الدور الإقليمي المستقبلي للمملكة بعد الحرب على العراق

من منظور المعادلة السياسية الدولية في فترة الحرب الباردة، كان العالم منقسماً بين أصدقاء الولايات المتحدة وأصدقاء الإتحاد السوفيتي. ومع تفكك الأخير عام 1989 وقع أصدقاؤه في حالة فوضى عارمة، أما أصدقاء الولايات المتحدة فوجدوا أنفسهم أمام معطيات وشروط جديدة في التحالف. وكانت السعودية صديقاً حميماً للولايات المتحدة وخصماً شرساً لخصومها بدءا من الاتحاد السوفيتي وانتهاء بأصدقائه في الشرق الأوسط، فقد ضخّت السعودية كميات كبيرة من المال في حملات دعائية وعسكرية ضد أصدقاء المعسكر الشرقي في أرجاء المعمورة. وعلى أية حال، فإن هذه المعادلة تبدّلت بصورة دراماتيكية لصالح معسكر الولايات المتحدة التي بدأت تدشّن نظاماً دولياً جديداً وتعيد صياغة شبكة تحالفاتها أيضاً.

السعودية كحليف إستراتيجي للولايات المتحدة لعبت بلا شك دوراً محورياً في النظام الاقليمي القديم في ظل القطبية الثنائية، وساهمت بشكل فعّال في محاصرة التمدد السوفيتي داخل الشرق الأوسط. هذا الدور كان بلا شك يمثّل جزءا أسياسياً من الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وفي مواجهة قوى التحرر الوطني، وفي القضايا العربية المصيرية.

بيد أن هذا الدور كان لصيقاً بظروف الحرب الباردة، وأن التطورات السياسية خلال السنتين الماضيتين وتحديداً منذ الحادي عشر من سبتمبر وأخيراً إقتراب ساعة الصفر في حرب الولايات المتحدة على العراق، هزّت بعنف أسس التحالف الاميركي السعودي وتالياً نهاية الدور الذي يمكن للسعودية أن تلعبه على المستوىالاقليمي.

ثمة توقعات حيال الدور الاقليمي الذي يمكن للسعودية أن تلعبه في المرحلة القادمة. وعلى أية حال، ثمة إتجاهان في تحليل هذا الدور الاقليمي المستقبلي في فترة ما بعد الحرب على العراق يستحقان التأمل.

الأول: الدور البديل

يعتقد عدد من المناصرين للسياسة السعودية بأن ثمة التزاماً مبدئياً يفرض على القيادة السعودية تحمل مسؤولية ما تجاه القضايا العربية، ويسحب هذا الإلتزام على موقفها من الاتحاد السوفيتي. فلم يكن هذا الالتزام ـ في نظر هؤلاء ـ إقتفاءً لاملاءات نظام القطبية الثنائية والصراع الدولي بين الغرب والشرق أو بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. ففي نظرهم أن موقف المملكة كان مبدئياً صرفاً وهو رفض الالحاد الشيوعي والتصدي له. وهذا الالتزام يتمثل في مواقف السعودية الثابتة من قضايا الأمة العربية، وهو إلتزام يخترق قوانين اللعبة الدولية ونظام القطبية الثنائية.

ويورد هذا الفريق مثال الحرب العراقية الايرانية عام 1980 حيث تكفلت السعودية بحصة عالية في تغطية النفقات العسكرية العراقية التزاماً منها المبدئي تجاه القضايا العربية، ورغم النهاية غير المحسومة للحرب والتطورات اللاحقة التي رهنت السعودية لوضع لم تكن تقدّره بصورة صحيحة لم تحل تلك دون إستعدادها لتقديم مساعدات سخية للعراق حتى بعد الحرب. وهكذا فالعراق المحسوب على المعسكر الشرقي، دخل ضمن دائرة الالتزامات المبدئية للسعودية.

