لم يعد أحد في مأمن حتى الحكومة

شبه الجزيرة المضطربة

قبل إندلاع شرارة الحرب الانجلوأميركية على العراق في العشرين من مارس الماضي، كانت الأجهزة الأمنية السعودية تترقب بحذر شديد إنعكاسات تلك الحرب على الوضع الأمني الداخلي في المملكة. وكانت التوقعات تجمع على أن الاختلال الأمني الذي شهدته البلاد في الشهور الستة الماضية سيزداد سوءاً فور انطلاق أول رصاصة خلف الحدود الشمالية للمملكة. وهذا ما حدا بوزير الداخلية الامير نايف بن عبد العزيز الى إطلاق تحذيرات ضد الجماعات المتشددة من إستغلال ظروف الحرب لشن هجمات مسلحة على المصالح الاميركية داخل الأراضي السعودية، بناءً على مشاعر العداء المتزايدة ضد الولايات المتحدة وبخاصة في حربها على العراق.

وذكّر الأمير نايف تلك الجماعات بالجهود التي بذلتها حكومته من أجل منع الولايات المتحدة وبريطانيا من اعلان الحرب، وكأنه يحاول إقناع تلك الجماعات بأن حكومته عاجزة عن درء خطر الحرب، ولا بد لهذه الجماعات حينئذٍ أن تقدّر خطورة الموقف وأن تنأى عن تخريب الوضع الأمني الداخلي بما يحول دون إتاحة فرصة لتدخل أجنبي في المستقبل، حيث ذكر الأمير نايف في تصريح لصحيفة عكاظ اليومية أن 'الوطن مسئوليتنا الأولى ويجب أن نتجنب كل شيء يعرّض بلادنا للخطر، ومن يجتهد أو يعتقد بان الوقت مناسب لتقديم مصلحته على مصلحة الوطن مخطئ بكل المقاييس'.. موضحاً بأن 'الأنظار موجهة إلى منطقتنا المستهدفة، والواقع يحتم علينا التعامل معه بصرف النظر عن خطئه وصوابه لتجنيب بلادنا الآثار السلبية لذلك العمل (الحرب) الذي نرفضه'.

وفيما كانت أجهزة الأمن السعودية تترقب من جماعات دينية ولكن ذات توجهات سياسية أن تقوم بأعمال تؤدي في نهاية الأمر الى إضعاف حلقات الضبط الأمني في الداخل، فوجئت أجهزة الأمن بتزايد جرائم العنف بوتائر غير متوقعة. ففي مدينة جدة هاجم ثلاثة شبان سعوديين بعد صلاة الجمعة مباشرة عاملا هندياً في متجر بقالة بالرصاص أصابه في يده وساقه وسرقوا متجره. وبعد أيام قليلة كاد سعوديان أن يقتلا امرأة بريطانية بعد أن ضرباها بهرواة في وضح النهار في حي سكني مزدحم وسحباها من حزام حقيبة يدها لعدة أمتار وهما في سيارتهما قبل ان ينقطع الحزام ويفرا بالحقيبة. وعندما حاول شرطي بمفرده إلقاء القبض على مجموعة من المراهقين السعوديين في ناحية اخرى من المدينة كانوا يتنزهون بسيارة، تعرض لوابل من الحجارة وانتهى الأمر بان أطلق الرصاص على أحدهم كي ينجو بنفسه.

لقد أرجع بعض المراقبين تزايد معدلات الجريمة الى الانفجار السكاني المضطرد والمتعاكس مع التغير الاجتماعي السريع، والتناقص الحاد في عائدات النفط وبالتالي عجز الدولة عن الايفاء بالحد الأدنى من الحاجات الاساسية للسكان. فبحسب تقديرات مؤسسة النقد العربي السعودي المكافىء المالي لـ (البنك المركزي) فإن البطالة في المملكة بلغت نسبة 30.7%. وقال تقرير أصدرته المؤسسة أن الجريمة بين الشباب السعودي العاطل عن العمل زادت بنسبة 320% فيما بين 1990 و1996، ومن المتوقع ان تزداد الجريمة بنسبة 136% أخرى بحلول عام 2005. قال عبد الله زينل علي رضا رئيس الغرفة التجارية والصناعية بجدة في تصريح لوكالة رويترز 'نعرف أن هناك صلة بين تزايد الجريمة وتزايد البطالة.. ولهذا السبب فان توفير المزيد من فرص العمل هدف رئيسي لنا'.

