السلفيون:

متسامحون مع السلطة.. متشيطنون ضد الجمهور!

لقد نجحت الدولة في توليد حليف ديني قادرة على صياغته وتكييف أهدافه واستراتيجياته وخصوماته بالطريقة التي تصبّ في خدمتها في نهاية المطاف. لقد قيل عن عبد العزيز ودوره في صناعة الاخوان بأنه أوجد 'عفريتاً إسمه الاخوان' ليصب جام غضبه على أعدائه ويخيف بهم خصومه، وأن يضربوا صفحاً عن آثامه الدينية والسياسية. وقد فرضت الحكومة على حليفها الديني مساحة من المرونة واسعة بحيث تسمح للرموز الدينيين بتوفير غطاء شرعي ومسوّغ ديني لممارسات السلطة.

لقد استطاعت الحكومة إقناع حليفها الديني بأن يتحمل منها ما لا يتحمله من الجمهور، فأقنعها بحقه في البقاء مع ذنوبه العظام وخروجه أحياناً على المبادىء الأساسية لمعتقدات المذهب، بينما لم يتحمل هذا الحليف من الجمهور غير المتوافق معه في المذهب مجرد الاختلاف معه في بعض مجتهداته، بل شحنته الحكومة بكل مبررات التطرف ضد المخالفين له.

لقد تواطأ الحليفان السياسي والديني على مبادىء مشتركة، وأقنع أهل الحكم حليفهم الديني وبالاستناد على سلسلة روايات حول 'الأمير' بأن بقاءه أمان من الفتنة ومن النار أيضاً، تأسيساً على عقيدة تقول بأن وحدة السلطة تكفل حماية المعتقد واستتبابه وسط الأتباع، فيما لم يتحدث أهل الحكم وهم في مسعاهم لزرع قناعة من نوع ما لدى حليفهم الديني عن الكلفة السياسية التي يجب دفعها لهذا الحليف، لا سيما فيما يتصل منها بتقاسم السلطة، بل التأكيد ينحصر غالباً في دور الحليف الديني في توفير غطاء المشروعية الضروري لأهل الحكم. خارج هذا التعاقد المقدّس هناك نزوع متزايد لدى أهل الحكم الى شيطنة الشريك الديني وإطلاقه وسط عموم الناس كيما يفرغ هوسه وهواجسه الأيديولوجية بمشاعر منفلتة من عقالها.

هذا الحليف المشحون بطاقة دينية عالية التوتر، يكاد من فرط تسامحه إزاء نكبات أهل الحكم أنه لم يعد يدرك خطورة المأزق الذي وقع فيه، بما يزيد في قناعة الكثيرين بأن هذا الحليف ليس سوى أداة تطلقها الحكومة ضد جمهور الناس. فشيطنة الحليف الديني كما تظهر في ملاحقات رجال الهيئة لعورات الناس وعثراتهم، وهجوم خطباء المساجد المهووسين على معتقدات الناس، والصلافة المستحكمة في مسالك قضاة المحاكم الشرعية والدعاة تكاد تكون جميعها موظّفة لقهر الناس وقمعهم، وقبل كل شيء إفتعال معركة جانبية بين الحليف الديني والجمهور حتى لا يفيق هذا الحليف على سوءات الحكومة.

لقد قدّمت الدولة رعاياها فدية لحليفها الديني كي يفرغ فيها تطرفه.. وهي تؤدي به فرائض الدعوة والارشاد وإن تطلب من هذا الحليف الاصطدام بجمهوره و'تكريهه' للحكم الذي ورد على الناس بحكم 'الخروج من الملة'. وعليه فالواجب يملي على الدولة أن تعيد بكل الوسائل الممكنة من خرج ليفيء الى أمر الله الذي نزل للأمراء ومنهم إختار الله كي يحملوا أمانة الدعوة اليه.

نظرة الحليف الديني الى الحكومة تكاد تقف على طرف نقيض مع نظرة هذا الحليف الديني الى عامة الناس، وهكذا تباين سلوكه مع كل منهما. نظرة متسامحة ذرائعية تسوّغ للحكومة العظيم من إرتاكاباتها وتعبّر الجسيم من ورطها، بناءً على مقتضى المصالح المتبادلة بين الشريكين: الديني والسياسي، وبما يوفره الديني من شرعية للسياسي وما يوفّره الاخير من حماية للديني.