وجاء الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس عام 1991 كنتيجة لتنصل الحكومة الكويتية من التزاماتها المالية لعراق ما بعد الحرب مع ايران، وأملت على السعودية لعب دور آخر من اجل اطفاء بؤر التوتر. ولكن الظروف جاءت خلافاً للرغبة السعودية، حيث فقدت فيها الأخيرة القدرة على المناورة السياسية إقليمياً ودولياً، فالجهود التي بذلتها للحيلولة دون اندلاع حرب الخليج الثانية قد فشلت بسبب النزوع الأميركي العنيد نحو الحرب مهما كلف الأمر، وكانت النتائج وخيمة على المنطقة. ولكن ورغم أن دول الخليج ربطت نفسها فور حرب تحرير الكويت بسلسلة إتفاقيات دفاعية وأمنية مع الولايات المتحدة أحبطت معها النفوذ السياسي للمملكة على دول المجلس، وبقيت السعودية في مواجهة موجة نقد واسعة النطاق بسبب سماحها للقوات الاميركية بالتواجد في الأراضي المقدسة، الا أن السعودية ظلت محافظة على دورها كقوة إقليمية ذات تأثير سياسي واقتصادي في النظامين العربي والاقليمي.

الثاني: الدور البراغماتي

على الضد من الاتجاه السابق، فإن ثمة اتجاهاً تحليلياً يرى بأن النظام الدولي لا أخلاقي ويقوم أساساً ومطلقاً على المصالح المتبادلة والدائمة ليس إلا، فهذا التحالف قابل للاستمرار فيما لو ظلت خطوط المصالح متوازية أو متوافقة بين واشنطن والرياض، كما أن تاريخ الصداقة والتحالف بينهما قابل كيما يتحول الى خصومة فيما لو تصادمت المصالح بينهما، بحسب ما أظهرته الأحداث السياسية خلال السنوات الاخيرة.

فمع انهدام البرجين في الحادي عشر من سبتمبر، مثّلت السعودية مركز الجاذبية في نظرية ''صدام الحضارات'' لصموئيل هنتجتون، وتحولت الى القوة المهدّدة للمصالح الأميركية وإلى متصادم حضارياً معها. فإيران المحاصرة ضمن سياسة الاحتواء الاميركي لم تكن قادرة على تهديد المصالح الاميركية، فضلاً عن أن أدبياتها الراديكالية لم تكن توحي بما يمكن وصفه بالتشجيع على إستئصال ديني للمسيحيين أو اليهود، بخلاف المدوّنات الوهابية التي قدّمت أدلة إدانة واضحة على عدائها السافر لكل من هم خارج دائرة إنتمائها المذهبي والديني، بل والحث على استعمال القوة السافرة ضدهم.

وإنعكاس هذا الانقلاب في التحالف الاميركي السعودي بعد هجمات سبتمبر كان على صورة السعودية كدولة وحليف ومركز ديني، نتج عنه خضوع المستودع الديني الرسمي في السعودية للرقابة الدولية عن طريق وسائل إعلام عالمية ومراقبين محايدين وباحثين أكاديميين. وأدى ذلك الى إضعاف مكانة السعودية على صعيد السياسة العالمية، فالسعودية لم تعد تملك الوزن السياسي السابق في المسائل الشرق أوسطية والاسلامية. فالمراعاة التي كانت تجعل الولايات المتحدة في السابق حساب الرؤية السياسية السعودية ضمن تصوراتها الاستراتيجية العامة في الشرق الأوسط لم تعد موجودة، فالمسؤولون في الإدارة الأميركية لا يترددون في القول بأن لهم قائمة مصالح ليست بالضرورة تلتقي مع القائمة السعودية، وقد تصل القائمتان في يوم ما الى حافة التصادم.

السؤال هنا: ماذا عن الدور الاقليمي للسعودية بعد الحرب، أو بصورة أدق كيف ستنظر الدول الإقليمية الى السعودية ومكانتها بعد الحرب؟.

يجب القول ابتداءً بأن ثمة معطيات ضرورية يجب الإشارة اليها للاجابة عن هذا السؤال:

أولاً: أن مكانة المملكة وقدرتها في التأثير المعنوي والسياسي على جيرانها ناشىء عن ثرائها فحسب، فهي لَم تكن تسعى يوماً كيما تكون قوة عسكرية ضاربة، بالرغم من الإغراءات التي وفّرتها سياسات الحرب الباردة، والأموال الطائلة التي حصلت عليها من النفط يمكّنها من بناء جيش مقتدر وقوي ويتمتع بقدرات قتالية متميزة، يضاف اليه ميولها للدخول أو الإستعداد لخوض معارك غير معلنة مع جيرانها. فبقاؤها خارج الصراعات العسكرية التقليدية والمعلنة لم يفسّره سوى ضعفها في المواجهة وليس رغبتها في النأي عن الصراع، ولذلك إقتصر دورها على التدخل كمموّل لحروب الآخرين وصراعاتهم لحماية عرشها.

ثانياً: أن مرونة السعودية في التعامل مع المتغيرات السياسية بما في ذلك السلام مع اسرائيل قد تتطلب إجراء تعديلات جوهرية في إستراتيجيّتها، بحسب ما تقتضيه المصالح المتبادلة الدور البراغماتي المطلوب. بكلمات أخرى أن لدى السعودية القابلية لأن تنتقل الى مؤسسة حديثة قادرة على مواجهة مختلف الإحتمالات. ولذلك هناك من يميل الى الاعتقاد بأن السعودية ستكون المرشحة الإقليمية الوحيدة للمشاركة في ولادة المفهوم الجديد للشرق الأوسط، من خلال لعب دور حاسم في عدة ملفات مركزية:

ـ عملية السلام في الشرق الأوسط

ـ المساهمة في تمويل مشاريع الاعمار وتقديم المساعدات الانسانية للشعب العراقي بعد الحرب

ـ التعايش مع مستجدات المنطقة

ـ الاستجابة للمتطلبات الأميركية بخصوص مسألة النفط

ـ المشاركة جنباً الى جنب الولايات المتحدة في تسوية مشكلاتها في المنطقة سواء مع إيران أو شبكة القاعدة أو الجماعات الاصولية.

ويمثل الصراع العربي الإسرائيلي ملفاً رئيسياً يجب حسمه أميركياً وبأي طريقة ممكنة كمدخل أساسي لترتيب أوضاع المنطقة. ويكتمل الحل الأميركي بقبول الدول العربية الرئيسية بوجه خاص إسرائيل كشريك أساسي في نظام الشرق الأوسط الجديد بِما يؤمّن المصالح الأميركية في المنطقة تأميناً كاملاً بعيداً عن المتغيّرات العالمية المحتملة، وأن مبادرة الأمير عبد الله في قمة بيروت تمثل رسالة سعودية شبه واضحة للادارة الاميركية تعرب فيها عن إستعدادها للذهاب بعيداً من أجل تسوية النزاع العربي الاسرائيلي بقبول عملية دمج إسرائيل في جسد الشرق الاوسط.

ولاشك أن مستقبل الشرق الأوسط مرتبط بأهميته الإقتصادية فإن هذا الربط يقتضي تصفية بؤر الصراع العسكري فيه. وهذا قد يعطي للسعودية موقع الصدارة في قيادة المنطقة، ويتعزّز هذا الموقع باستخدام السعودية إمكانياتها المالية من أجل تسوية المشكلات الاقتصادية في المنطقة.

وبخلاف هذا الاتجاه التحليلي فإن ثمة رأياً آخر يميل الى نزع المبادرة من اليد السعودية إذ لن تكون الولايات المتحدة بحاجة الى مشاركة السعودية في أية ترتيبات تقوم بها في المستقبل. فالإدارة الاميركية لن تكون بحاجة للسعودية ولا تريد أن تكون رهينة بيد هذا البلد، فالعراق قابل في جيوسياسية مختلفة أن يشكل البديل النفطي والسياسي، وقابل لأن يتحول الى ورقة ضغط بيد الأميركيين على السعوديين، بحيث يمكن دفع الرياض إلى المزيد من التعاون والخضوع في كافة المجالات وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، وكذلك إتباع السياسة التي ترغبها واشنطن في داخل الأوبك. فبتشجيع واشنطن للإنتاج المنافس بكثرة تقلل من إعتمادها الكبير على النفط السعودي فنفط الكويت بيدها ولو أضيف إليه نفط العراق يمكنها أن تباشر في إعادة توزيع الأوراق بحرية ودون خوف من النقص في الطاقة. هذا لايعني أن واشنطن تريد خنق الأوبك في الوقت الحاضر لأنها بحاجة إليها. فبدون هذه المنظمة الدولية سينخفض سعر النفط الخام إلى 8 دولار للبرميل الواحد، ولذلك فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى جهاز يتحكم بأسعار النفط ويضبطها عالمياً فلو إنخفض سعر النفط إلى أدنى مستوى متوقع له أي 8 دولار ستفقد الابار النفطية مردوديتها وستصبح واشنطن معتمدة كلياً على النفط المستورد بنسبة 75%، لذلك فإن واشنطن لاتنوي تدمير الأوبك بل السيطرة عليها، من خلال السيطرة على أهم الأعضاء فيها والعراق واحد منهم إلى جانب السعودية والإمارات والكويت. وستسعى الولايات المتحدة الأمريكية حتماً في وقت لاحق وضمن سيناريو طويل الأمد إلى السيطرة التامة على النفط الإيراني بطريقة من الطرق سواء بالقوة أو عن طريق الديبلوماسية.

ولابد من إلفات الانتباه الى أن السيطرة الأمريكية على النفط العراقي تتجاوز بكثير حدود الوصاية والرقابة الاقتصادية، فواشنطن لاتريد فقط الهيمنة على العراق اقتصادياً فحسب بل تريد أن تصبح قائدة ومسيّرة للمنطقة برمتها ووضع الأسس الجيوـ استراتيجية للتحكم بالمنطقة والهيمنة على المناطق المحيطة بالعراق كإيران وسورية والعربية السعودية والخليج وتعزيز موقع إسرائيل ودورها الاستراتيجي في المنطقة، وسيظهر مثلث استراتيجي جديد لخدمة المخططات الأمريكية تتكون أضلاعه من تركيا في الشمال وإسرائيل في الغراب والعراق الأمريكي في الشرق وإخراج العربية السعودية من المعادلة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة أي رفع الحماية الدولية عنها وتركها فريسة للتغيرات الداخلية المحتملة وخلق البلبلة والإضطرابات لتوفير الذريعة القانونية لواشنطن ـ فميا لو أرادت ـ للتدخل المباشر للحفاظ على منابع النفط السعودية الحيوية لها وتنصيب نظام أكثر طواعية لها من العائلة السعودية الحاكمة اليوم.

إن زمن العلاقات المتميزة والثقة المطلقة بين الحليفين السابقين، قد ولّى، وهذا ما يجعل مكانة السعودية إقليمياً عرضة للاهتزاز الشديد، فستفتح ظروف ما بعد الحرب الخيارات أمام الدول الاقليمية كيما تدخل في تحالفات جديدة مع الولايات المتحدة واسرائيل كما حدث بعد حرب الخليج الثانية حيث إرتبط عضوان في مجلس التعاون الخليجي وهما قطر وعمان بروابط دبلوماسية وتجارية مع اسرائيل، دون حاجة للرجوع للمجلس أو التشاور مع أعضائه.

الخارطة السياسية للمنطقة لن تكون كما هي عليه الآن، وأن مراكز الثقل الاقليمي ستشهد انتقالاً من نوع ما، وأن العائلة الخليجية التي يجعمها مجلس التعاون ستدخل في صيغ جديدة من التحالفات السياسية تمليها أوضاع ما بعد الحرب، وبعضها قد أعدّ سلفاً وهناك أحاديث حول توسيع إطار عضوية مجلس التعاون وربما وظيفته أيضاً بحيث يستوعب بداخلها عراق الغد واليمن وهذا يعني تخفيضاً لمكانة السعودية كأخ كبير مهيمن.وهكذا فإن أي دور يمكن للسعودية أن تلعبه في المرحلة القادمة، لا بد أن يأتي ضمن صيغة جديدة من التحالفات الدولية ونظام مصالح مختلف، وفي كل الأحوال لن تكون السعودية أثيرة لدى الولايات المتحدة تبعاً للتبدلات الدراماتيكية المتوقعة في الخارطة السياسية الدولية.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة