خارطة الإسلاميين في السعودية وقصة (التكفير)

منصور إبراهيم النقيدان*


تقديم

التيار السلفي في السعودية أضحى خطراً على الدولة والمجتمع، فهذا التيار ينزع الى العنف والى التكفير والى إهدار الدم واستباحة العرض للمخالف أنّى وأين كان. كان هذا التيار العصا الغليظة التي تستخدمه العائلة المالكة ضد مخالفيها، فبه شكّلت سلطانها وصار لها دولة (تلمكها). وبه ضربت التيارات الدينية الأخرى وقمعتهم، وعبره تمّ تمدّد السلطة السعودية الى خارج الحدود، لنشر مذهب التطرف في الآفاق مدعوماً بالمال والثروة النفطية.

هذا التيار يشكّل اليوم خطراً على الجميع، وهي لا تعدو مسألة وقت قبل أن يبدأ هذا التيار في استخدام العنف على إطلاقه. لكن العائلة المالكة تخشى (أن تقطع يدها بنفسها) وبالتالي لا تستطيع أن تضرب بيد الحديد التي يهدد بها وزير الداخلية دائماً. ورغم أن المتضررين من نمو هذا التيار كثيرين في الداخل والخارج، ورغم أن الخطر قريب وماحق، إلاّ أن العائلة المالكة لا تزال تتعاطى معه بكثير من الحذر والخوف، والسبب أنها تخشى من فقدان ما تبقى لها من شرعية، خاصة في غياب الإصلاحات السياسية التي يمكن أن توفّر شرعية وطنيّة تعوّض عن نقص الشرعية الدينية بين وهابيي نجد. ثم إن بين الأمراء من لايزال يتعاطى مع الموضوع وكأن الوهابية المتطرفة مجرد ورقة في العمل السياسي والصراع على الحكم بين أجنحة الحكم، في حين أن هذا التيار المتشدد الذي زادت فتاوى تكفيره في السنوات الماضية لتشمل أفراداً وأطيافاً إجتماعية ودينية وحكومية مختلفة، يكسب يوماً بعد آخر أرضاً جديدة.

قمع هذا التيار في غياب المصالحة الوطنية والإصلاح السياسي خطيرٌ، وهذا ما يفهمه أمراء آل سعود. ولذا فهم سيكررون تجاربهم الماضية، قمع من جهة للأجنحة المتشددة، ولكن بدعم من التيارات الرسمية الدينية التي فقدت ألقها ومكانتها بين الجمهور السلفي النجدي. هذا الحل لا يعدو تسكين مؤقت للمشكلة. المشكلة الحقيقية تكمن في العائلة المالكة، فهي التي سمحت بانتشار التطرف وموّلته ضد أعدائها ولاتزال، رغم أنه بدأ يرتدّ عليها.. وهي التي خلقت الظروف الملائمة لنمو شجرة العنف بسبب سوء إدارتها للإقتصاد الوطني، وبسبب الإستبداد السياسي والفكري الخانق الذي فرض فكراً واحدياً سلفياً متطرّفاً، لا يسمح بظهور أيّ صوتٍ آخر موازٍ ـ ولا نقول مخالف ـ له.

الحلّ ليس في القمع، ولكن في الإصلاح. الإصلاح هي الكلمة السحرية التي لم تكتشفها العائلة المالكة، أو لا تريد اكتشافها. وإذا كانت الأخيرة قد نجحت في الماضي في تقليم أظافر التطرّف الناشئ كل عقد أو عقدين من الزمن، فإنها هذه المرّة وهي إذ تفقد شرعيتها غير قادرة على التوسع في العنف ولا تجد أحداً يقبل بحججها ولا بسياساتها حتى بين المخالفين للتيار المتطرف.

عليها بالإصلاح وتوفير المناخ المعتدل، قبل أن يكتسحها موجُ التطرّف والعنف الداخلي، وقبل أن تدهمها ضغوط الخارج فتفني العائلة المالكة وتمزّق الوطن.

