العبقرية الطائفية

الحكومة تعدّ حليفها الديني لمواجهة العراق القادم

الحرب على العراق قرّبت المسافة بين الحكومة وحليفها الديني الوهابي، فالحكومة في هذه الحرب أصبحت قادرة على استثمار الحرب لجهة إثبات جدارتها كخيار لا بديل عنه بالنسبة لهذا الحليف الذي وظّف جزءا من خطابه الديني/ السياسي خلال عقد ونصف مضى في نقد الحكومة. فرسالة الأخيرة لهذا الحليف ستكون ـ في الغالب ـ على النحو التالي: إن هجومكم علينا سيفضي الى تقوية خصومكم العقائديين، أي الشيعة المرشح إعتلاؤهم لسدة الحكم خلف التخوم الشمالية لبلادكم. فالعراق المرشح لأن يصبح دولة شيعية سيكون قويّاً، فيما تتواصل حملتكم علينا في النقد والهجوم، ولذلك فإن الخيار الضروري والأصلح لكم هو بالتمسك بنا كملجأ سنّي قابل لمواجهة تحديات الخطر الشيعي القادم.

هذه تقريباً فحوى الرسالة التي ستنقلها العائلة المالكة لحليفها الديني، المتهاجس مذهبياً والمنشغل بخصم عقائدي إفتراضي صنعته العائلة المالكة له كيما ينهب إهتمام عامة الناس بمختلف إنتماءاتهم المذهبية والإجتماعية والمناطقية. فالمعركة الطائفية لم يرد منها فقط حصر المتحاربين في فئتين، بل المطلوب منها أيضاً إستدراج الجميع لمعركة الحكومة ضد خصم سياسي محتمل.

الخطر الخارجي المتوهم سيقنع الحليف الديني المتخاصم مع الحكومة بإعادة ترميم وتصليب التحالف بين الطرفين بحجة مقاومة متغيرات الخارج، فالولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي للحكومة والذي يدير حرباً على العراق ويمهّد السبيل لقيام سلطة أخرى بديلة سيجري استعماله كمادة إقناع للحليف الديني بأن هذا الحليف اللدود ينوي إعادة تشكيل الخارطة السياسية يفقد فيها التيار الديني السلفي قوة تأثيره السابق، كيف وإذا ما وضع بجانب ما جرى توصيفه منذ انتصار الثورة الايرانية عام 1979 بـ 'الخطر الشيعي'.

المسكونون بالهم العقائدي من السهل تجنيدهم في معركة الحكومة القادمة من خلال استثارة النزعة الطائفية. فيجب الاعتراف بعبقرية الحكومة في مجال صناعة المعركة الطائفية، ولعلها أقدر في كل الاحوال على جرّ وإستدراج حليفها الديني الى معركتها من خلال الطعم الطائفي الذي يستهوي أفراد التيار الوهابي.

الحكومة كانت على الدوام تلجأ الى التيار السلفي لضرب خصومها بالسلاح الطائفي، هكذا فعل الملك فيصل مع القوى السياسية الوطنية في الستينيات فهو لم يتردد في إقحام المسألة الطائفية في معركة سياسية محضة، ولم يتردد الحليف الوهابي من ابتلاع هذا الطعم فراح يمارس ما يراه الواجب المنزل عليه من السماء في معاقبة أهل الضلال حتى يعودوا الى جادة الحق ومعدن الصدق.

وحتى إستمالة المترددين من أفراد التيار السلفي كانت تتم عبر إغراءات طائفية أيضاً، فالطاقة الخصامية مع الآخر المختلف التي يختزنها المذهب الوهابي تشجّع الحكومة على توظيفها من أجل حشد أتباع المذهب وتحقيق إصطفاف سياسي واسع النطاق تحت شعار محاربة البدع وأهل الضلال، فكلما أرادت الحكومة إعادة إستقطاب وجذب التيار الوهابي، وهكذا إعادة توثيق الصلة معه، أثارت هواجسه الطائفية وفتحت شهيته الخصامية، وبهذه الطريقة تحصد خصومها بيد حليفها الديني دون أن تترك وراءها أثراً يدل على تورطها في معارك تديرها في الخفاء إن إقتضت الضرورة.

التحوّل السياسي المصاحب للثورة الايرانية عام 1979 وتبلور خطاب ديني ثوري منافس للخطاب الديني التقليدي في السعودية أوجد مبرراً قوياً ونشطاً لتعبئة التيار السلفي المتحالف مع السلطة وخوض معركة طائفية مفتوحة مع ايران الشيعية. وقد أفضى ذلك الى تضخم المؤسسة الدينية الى الحدّ الذي فاق قدرة الدولة على السيطرة، وكانت الدولة تزوّد المنغمسين في مشروع الطائفية بالمواد والفتاوى والكتب التي تعينهم على تسخيرها في هذا المشروع. إنخراط المؤسسة الدينية بكافة فروعها ومؤسساتها في معركة طائفية تحصد فيها الحكومة مكاسب سياسية محضة، أدى بصورة تدريجية الى تسميم العلاقة بين سكان السعودية ليس بين أتباع المذهبين الوهابي والشيعي، بل بين كافة المذاهب، مثال ذلك واضح في الكتابات المتوترة طائفياً ضد العلامة الفاضل السيد محمد علوي المالكي التي ظهرت خلال الثمانينيات، العقد الذي إمتاز بكونه من أحلك المراحل التي شهدتها العلاقة بين أتباع المذاهب الاسلامية في السعودية. فالطائفية حين تنشب مخالبها في المجتمع لا تفرّق بين أحد، فالأحكام الصارمة التي أصدرها رموز المذهب الوهابي ضد الشيعة هي ذاتها الأحكام التي صدرت ضد المذهبين الشافعي والمالكي، فكثير من ممارسات أتباع هذه المذاهب في نظر علماء المذهب الوهابي 'بدعية' 'مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة' وبالتالي 'شركية'.

هذا العقد ـ الثمانينات ـ يمثل من ناحية أخرى عقداً ذهبياً في العلاقة بين الحكومة والتيار الوهابي، وهو عقد انتعاش وانتشار المذهب في الداخل والخارج، وفيه تشكلت أنوية التطرف والعنف. في مواجهة النموذج الديني الثوري الايراني أطلقت الحكومة السعودية العنان للتيار الوهابي كيما يتمدد في أرجاء العالم وأن يكون هدفه تقويض هذا النموذج ونشر 'عقيدة التوحيد' في أوساط المسلمين بما في ذلك الجاليات المسلمة في قارات أوروبا وأميركا واستراليا. لقد إستطاعت الحكومة أن ترضي حليفها الديني من خلال إقحامه في معركة طائفية تنسيه أخطاءها وفسادها، وتصرف النظر عن التفكير أو الاهتمام بما تخفيه من ممارسات مخالفة للعقيدة.

بعض رموز المذهب المتخاصمين مع الحكومة على قاعدة دينية مثل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين وحتى بعض المشايخ الناشطين سياسياً مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ عايض القرني والشيخ ناصر العمر والشيخ سلمان العودة، تم احتواؤهم أو على أقل تقدير تحييدهم من خلال إثارة الموضوع الطائفي. ونتذكر قصة 'الخروج الاستثنائي' لعضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن جبرين عن خط الحكومة، حين وجد نفسه متورطاً في مشروع 'لجنة الحقوق الشرعية' التي أنشأها والد الدكتور محمد عبد الله المسعري إضافة الى خمسة آخرين. ففي عودة تصحيحية عاجلة قرر الشيخ ابن جبرين الانسحاب من اللجنة إبراءً لذمته وتطهيراً لإثم غير مقصود قد ارتكبه في الانضمام الى ما يشبه بجبهة معارضة. وقد تبيّن فيما بعد أن الحكومة أعادته الى 'بيت الطاعة' بتخويفه من الشيعة والمتصوفة الحجازيين المستفيدين الرئيسيين من خروجه من هذا البيت، وخطورة ذلك ستكون مؤكدة بإستمراره في نقد الحكومة.

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وانحصار الاتهام في تنظيم القاعدة بتكوينه العقائدي الوهابي، واجهت الحكومة السعودية مأزقاً خطيراً، حيث فشلت في تثمير الحدث طائفياً حتى مع حليفها الاستراتيجي، أي الولايات المتحدة الأميركية التي نجحت الحكومة السعودية ولسنوات طويلة إقناعه بأن الخطر الشيعي يتهدد المصالح الاستراتيجية الاميركية في المنطقة ولا بد من تنسيق الجهود سويّاً من أجل مواجهة هذا الخطر، ولكن تبين في هذه الأحداث أن الولايات المتحدة وقعت تحت تأثير الخديعة الطائفية السعودية، وظهر فيما بعد أن الأخيرة نجحت في إحباط فرص القراءة الصحيحة لمضمون الخطاب الديني الوهابي بنزعته العدائية ضد الغرب. فالقراءة الخاطئة لأدبيات المذهب الوهابي من قبل الإدارة الاميركية تعود الى كفاءة فريدة للعائلة المالكة والعاملين معها في إصطناع رؤية وهمية عن العقيدة الوهابية خلال فترة الثمانينات، أي خلال فترة مواجهة ما أطلق عليه بالخطر الشيعي القادم من إيران الخارجة في ثورة شعبية من مجال النفوذ الاميركي، والذي أنست معها المحتوى الانفجاري للمذهب الوهابي الذي لم تحن بعد فرصته التاريخية للتعبير عن نفسه بصورة عملية، وهو ما فعله في الحادي عشر من سبتمبر. في تلك الحوادث لم تستطع الحكومة إستثمار العامل الطائفي في معركتها، إذ ليس هناك ما يمكن اسثماره طائفياً، ولو كان لفعلت.

هجمات سبتمبر أحدثت شرخاً عميقاً ليس بين السعودية وحليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة بل بين الحكومة السعودية وحليفها الديني الوهابي. فتلك الهجمات فضحت بصورة مهينة تلك الوسائل التي إعتمدتها الحكومة السعودية في إقناع الولايات المتحدة بتكثيف إهتمامها على الخطر القادم من الضفة الشرقية من الخليج، فيما كانت فضاءات العالم مفتوحة أمام رجالات المذهب كيما يبثّوا خطاباً راديكالياً يغذي الميول المتطرفة لدى مجموعات شبابية في الولايات المتحدة وأوروبا.

إن الانفلات الناجم عن التمدد اللامحدود لنشاطات المذهب الوهابي خارج الحدود وبعيداً عن أنظار العائلة المالكة، سمح لرجال المذهب أن يحققوا ما عجزوا عنه أو ما أجّلوا تحقيقه في الداخل. لقد إستطاع رجال المذهب أن يمدّوا آمالهم وأذرعتهم في قارات العالم، فنجحوا في قيادة كتائب المجاهدين في الشرق الأقصى الى شبه القارة الهندية نزولاً الى أفغانستان وصولاً الى جمهوريات آسيا الوسطى وانتهاءً بحدود أوروبا.

كانت الحكومة السعودية ترى بأن التمدد الوهابي في أرجاء العالم بمثابة ورم حميد قابل للاحتمال طالما أنه لن يتجاوز مشاكل ذات صلة بنشاطات الدعوة السلمية المحتملة في الدول التي تمارس فيها مثل هذه النشاطات من مختلف الاتجاهات العقائدية والايديولوجية. لم تكن الحكومة السعودية تتصور بأن ثمة مفاجأة مفزعة تختفي وراء تلك النشاطات ذات الطابع الديني الظاهري.

إن حاصل مجريات ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن ضربة قاصمة أصابت العلاقة بين الحكومة والحليف الوهابي، ولم تعد الحكومة قادرة على الدفاع عن حليفها الديني وتبرير وتبرئة مواقفه. لقد إضطرت أن تضربه في الخفاء ـ وإن بلطف! ـ إمتثالاً لمتطلبات الحرب على الارهاب كما أرادت الإدارة الاميركية من السعودية، فشنت حملة إعتقال في صفوف من تعتقد بتعاطفهم مع تنظيم القاعدة أو من تشك في إمكانية تحوّلهم الى خلية تنظيمية تابعة لإحدى الجماعات المرتبطة أو المتعاطفة مع الرمز السلفي الجهادي الشيخ أسامة بن لادن، ولكن في الخفاء ثمة إصرار شديد على توثيق العلاقة مع المؤسسة الدينية التي لا يمكن للعائلة المالكة الاستغناء عنها لضمان مشروعيتها الدينية التي بها تكون ممارستها السياسية مأمونة العواقب وضرب خصومها مبرراً لدى علماء الأمة.