ما يجدر الالتفات اليه، أن السياسي كان على الدوام أكفأ من الديني على الاستغلال، وذلك لا لكون السياسي يمسك بخيوط اللعبة كاملة، ويملك من أدوات القهر والغلبة والترغيب ما لا يملك حليفه الديني، بل لأن الأخير يفتقر الى الوعي السياسي الذي يؤهله للدخول في معادلة الشراكة بما يحول دون ابتزازه من قبل السياسي. ما يظهر منذ نشأة الدولة السعودية وحتى الآن، أن هناك قدرة متميزة لدى الحكومة على توجيه دفة تطرف شريكها الديني، وكانت دائماً بارعة في شيطنته مقابل الجمهور، في مقابل حقنه بكمية هائلة بالمسكنات حين يراد منه أن يقدّم موقفاً منها.

الحكومة لا تعدم وسائل الإقناع حين تغرس في حليفها الديني بذرة التسامح، فهناك في تراث المذهب ما يكفي من أحاديث وحوادث تملي على أفراد هذا الشريك تقديم فروض الطاعة لمن تكفّل حفظ النظام وتوفير الحماية لكتائب الدعاة. فالجو الديني المشحون بالرعب والنذير من الخروج على الحاكم يجهض مجرد التفكير في مناوئته، سيما حين يوضع في سياق الفتنة التي يحدثها زواله وحسب الحديث 'سلطان غشوم خير من فتنة تدوم' وأن البيعة عقد مقدس 'ومن مات وليس في رقبته بيعة، مات ميتة جاهلية'.

في المقابل، تتعمد الحكومة ـ كما هو ظاهر ـ إغفال السلوك المتشدد لدى حليفها الديني إزاء جمهور الناس، فثمة خطاب ديني منقسم على نفسه لدى هذا الحليف، جزء منه يعضد السلطة ويسوّغ أخطائها ويغتفر منها ما لاتغتفره من الناس العاديين. وعادة ما يلقى باللوم على الحليف الديني وتشدده إذا ما حوصر أقطاب النظام، ولكنهم يدركون بأن تشدد الحليف الديني ناجم في الأساس على ترجيح الفكر المتطرف من التراث الديني، وهو الجزء الذي تعزف عليه السلطة معزوفتها وتستخدمه لشيطنة حليفها.

ثمة مؤاخذة رئيسية يحملها كثير من المراقبين المحليين والأجانب حول جديّة الصرامة العقدية التي يبديها أفراد الحليف الديني، وتالياً مبدئية موقفه، وهذه المؤاخذة تستند على إزدواجية الموقف والسلوك الدينيين من الحكومة والناس.

في تحليل الوظيفة الدينية ـ السياسية للحليف الديني يمكن القول بأن نشأة هذا الحليف جاءت لشرعنة السياسي وتبرير سلوكه، في مقابل ردع الجمهور وتصحيح سلوكه إزاء السياسي، فالديني له دور محدد وهو حشد الجمهور خلف السياسي، وإن بلغ من بواح كبائره ما يطيح بمصداقية الديني. أما الشق الثاني من هذا الدور حيال الجمهور فهو يتطلب من هذا الحليف إسدال ستار الدين على إخفاقات الحكومة وفسادها، أو تبريرها.

لو أرادت السلطة السياسية ترشيد حليفها الديني كما فعلت ذلك لنفسها، لنجحت في ذلك بعد مضي سبعين عاماً على قيام الدولة، ولكان العائلة المالكة لم تفعل ذلك، وهي ليست راغبة في ذلك، ولا أدلّك على هذا، أن الحليف الديني المتشيطن يزداد تشيطناً، ويزداد قوّة تمنحه إياها العائلة المالكة نفسها، وتزداد فتاوى التكفير، ويزداد الشق الإجتماعي، وتلتهب العواطف الدينية والمناطقية بسببه.

العائلة المالكة تقتات على انقسام السكان لكي تحمي سلطتها وتبقيها موحّدة باستخدامها البارع في شيطنة حليفها الديني كلّما احتاجت إليه في معاركها الداخلية، أو الخارجية. لكن هذه السياسة لا تظهر نتائجها إلاّ وقت المحنة التي تصيب الدولة وحينها يكتشف الأمراء أن زراعتهم قد أفضت الى هشيم تذروه الرياح، فقد تتفكك الدولة الى دويلات، وقد تنهار العائلة المالكة في ردّة فعل من السكان على سياساتها وسياسات شيطانها الديني.

الصفحة السابقة