* * *

منتصف التسعينات قامت الحكومة السعودية بإيقاف مجموعة من الإسلاميين المعارضين الذي أثاروا شغباً في بريدة، واقتحموا مبنى إمارة المنطقة، واعتصموا بالجوامع. وأثناء إيقافهم في سجن الحاير الشهير، حدث إنقسام وإنشقاق بين الصف الأول والثاني من الموقوفين الذين جمعهم المعتقل بين جنباته. نشأ الخلاف بسبب الموقف الشرعي الواجب إتخاذه تجاه الحكومة، والعاملين في جهاز المباحث من أعلى الرتب العسكرية إلى أقلّهم رتبة.

سجن الحاير كان يحوي لونين من الإسلاميين: الصحويين الحركيين، والسلفيين الجدد، والذين كان يتزعمهم الشيخ محمد الفراج ومجموعته، حيث كانوا يقضون أحكاماً بالسجن لسنوات عديدة في قضية أخرى سابقة لأحداث بريدة، وكان ضمن هذه المجموعة الشيخ ناصر بن حمد الفهد (اعتقل أواخر فبراير الماضي) وعبدالعزيز الجربوع، وقد كانا يمثلان الجناح المتشدد داخل هذه المجموعة، وهما اليوم يعتبران من رموز السلفية الجهادية في السعودية.

بالتقاء الشيخ علي بن خضير الخضير ـ الذي كان من الموقوفين بعد أحداث بريدة ـ بالأخيرين، نشأ تحالف جديد أحدث انقساماً داخل سجن الحاير. كان هذا الانقسام هو الشرارة الأولى والنواة لتخلق تيار تكفيري غالٍ، ظهر على السطح لاحقاً ومارس أنشطته علناً ببيانات وفتاوى التكفير التي أصبحنا نسمع عنها بين الفينة والأخرى، برعاية ومباركة من الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، وبعد وفاة العقلاء، تزعم الفهد والخضير هذا التيار.

السلفية الجديدة كانت تقتفي نهج الشيخ إبن باز وعلماء الوهابية، وبعض آراء واجتهادات عالم الحديث الراحل محمد ناصر الدين الألباني في الفقه والحديث. وكان حي السويدي في الرياض هو قاعدة هذا التيار، إلا أن التنقيب في تراث الوهابية وفتاوى علمائها فيما يخص مسائل تكفير المسلم، وشروط تكفير المعين وموانعه، ومسوغات الخروج على الحاكم، أبرز الوجه الآخر واستخرج كنوزاً عانت من تراكم الغبار، وأفكاراً أصابها الضمور، تم توظيفها سلاحاً فتاكاً لتكفير الحكومة.

يعود الفضل في ذلك إلى اثنين: أولهما ''أبو محمد المقدسي'' الفلسطيني الذي كان يقيم في الكويت، وتم إبعاده إلى الأردن بعد تحرير الكويت، وإسمه عصام البرقاوي وهو مؤلف الكتاب الشهير ''الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية''، ورسالته ''ملة إبراهيم'' تعتبر دستور التكفيريين، ويؤكد مطلعون على أنها في الأساس تحشية على رسالة قديمة لجهيمان العتيبي تحمل الاسم نفسه. زار عصام البرقاوي السعودية عشية حرب الخليج الثانية، وقام بجولة زار فيها مدينة بريدة ومدناً أخرى، ولم يكن حينها يحظى بذلك القبول لا في الكويت ولا في السعودية، فقد كان رأيه بكفر علماء المؤسسة الدينية الرسمية، سبباً في جفول البعض منه، كما أن خلافاً نشأ بينه وبين مريديه لإفتائه سراً بجواز السطو على البنوك، مما اضطُره لاحقاً إلى التنصل من تلك الفتوى، وأثناء الاحتلال العراقي للكويت فضل البقاء، وكان من يدخلون الكويت أثناء الاحتلال يأتون بأخبار تؤكد صحة ما كان ينفيه عن نفسه.

أما الآخر الذي له فضل لا ينكر في نشر مذهب التكفير محلياً، فهو إسم يجهله الغالبية العظمى من الإسلاميين في السعودية. أنا شخصياً أعتبره (عراب) هذا المذهب، وهو أبو سبيع (وليد السناني) ولايزال موقوفاً في سجن الحاير منذ ما يقارب الثمان سنوات، وهو شخص فذ يتمتع بصفات نادرة كالشجاعة، وسرعة البديهة، وقوة الاستنباط، والثبات على آرائه، كما أن له حضوراً طاغياً في مجالس المناظرة التي كانت تجري بينه وبين من يخالفونه الرأي من معجبيه، أو من خصومه على حد سواء. ألّف أبو سبيع رسالة موجزة عن حكم (التحية العسكرية) توصل فيها إلى أن التحية العسكرية كفر وردة عن الإسلام لما فيها من إظهار الخضوع لغير الله، وكان يقوم بنشرها بنفسه.

المتتبع لجذور هذا الفكر لا يمكنه أن يتجاهل أيضاً تأثير أهل الحديث/ أخوان الحرم (جهيمان العتيبي ومجموعته) بمنشوراتهم وكتيباتهم التي كانت تطبع في الكويت وتهرّب إلى السعودية قبل حادثة الحرم، ومنها (الرسائل السبع) التي أعيد إحياؤها وبعثها أواخر الثمانينات يعني بعد أقل من عشر سنوات من القضاء عليهم، وإن لم تكن رسائلهم من الوضوح والصراحة كما في كتب المقدسي.

أيضاً هناك السعوديون الذين كانوا يزورون اليمن لطلب العلم على يد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، قبل حرب الخليج الثانية وعقيبها بسنتين، فهؤلاء كانوا أحد روافد التكفير في السعودية. قام الوادعي أوائل الثمانينات بتأليف كتاب تناول فيه أطياف الإسلاميين الموجودين في السعودية والخليج، وهو كتاب ''المخرج من الفتنة'' أبدى فيه تعاطفاً واضحاً مع أهل الحديث، وأنحى باللائمة فيه على الحكومات العربية والسعودية على وجه الخصوص، وفي كتابه (السيوف الباترة لإلحاد الشيوعية الكافرة) هاجم الوادعي السعودية في ثمانية مواضع من الكتاب، وشكك في شرعية نظامها. كان للوادعي علاقة وطيدة بأهل الحديث قبل طرده من السعودية عام 1979، لهذا كان موقفه من عدم شرعية النظام في السعودية، يحتل العامل الشخصي فيه نسبة كبيرة. كان الوادعي يرى عدم شرعية النظام السعودي ويرى أن حكامه مرتكبون لعظائم قد تبلغ بهم حد الخروج من الإسلام، في الوقت الذي كان يمتدح فيه حكومة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح!

وقد كان الوادعي يهاجم السعودية في كتبه ويلمح إلى كفرها في مجالسه، في الوقت الذي كان يتلقى فيه دعماً من السعودية كل شهرين بما قيمته خمسة عشر ألف ريالاً بواسطة الشيخ عبدالعزيز بن باز، ولم ينقطع ذلك الدعم حتى زار إثنان من طلاب الوادعي الشيخ إبن باز وأثارا مسألة عدم شرعية الحكم السعودي في مجلس عام، مما اعتبر انعكاساً لأفكار الوادعي. هذا ولم يفارق مقبل الوادعي الدنيا حتى كانت السعودية قد تكفلت بعلاجه أكثر من مرة.

إضافة الى ذلك، فإن مناخ الحرية والانفتاح الذي كان بقايا (أهل الحديث) في الكويت يتمتعون به، منحهم جرأة في التعبير عن قناعاتهم والحديث عنها، وكَوْنُ الفترة التي امتدت من أواسط الثمانينات إلى منتصف التسعينات الميلادية هي فترة الانتعاش للصحوة الإسلامية، أعطى بقاياهم في السعودية من أهل البادية والهجر ـ بسبب الزيارات ''الأخوانية'' المتبادلة بينهم ـ شعوراً بالثقة، والقدرة على التحدث في المجالس والمجامع ولو بالتلميح عن قناعاتهم التي كانت ترتكز في الأساس على عدم شرعية الحكم.

في العامين 1989 ـ 1990 كانت ذروة انتشار هذا الفكر، لكنه كان حينها مقصوراً على تكفير الحكومة في العموم، مع خلافات تفصيلية فيما دون ذلك كتعيين أشخاص بالحكم عليهم، وحكم وزراء الدولة والعاملين في الجهاز العسكري، باعتبارهم ''جنود الطاغوت''، وهل ينطبق عليهم ما ذكره القرآن عن فرعون: ''إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا ظالمين''؟.