إن الفتور المشوب بالشك والحذر الذي حكم العلاقة بين الحكومة والحليف الوهابي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحوّل بصورة فجائية الى إستنفار من جانب الطرفين لمواجهة تحديات مشتركة فرضتها الحرب على العراق. فقبل نشوب الحرب على العراق بفترة وجيرة ولا سيما مع بداية تزايد احتمالات وقوعها، بدأت الحكومة في تغذية حليفها الديني بجرعات طائفية قوية.

فكما جرى بعد قيام دولة دينية في إيران عام 1979 بقيادة رجال الدين الشيعة من تعبئة طائفية واسعة النطاق، فإن إحتمالات زوال النظام السياسي في العراق وحصول الأغلبية الشيعية على حصة الأسد في الحكومة القادمة سيفرض تحديات جديدة على دول الجوار، وستكون السعودية بنزوعها المذهبي الطائفي المتعارض في تكوينه العقائدي مع المذهب الشيعي في مقدمة الدول المتضررة من زوال النظام في بغداد، رغم الخصام السياسي العلني بين العراق والسعودية، الا أن صعود الشيعة الى دفة الحكم في العراق يحمل في طياته جنباً الى جنب النموذج الشيعي الايراني تهديداً عقائدياً للمذهب الوهابي أو بالأصح لنفوذه.

لقد بدأت الحكومة السعودية في الحرب على العراق في تطوير وسائل تعبئة طائفية موجّهة لحليفها الديني وبالتالي تقديم إبداعاتها في عزف اللحن الطائفي من خلال هذا التباكي على خسارة العراق في هذه الحرب، ولا يعني خسارته سوى وصول الشيعة الى سدة الحكم فيه. الحضور الطاغي والملحوظ لأقطاب التيار السلفي وبعض من كانوا في حرب الخليج الثانية في عداد المتصادمين مع الحكومة في وسائل الأعلام المحلية والمستعملين للغة متشددة ضد العدوان على العراق ليست سوى مؤشرات واضحة على تلك الهواجس المقلقة لدى كل من الحكومة السعودية والحليف الديني الوهابي.

ذكرت بعض المصادر المقرّبة من التيار السلفي بأن الأمير محمد بن نايف إبن وزير الداخلية ومدير السجون والمدير الفعلي لجهاز الأمن الداخلي في السعودية إجتمع مع بعض رموز المذهب الوهابي من الشباب قبل اندلاع شرارة الحرب بأسابيع قليلة وأبلغهم خطورة الموقف وماذا يعني زوال نظام الرئيس صدام حسين من العراق. ولم يكن بإمكانه إيصال رسالة سياسية واضحة سوى عن طريق 'تفزيع' هؤلاء طائفياً، بإثارة مسألة الخطر الشيعي القادم. لقد طالبهم حسب هذه المصادر بالاستعداد للمواجهة المسلحة وأن يهيئوا أتباعهم والمتعاطفين معهم كيما ينخرطوا في صفوف القوات السعودية لمواجهة إحتمالات الحرب القادمة من خلف الحدود الشمالية وبالتالي درء أخطار ما بعد صدام حسين.

خلال تلك الفترة نشر عدد من رموز المذهب الوهابي بياناً ملتهباً حول نوايا الولايات المتحدة في إعلان الحرب على العراق، وهو من البيانات النادرة التي يصدرها علماء المذهب الوهابي بخصوص قضية خارجية، وقد طالبوا الأمة بأسرها بالوقوف مع الشعب العراقي. والغريب أن الموقّعين على البيان لم يخفوا مشاعرهم من أن المقصود بالحرب على العراق ليس العراق ذاته بل هو السعودية وليس السعودية ذاتها ولكن بصورة حصرية أتباع المذهب الوهابي، باعتبارهم يمثّلون الإسلام الصحيح الوحيد في الأمة!.

ما يمكن التنبوء به الآن أن ثمة تنشيطاً للميول الطائفية بدأت بوادرها من جانب الحكومة، استعداداً للنتائج المتوقعة من الحرب على العراق، ولمواجهة التحديات اللاحقة كما ستأتي بعد زوال النظام العراقي. الملفت أن الاخير يجد مشتركاً مع الوهابية رغم التناقض الايديولوجي والعقائدي بينهما في مواجهة خصم مشترك وهو الشيعة. إن اللغة الطائفية قد تحقق لكافة الأطراف مستلزمات مرحلة عاجلة وآجلة.

الصفحة السابقة