشاذة والمتمردة على قيم الحضارة في الشرق الاوسط، واصراره على احالة العالم الى مشتل اميركي أو منجم ذهب مباح يخلق في داخله نقيضه التاريخي.

اميركا بعد الحادي عشر من سبتمبر هي بلا شك أسوأ منها قبل هذا التاريخ، وتلويحها بتكرار التجربة الافغانية في العراق ومناطق اخرى تجربة تمثل تعويضاً نفسياً للولايات المتحدة ليس من احداث سبتمبر فحسب بل ومن فيتنام. أغرى الانتصار الاميركي الهوليوودي في افغانستان بتكراره في مناطق اخرى سواء في العراق او ايران أو حتى في مناطق اخرى من خلال عمليات خاطفة ولكن هل ستضمن اميركا بعد ذلك مصالحها خارج الحدود ومن ثم داخلها واخيراً تفوقها فالجسم الكبير يسهل التصويب عليه.

وها نحن نشهد استنفاراً عسكرياً اميركياً استعداداً لخوض معركة أخرى بأدلّة ضعيفة. في حقيقة الأمر أن الأدلة المفبركة أميركياً لإدانة العراق حتى الآن (بما في ذلك أدلة كولن باول التي قدّمها الى مجلس الأمن في بدايات فبراير الماضي) لا تعدو سوى ''لعبة ساخرة'' لم يكن بالامكان تمريرها بسهولة، فقد تراجع المكر السياسي الاميركي الى مستويات قريبة من أسهم الشركات الكبرى، وأن إكراه العالم بأسره على استمراء الخداع الهابط هذا يجعل من الحرب نفسها بدون غطاء شرعي وإن خضع مجلس الأمن الدولي للضغط وأصدر قرار بجواز استعمال القوة ضد العراق بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل فيه.

وحتى لا تنسينا تفاصيل وسحب الحرب المقتربة بوتيرة متسارعة الى سماء الخليج، فإن قرار الحرب على العراق يمثل حلقة منفصلة عن قصة أسلحة الدمار الشامل والقضاء على بؤر الارهاب في العالم، ولكن هو النفط يا سيدي من يحرّك صانعي القرار الاميركي لاصدار قرار الحرب، وهو القرار الذي سيعاد استعماله في مناطق أخرى من الخليج بنفس المبررات، بل هناك مبررات في بلادنا ما يجعل التدخل بعد سقوط نظام الحكم في العراق سهلاً، فالهشاشة التي تعاني منها أنظمة الخليج كفيلة بأن تغري الغول الاميركي بالتدخل رجاء النفط والسلام على الطريقة الاسرائيلية.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة