السعودية وخارطة الوضع الإقليمي بعد الحرب على العراق

يشهد الشرق الأوسط حالياً ترتيبات جديدة تتجه الى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية التي انتظمت في أنحاء أخرى من العالم، سواء في أوروبا أو آسيا الوسطى، استناداً على المصالح المتقاطعة بين السياسة والاقتصاد لفائدة قوى كبرى نجحت في الاطاحة بخصومها التقليديين وعكفت على نحو عاجل من أجل ترسيخ قواعد لعبة جديدة، يراد لها أن تحكم مراحل قادمة تحقق فيها هذه القوى مصالح جديدة أيضاً، وكان لا بدّ أن يكون للجغرافيا أهمية خاصة لدى صنّاع القرار والاستراتيجيين الاميركيين من أجل تشكيل مصالح المستقبل، وهذا بدوره يتطلب صياغة خطط لاعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم (من أواسط آسيا الى أمريكا الجنوبية، الى بحر قزوين عبر المسألة الافغانية، واخيراً العراق ومنطقة الخليج).

السلوك السياسي للعائلة المالكة حيال أي تغييرات جيوسياسية مرتقبة في المنطقة سيحدده قدرة العائلة المالكة على الاستجابة لشروط المرحلة القادمة، فالولايات المتحدة لها اعتبارات جغرافية واقتصادية وسياسية في علاقاتها مع القوى الإقليمية. إن معادلة الكبار والصغار في المحيط الاقليمي والتي كانت سارية المفعول خلال فترة الحرب الباردة لم تعد قائمة، وسيتأكد ذلك حال هيمنت الولايات المتحدة على المنطقة بصورة شبه مباشرة، حيث سيكون هناك صغار كثيرون وكبير واحد، وسيتم تخفيض السعودية من قائمة الكبار إقليمياً الى قائمة الصغار. بل الخشية مازالت قائمة من مخططات التغيير واعادة التوزيع والتقسيم لدول المنطقة والتي قد تطال دولا لم تكن بالحسبان.

ويجب الالتفات الى أن التغييرات الجيوسياسية المرتقبة لم تكن تنتظر إنهدام برجي التجارة، بل هي خطط تسبق ذلك بسنوات، وتقريباً منذ إنحسار القوة الدولية المنافسة للولايات المتحدة، أي الاتحاد السوفيتي، وبداية تشكل تحالفات جديدة ومنظومات اقتصادية عالمية، وانطلاق مكوك «العولمة» في الاقتصاد، وإنفجار الأطروحات الفكرية المتطرفة في الغرب والولايات المتحدة مثل تلك التي أنتجها برنارد لويس وصموئيل هنتجتون وفوكاياما في صراع الحضارات ونهاية التاريخ، وهي نظريات لا تعدو كونها تسويغاً للإدارة الاميركية والغرب من أجل فرض السيطرة وبأي وسيلة متاحة على مقدرات الثروة في الشرق. هناك بلا شك ـ إذن ـ أطماع اقتصادية تخفي خطة إعادة ترتيب منطقة الشرق الاوسط، سيكون مفتاحها العراق.

وعلى فرضية أن ساعة النظام العراقي قد أذنت، فما هي الانعكاسات المتوقعة على منطقة الخليج؟ تشابك المواقف بين الخليج ومحيطه الاقليمي، ودور البلدان الخليجية والسعودية على وجه الخصوص في المعادلة الدولية غير خافٍ على أحد، علاوة على المورد الطبيعي الهائل الذي بحوزة دول الخليج ويشكل مصدر قلق بالنسبة للقوى العظمى.

الخليج بعد الحرب على العراق

هناك رؤية شديدة الصرامة لدى كثير من مسؤولي دول الخليج، وقادة المعارضة العراقية المرشحين لحكم العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وهكذا رؤوساء الدول العربية المجاورة مثل الأردن واليمن واخيراً النخبة السياسية في الولايات المتحدة.. هذه الرؤية تفيد بأن السعودية تمثل مصدر إزعاج ومرتعاً للتطرف ومركز الاصولية بأشكالها الراديكالية العنيفة.

هناك قناعة في واشنطن كما في بعض العواصم الأوروبية والعربية بأن ثمة ملفاً سيجري فتحه فور الانتهاء من الملف العراقي، وهو ملف دول الخليج، القابع منذ فترة طويلة في الدوائر الاستخباراتية الأميركية والغربية بصورة عامة، وإن ترتيب الخارطة الشرق أوسطية سيبدأ أولاً من ترتيب أوضاع منطقة الخليج، بل لا معنى لترتيب أوضاع الشرق الأوسط إن لم تكن منطقة الخليج، الجزء الحيوي منه، بل لا معنى للسلام في الشرق الأوسط إن لم يؤد الى تأمين حقول النفط واستقرار الأوضاع المحيطة بها.

الولايات المتحدة لم تكن تفكّر في إعادة ترتيب الخارطة السياسية في الشرق الأوسط والخليج بدرجة أساسية دون أن تضمن وقوف أطراف خليجية الى جانبها. فهناك دول قد شكّلت بالنسبة للولايات المتحدة مجرد مراكز لتجمع مستودعاتها اللوجستية، هكذا يظهر الأمر بوضوح في قطر والبحرين والكويت. وفيما تبدو التصريحات المتضاربة من القيادة السعودية حيال السماح أو عدم السماح للقوات الاميركية باستخدام أراضي وقواعد عسكرية سعودية، تتكشف بين يوم وآخر الإتفاقات العسكرية المعقودة بين البلدين لتلبية المطالب الأميركية، ويتنامى في الوقت نفسه النزوع الأميركي نحو التخلص من مأزق مستقبلي. بمعنى أن المسألة تتجاوز وجود القوات الامريكية على الأراضي السعودية الى تغيير صيغة التحالف مع السعودية، بما يقلّص فعاليتها السياسية على المستويين الاقليمي والدولي. أياً كانت طريقة تغيير النظام الحاكم في العراق، فإن ثمة مخططاً واضحاً يقضي بأن يكون عراق ما بعد صدام حسين المرتكز الأميركي للتغيير في الخليج ولإقامة حلف جديد تسعى واشنطن الى تدشينه وتوسعته باتجاه مناطق أخرى.

دول الخليج المتذرعة بهشاشة تركيبتها الجيوسياسية والديمغرافية والأمنية ترى بأن الدخول مع الولايات المتحدة في حلف استراتيجي سيجعلها في مأمن من تهديدات إقليمية، وسيحررها من ضغوط الأخ الأكبر الممثل في السعودية، بل ترى هذه الدول بأن التأثير السعودي عليها لم يكن يبلغ مبلغ حمايتها من تهديدات القوى المجاورة لو قررت الهجوم عليها، وهو ما حصل بالنسبة للعراق والكويت، وما حصل للجزر الإماراتية وايران، والخلاف القطري البحريني، ولذلك فهذه الدول لا ترى ضيراً في الدخول في تحالف بعيد المدى مع الولايات المتحدة.

الدبلوماسية السعودية..والمهمة المستحيلة

الاستنفار الدبلوماسي السعودي طيلة السنة الماضية إنصب ظاهراً وبدرجة أساسية على ترميم السمعة الدولية للمملكة، ولكنه كان مهتماً بدرجة أكبر على الترتيبات السياسية القادمة، بما يضمن صيانة ما يعبر عنه بالأمن القومي السعودي الذي سيواجه مأزقاً فيما لو حدث تغيير في العراق، ولذلك فإن الدور الذي لعبته الدبلوماسية السعودية بقيادة الأمير عبدالله في المسألتين الفلسطينية والعراقية لم يكن سوى محاولات أخرى لتحقيق غرض سعودي بعيد المدى. وعلى أية حال، فإن الدبلوماسية السعودية لم تكن فاعلة بدرجة كافية فلم تؤازها ترتيب السياسة الخارجية السعودية وأولوياتها، ولم يكن المال متوفراً كثيراً لحشد الصفّ الذي اعتادته العائلة المالكة من ورائها، كما لم تدعم تلك الحركة الدبلوماسية الفوقية بفاعلية إعلامية بالشكل المطلوب، إذ ظل الاعلام السعودي أسير أنماطه القديمة دون ان يستوعب على نحو عميق طبيعة المرحلة واستحقاقاتها التي تتطلب حضوراً إعلامياً مميزاً و«قادراً» على خوض معارك في عدة جبهات ومستقرئاً بصورة دقيقة لمستقبل الأمن القومي السعودي. في الحقيقة فإن العائلة المالكة فشلت حتى في استقطاب الشعب وراءها، وقد أصابه الذهول والعجز في متابعة النشاط السياسي السعودي والتناقضات الحادّة في الخطاب السياسي، وهو حتى كتابة هذه السطور لا يعلم إن كانت المملكة ستدخل حرباً أم لا؟ ولا يعلم أهدافها من الحرب، ولا الآثار المترتبة على المملكة كالأعباء الإقتصادية والضغوط السياسية الخارجية، والأحوال الأمنية الداخلية.

بيد أن ما يجدر ذكره هنا، أن الادارة الأميركية واجهت الدبلوماسية السعودية بضراوة، فقد سعت الى تطويق تأثيرها وشل فاعليتها وتحجيمها على المستوى الإقليمي والدولي، وقد انتهت المبادرات السعودية الى سلّة المهملات وأهمها ما جرى طرحه في قمة بيروت، ثم المبادرة الاخيرة القاضية بالمصالحة العربية العربية وإجراء اصلاحيات سياسية داخلية في الانظمة العربية إفرادياً والتي لم تناقش في الأساس في القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ!

السعودية بعد رسم الخرائط

النفط الذي شكّل الخارطة الاقليمية في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، من المرشح أن يلعب ذات الدور في أوضاع ما بعد الحرب على العراق. فثمة هدف لا يحتاج الى استعلان من الحشود العسكرية الاميركية في الخليج، الا وهو الوصول الى حقول النفط العراقية. فالنفط وليس الديمقراطية وحقوق الانسان هو المحرّك الرئيسي للجيوش الاميركية.

نجاح الولايات المتحدة في بسط سيطرتها على حقول نفط العراق سيمكنها من رسم خارطة الاقتصاد النفطي على المستوى الدولي. إذ ستتمكن من التحكم أكثر في اتجاهات أسعار النفط العالمية، خاصة أن العراق يمتلك ثاني أكبر احتياطيات نفطية في العالم. ولا داعي للقول بأن من أكبر الخاسرين في تغيير كهذا هو الدول النفطية وعلى رأسها السعودية.

في السادس من مارس الحالي نشرت الصحيفة الالكترونية ''إيلاف'' ما اعتبرته ''بعض معالم وتفاصيل الخريطة الاميركية الجديدة الهادفة الى ترتيب اوضاع منطقة الشرق الاوسط في اعقاب ترتيب الوضع العراقي حربا أو سلماً''. وأضافت الصحيفة بأن ''الخطة الاميركية سيتم تنفيذها طوعا وبمشاركة من أطراف فاعلة في غضون ثلاثة الى أربعة اعوام وصولا الى بناء إقليم شرق أوسطي متحد إقتصاديا''. وحسب الصحيفة فإن ثمة مشاريع دمج بين دول إقليمية تجمع كل من العراق والكويت ''فهذه الإمارة الخليجية ستنخرط هي الاخرى في الاقليم الشرق أوسطي من بوابة عراق حر ديموقراطي محكوم بأنظمة وقوانين منضبطة تتواءم مع شكل الإقليم الجديد''.

وتحدث المصدر الذي رفض ذكر إسمه للصحيفة بأن الخريطة الاميركية الجديدة تقوم على ''تقسيم المنطقة الى وحدات اقتصادية سياسية واقتصادية متكاملة، فمثلا ستكون هنالك الوحدة الخليجية التي ستضم السعودية والامارات وقطر والبحرين وعمان واليمن، أما الوحدة الموازية فستضم العراق والكويت والاردن والفلسطينيين واسرائيل الى جانب إبقاء المجال مفتوحا أمام سورية ولبنان على أنهما سينضمان للإقليم في النهاية من بعد إجراء بعض (الجراحات السياسية في داخل هياكلهما السياسية).

ثمة مؤشرات عديدة مقلقة بالنسبة للعائلة المالكة إزاء ما يمكن أن تفرزه أوضاع ما بعد الحرب على العراق، فالهاجس المفزع حول التقسيم كما أشاعته بعض الجهات المتنفذة في الدوائر السياسية الاميركية قد ترك تأثيرات نفسية ضاغطة على القيادة السعودية. إن إعادة ترتيب الخارطة السياسية الشرق أوسطية لن يكون هذه المرة استجابة لمبدأ تقرير المصير أو مبادئ ويلسون التي كان يتغنّى بها الملك عبد العزيز، بل بحسب مبدأ لا صداقات دائمة بل مصالح دائمة. رسم الخارطة السياسية في الخليج يستدعي دون ريب أزمة عميقة الجذور في المملكة السعودية، وهي فشل الاخيرة في بناء وحدة وطنية متماسكة الأطراف، منصهرة الأجزاء، منسجمة الجماعات، إنها بكلمة تحيي خيارات التقسيم، إي إرجاع التاريخ الى ما قبل عام 1932. فالعائلة المالكة ستفهم من مسألة رسم الخارطة بأن إرثها التاريخي سيكون عرضة للتبدد، فقد وفّر فشلها في دمج المناطق المضمومة دمجاً حقيقياً سياسياً وثقافياً واجتماعياً فرصة للقادم الجديد، أي الحليف الاستراتيجي بالتلويح وربما باستعمال خيار التقسيم من أجل خلق كيانات سياسية ضعيفة تكون نجد واحدة منها.



إطبع الصفحة الصفحة السابقة