في أواخر عام 1990 بدا ملفتاً للأجهزة الأمنية أن الأشخاص الذين تستوقفهم مراكز التفتيش الأمنية، ولا يحملون (التابعية) أو البطاقة الشخصية، كانوا في ازدياد. فقد كان البعض يمزق بطاقته، لأجل الصورة الملصقة التي يعتقد تحريمها، ولأمر ثان وهو الأهم أن كونك تحمل (تابعية) أوهوية سعودية، هو إقرار بالتبَعيةِ لنظام طاغوتي كافر.

لوحظ ازدياد أعداد الذين يعتنقون هذه الأفكار، حيث كانت تناقش قضايا حساسة كتكفير الحكومة وتضليل علماء المؤسسة الدينية في مجالس عامة، يحضرها أحياناً الشيخ المسن، والصبي والمراهق، وأنصاف المثقفين وغيرهم، ويستأثر بالحديث فيها شباب لم يبلغوا منتصف العشرينات. كانت بريدة والمنطقة بعامتها قد عرفت أهل الحديث قبل أحداث الحرم، ولكنها واجهت تمددهم بشراسة، فقد كان نقد أهل الحديث اللاذع لمشايخ وفقهاء الحنابلة، ومتون الفقه كزاد المستقنع وغيره، وتجهيلهم لعلماء الوهابية وسخريتهم بهم سبباً في موجة من العداء الشعبي تجاههم، لهذا حينما انبعثت هذه الموجة بعد سنوات لم تخطئهم العين، فقد كانت شعورهم الطويلة، وثيابهم القصيرة حتى أنصاف الساقين، ولبس بعضهم للخواتم بأيديهم، تذكر بأيامهم الغابرة ومأساة اقتحامهم للمسجد الحرام.

تقاطعُ أفكار أهل الحديث الجدد ـ الذين كانت تشكل الرياض والمدينة المنورة قاعدتين أساسيتين لهم ـ بأفكار أخوان بريدة الذين كانوا يهجرون مدارس الحكومة ووظائفها، هيّأ جواً من التقارب بين الفئتين مع شيء من الريبة والحذر وكثير من عدم الارتياح من قبل أخوان بريدة. فأخوان بريدة كانوا يدينون بالولاء التام للحكومة وولاة أمرها، كما أنهم لا يقبلون نقد علمائهم وفقهائهم وكتب الفقه التي تدرس في مساجدهم، خلافاً لأهل الحديث كما سيأتي بيانه، وقتها عزمت مجموعة من وجهاء أخوان بريدة وبعض المشايخ فيها على رفع الأمر إلى السلطات، وتنبيهها إلى أن الأمر أصبح مخيفاً ومستفحلاً، ولا يجوز السكوت عنه، لولا وساطة بعضهم بوعود قطعوها أن تُعالج المسألة، بطريقة أكثر حكمة، بعيداً عن الحكومة وأجهزتها الأمنية.

كانت نشرات أهل الحديث تؤكد على أهمية السنة، والأخذ بها، وتعيب على المذاهب الفقهية تحكيم أقوال الرجال في دين الله، والإشارة إلى بعد الحكومات والمجتمعات عن شرع الله والأخذ بسنة رسول الله، وكان غاية ما تضمنته تلك النشرات الحكم بالضلال والانحراف على الحكام و(ولاة الأمر). وحسب بعض المطلعين أن تكفير الحكومة السعودية كان رأياً لبعض طلبة العلم فيهم، وإن كانت الغالبية على خلاف ذلك. الغريب أيضاً أن رسائل جهيمان كانت تتناول أحاديث نبوية مما يخص المغيبات والملاحم والفتن التي ستعرض لأمة الإسلام آخر الزمان، والمدهش أن جهيمان الذي كان يؤكد على اتباع السلف وأئمة الحديث، كان له تفسيراته الخاصة (غير المسبوقة) لعدد من الأحاديث، ومنها أحاديث المهدي، فقد كان هناك توطئة وتمهيد وتبشير لمهديه الذي قتل في الحرم (محمد بن عبدالله القحطاني) وهذا يعود إلى نزعة استقلالية بفهم نصوص الشريعة من مصادرها من غير التقيد بفهوم السلف الأوائل.

أُذكِّر القارئ أنني أتحدث هنا عن ألوان طيف الإسلاميين في السعودية، وهم السلفية الجديدة/ الوهابية الألبانية، وأهل الحديث/ جهيمان، والسلفية الجهادية/ الخضير والفهد، والصحويون (الأخوان المسلمون السعوديون) كالعودة والحوالي وهم الذين كانوا يستأثرون بحصة الأسد من الإسلاميين والشارع في السعودية، وسلفية المدينة/ الجامية، وأما جماعة التبليغ فنزعتها الديوبندية لا تشفع لها ضمن هذا التصنيف لألوان طيف الإسلام السلفي في السعودية.

من الأمانة الإشارة إلى أن الفكر التكفيري، لم يكن ينظر إلى قيادات الصحوة والمنتمين إليها بعين الرضا، لأسباب كثيرة تتعلق بتفاصيل ليس هذا مجال ذكرها، أهمها أن قيادات الصحوة والمنتمين إليها متغلغلون في وظائف الحكومة، خلاف ما يجب عليهم ـ حسب رؤية التكفيرين ـ من إعلان البراءة والمفاصلة القائمة على اعتزال وظائفها، ومنها حضور طروحات منظري الأخوان المسلمين في الخطاب الصحوي.

شكلت حرب الخليج الثانية منعطفاً هاماً في تطور مراحل هذا الفكر، وإعادة ترتيب تحالفاته، كما أنها أعادت تشكيل الظاهرة الإسلامية في السعودية بعامة، حيث تم تطعيمها بأفكار أكثر جذرية وراديكالية، وحدث ما هو أشبه بتبادل المقاعد بين تلك الألوان، كما أن الملمس اللين لحركيي الصحوة وقياداتها التاريخية، تكشف عن وجه أكثر شراسة حينما أفتوا في محاضراتهم بتكفير اللواتي قمن بمظاهرة قيادة السيارات إبان حرب الخليج الثانية، وبوصفهم لمن أيدوهن أو تعاطفوا معهن بأنهم علمانيون مارقون، إلى موقفهم من مشاغبات غازي القصيبي وتكفيرهم له، كما أن موقفهم الرافض لتواجد القوات الأمريكية، وضع شرعية الحكومة السعودية تحت النقاش، الأمر الذي أكسبهم شعبية مضاعفة، وجماهيرية مكتسحة، ساعدت على إضعاف مصداقية مشايخ المؤسسة الدينية التقليدية (إبن باز وإبن عثيمين) لموقفهم المؤيد للحكومة فيما يخص تواجد القوات الأجنبية في الخليج والسعودية لتحرير الكويت.

حرب الخليج الثانية وذيولها وتداعياتها على الظاهرة الإسلامية في السعودية، تمخضت عن ولادة ما عرف حينها بـ(سلفية المدينة) أو''الجامية'' نسبة إلى د.محمد أمان الجامي، أستاذ العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهو تيار كانت ولادته استجابة للتحدي الذي فرضته الشعبية المكتسحة للعودة والحوالي. بدأ هذا اللون الجديد بالتشكل قبلها بثلاث سنوات تقريباً، وحظي برعاية أجهزة الأمن الحكومية، ولظروف ولادته ومسوغاتها، كان من المهم حضور فتاوى الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وعلماء المؤسسة الدينية الرسمية في طروحاته.

إنطبع هذا التوجه الجامي بتقليعات غلاة (الألبانيين) و(الوادعيين) وقد ارتكزت أفكاره على شيئين: الولاء المطلق للحكومة السعودية وولاة أمرها، والثاني: تبديع وتضليل سلمان العودة وسفر الحوالي وغيرهما من قيادات الصحوة، وتكفير سيد قطب الذي يعتبرونه أبو الجماعات التكفيرية، ومؤسس (القطبية) التكفيرية، ويتزعم هذا التيار اليوم د. ربيع بن هادي المدخلي أستاذ الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. لاحقاً تحول اسم مدرسة (سيد قطب) الابتدائية ببريدة ـ والتي كانت تسميتها في السبعينات الميلادية سبباً في معارضة بعض المشايخ ـ إلى (مدرسة سليمان الشلاش) الابتدائية.

الملفت للانتباه أن أكثر الذين اعتنقوا أفكار هذا التوجه (الجامي) هم من الوافدين والمقيمين في السعودية، ومن منطقة جازان، وبعض أطراف المنطقة الشمالية، وكانت قواعده في الكويت والأردن، واليمن. هذا التوجه خرج من عباءة الألباني، وتغذى من فكره، ومؤلفاته وأشرطة الكاسيت التي سجلت عليها محاضراته، ولكنه كان أكثر مزايدة وتشدداً، لهذا قوبلت تزكية الألباني للحوالي والعودة، وثناؤه عليهما باستياء بالغ، دفع بعضهم إلى الهجوم عليه وتضليله.

سددت (سلفية المدينة) ضربات موجعة لقيادات الصحوة، ولأنها كانت تستخدم سلاح النص، وأقوال السلف العظام، وتلمز خصومها بالتقليل من أهمية التوحيد وسلامة العقيدة، فقد كانت ردة الفعل لدى خصومهم تكثيفاً لدروس العقيدة واهتماماً بالحديث والأثر حفظاً وتدريساً، ولكن افتقاد (سلفية المدينة) للمصداقية، وتقييمها لخصومها عبر مستوى الولاء الذي يدينون به للحكومة والحكام بعامة، كان كفيلاً بالقضاء عليها، فلم يلبث هذا التيار أن انحسر في منتصف التسعينات، ولم يعد له اليوم حضور يذكر.

في زيارتي الأولى إلى حائل عام 1991 كانت أفكار التكفير تعشش في عقول شباب كثر، وقد كانت مدينة حائل لم تزل حديثة عهد بالظاهرة الإسلامية عموماً، ولكن لم يمض أقل من سنتين حتى كان غالبيتهم قد اعتنقوا أفكار (سلفية المدينة).

كما أنه علينا أن نضع في الاعتبار مشاركة آلاف من السعوديين في الجهاد الأفغاني، إبان الاحتلال السوفيتي، حيث مكنهم ذلك من الاختلاط بالجماعات الإسلامية الأخرى التي عرفتها المنطقة العربية، كالجماعة الإسلامية، والجهاد المصريتين، وجماعة التكفير، و(الوقف والتبين).

وليس سراً أن منشورات هذه الجماعات التي تركز على كفر الحكام والأنظمة العربية، كانت تدخل السعودية ويتم نشرها عبر الأفغان العرب، وقد تمت مصادرة مجموعات كثيرة من هذه المنشورات والكتب من العائدين إلى السعودية في الجمارك والمطارات، وكان كتاب المقدسي (الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية) واحداً من هذه الكتب.

اهتزاز مصداقية علماء المؤسسة الرسمية بعد حرب الخليج الثانية أثر على أتباعهم وتلاميذهم، فهم وإن كانوا يتمتعون بثقة شعبية عارمة، لدى فئات المجتمع (السني) على اختلاف شرائحهم، إلا أنهم كانوا يوماً بعد يوم يخسرون أنصاراً من الإسلاميين الذين رأوا في القيادات الجديدة بارقة أمل لبعث الأمة إلى سالف مجدها. وتضاعف هذا الانحسار بعد أحداث بريدة التي أعقبها توقيف قيادات الصحوة، حيث قوبل بصمت بعض رموز المؤسسة الدينية، وبخذلان وتوبيخ من آخرين.

الفترة التي كانت تفصل ما بين منتصف التسعينات وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، أحدثت فراغاً هائلاً، ترتب عليه إعادة تشكل خارطة الإسلاميين في السعودية كرة أخرى؛ فسبع سنوات من التغيرات الكبرى العالمية التي ألقت بظلالها على المنطقة، مضافاً إليها التحولات الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الإنترنت)، أفرزت توجهين اثنين بارزين، أحدهما احتل الصدارة منذ الحادي عشر من سبتمبر ـ لأسباب يعرفها الجميع ـ وهو السلفية الجهادية التي انضوى تحت جناحها غالب ألوان الطيف الأخرى وانصهرت في بوتقتها، والثاني بدأ في التخلق ـ من رحم أكثر التوجهات تطرفاً ـ منذ منتصف التسعينات، وله الآن حضور يزداد يوماً بعد يوم، وهو مايسمى بالتيار التنويري الإصلاحي، أو من يوصفون محلياً بـ(العقلانيين) الذين يشكلون خطاباً إسلامياً أكثر اعتدالاً وانفتاحاً.

ما أود التأكيد عليه أخيراً أن السلفية الجهادية بحركييها، وكوادرها، والمنظرين لها (الفهد، والخضير) وغيرهما تقوم على فكرة مركزية هي (تكفير الأنظمة والحكام في البلاد الإسلامية) ما عدا حكومة الطالبان، وهذه الفكرة الجوهرية أفصح ابن لادن عنها العام الماضي، وكان أكثر صراحة في ذلك أثناء خطابه الأخير الذي ألقاه في خطبة عيد الأضحى، وبالتالي فهي لا ترى حرمة دماء كل من يمثل هذه الأنظمة، من رؤساء دول، أو وزراء، أو موظفي دولة كبار، أو قيادات عسكرية، أو ضباط وأفراد، كما أنها تؤمن أن كل من يواجه إرهابها، أو يقف ضدها أو يعين على ذلك ولو ببلاغ أو تعاطف فهو كافر مرتد عن الإسلام حلال الدم والمال، ولهذا كان الشيخ حمود العقلاء يفتي بمقاومة أجهزة الأمن بالسلاح، وهذه الفتوى اليوم هي المعمول بها، وهذا مايفسر ازدياد حالات إطلاق النار على الأجهزة الأمنية، كما أن لها فهمها الخاص بها تجاه المسلمين الذين يعيشون في أمريكا والدول التي تسير في فلكها، فهم يعتقدون أن كل مسلم مقيم في هذه الدول فهو محارب للإسلام، مادام أنه من دافعي الضرائب.

الغالبية العظمى لا تعرف عن هذا التيار الذي يلقى تعاطفاً واسعاً جداً، إلا شعاره: (إخراج القوات الأمريكية والغربية من المنطقة). هذا هو المعلن، ولكن ما هو أدهى من ذلك أن لهذا التيار الجهادي تفسيره الخاص لنظام الحكم، وله آراء أخرى مخيفة فيما لو تمكن من حكم مجتمع من المجتمعات الإسلامية التي تمنحه التعاطف والتأييد، وتمكن من ترجمة تلك الآراء إلى سياسة مطبقة. حينها سيعلم الجميع أنه أكثر وحشية وظلامية من نظام طالبان الذي كان محتجاً على عدم اعتراف المجتمع الدولي به، وحريصاً على أن يكون عضواً في الأمم المتحدة، في حين أن ابن لادن يرى أن كل ذلك ليس إلا كفراً بواحاً، فهو ـ حسب رأيه ـ كان يقيم بين ظهراني حكومة طالبان الكافرة، لأنها كانت تطالب باعتراف المجتمع الدولي بها، ومنحها عضوية الأمم المتحدة!

كنت في مقال سابق قد ذكرت أن لدي قناعة تامة أن الفكر السلفي يحمل في بنيته نزعة تكفيرية، وأنا في استعراضي السابق ركزت على الظاهرة الإسلامية/ الإسلاموية في السعودية، وهي على شتى ألوانها ترتكز على قاعدة السلف الصالح، ومرجعية أقوالهم ومواقفهم من الآخر المسلم وغيره، فهذه التشكلات المتطرفة اليوم ليست استثناءً، فقد ولدت كلها من عباءة السلف وقد وقعت أحداث مشابهة لما نراه ونسمعه اليوم من تكفير وإهدار للدم ومطالبة بإقامة حد الردة على فلان وعلان، من علماء ضد علماء مثلهم لا يقلون عنهم تقوى وتديناً وتمسكاً، فكيف بمخالفيهم من أصحاب المذاهب الدينية والطوائف الأخرى. والتاريخ الإسلامي حافل بأمثلة كثيرة جداً.

أنا أشبّه علاقة نزعة التكفير هذه ببنية هذ الفكر، بتلك العلاقة التي كانت تربط (سيد الخواتم) بصانعه (ملك الظلام). ألم يقل ذلك الساحر الطيب إن الخاتم يحنّ إلى صاحبه، ويشتاق إليه، وصاحبه لا يقرّ له قرار حتى يجده؟ كلاهما منجذبان إلى بعضهما. لهذا كتب أحدهم يوماً (إن ديناً لا تكفير فيه ليس بدين)!


* نقلاً عن إيلاف

إطبع الصفحة الصفحة السابقة