صحيفة الرياض اليومية ذكرت أنه في عام 1999 نظرت المحاكم الشرعية في المملكة في 616 جريمة قتل، وكان العدد الأكبر من الجرائم في مكة المكرمة. وقالت الصحيفة في تقرير خاص عن الجريمة في المملكة نشرته مؤخراً على صفحتين أن الناس في غاية الحيرة. فثمة تساؤل كبير يردده سكان المملكة وهو: كيف يمكن للجريمة ان تتزايد باستمرار في هذا المجتمع المسلم؟ وكان طبيب بغرفة الجراحة والطوارىء في مستشفى الملك فهد العام بجدة قد صرح بأن المستشفى كان منذ عامين يشهد حادثاً أو حادثين لاطلاق النار كل شهر في المتوسط وكان معظمها غير متعمد. واستطرد قائلا: 'لكن الآن أرى ضحايا ما يصل إلى سبعة حوادث طعن واطلاق نار كل اسبوع'. ويقول أطباء في مستشفى الملك عبد العزيز في جدة أنهم يعالجون عدداً كبيراً من حالات العنف المنزلي والعنف ضد الاطفال. وقال طبيب بالمستشفى لوكالة رويترز 'زوجات يعانين من حروق بالسجائر وكسور في العظام وجروح.. أمر آخر محزن نراه كثيرا'. والمفارقة ان الأزواج هم ضحايا الاصابات الأشد خطورة وهذه نتيجة مباشرة لانتقام عائلات الزوجات.

إن ما تنبّه اليه الزيادة المخيفة في جرائم العنف يتعلق بجدوى تطبيق الحدود في المملكة باعتبارها جزءاً هاماً من أساليب الردع المتبّعة لدى أجهزة الأمن السعودية. فتطبيق الشريعة الاسلامية من خلال تنفيذ أحكام الإعدام بقطع الرأس علناً أمام الجمهور في قضايا القتل وتهريب المخدرات وكذلك حدود الاغتصاب والزنا وقطع يد السارق، لم يؤد الى إنخفاض معدلات الجريمة، بل هناك إعتراف متزايد بان عقوبة الاعدام لا تفيد كرادع يمنع وقوع الجرائم. ولعل هذا ما دفع الحكومة لاتباع أساليب أخرى غير تطبيق الحدود في معالجة الأسباب الجذرية للجريمة، منها فتح مستشفيات لمعالجة مدمني المخدرات في جدة والرياض والدمام، وبناء مراكز إعادة تأهيل بعض المجرمين بمن فيهم المتورطين في أعمال عنف وجريمة مسلحة من أجل دمجهم في قوة العمل المحلية.

إن الجهود المبذولة من جانب الحكومة السعودية غير كافية بالقدر الذي يسهم في تقليل معدلات الجريمة، وخصوصاً تلك المتعلقة بترويج المخدرات، فقد أعلنت قوات الأمن السعودية في شهر مارس الماضي عن القبض على أكبر عصابة سعودية لتهريب المخدرات ومصادرة 1125 كيلوجراما من الحشيش وعدد غير محدد من الأسلحة النارية كان في حوزتهم.

ورغم أن ثمة حظراً مفروضاً على وسائل الإعلام المحلية بشأن الكتابة عن الجرائم وأسبابها الاجتماعية، الا أن ثمة تسامحاً الى حد ما جرى في الآونة الأخيرة حيال هذا الموضوع نتيجة تزايد معدلات الجريمة وعجز الدولة عن الاستمرار في تبني خيار 'كل شيء على ما يرام'، فقد بدأت بعض الصحف بتخصيص صفحات لتغطية حوادث الجريمة بعد تكررها وتنوع مصادرها وأسبابها.

ثمة أحياء فقيرة قابعة داخل المدن تمثل أوكاراً للجريمة المنظمة، وهذه الأحياء تمثل أشبه ما يكون بآثام الدولة وتجسيدات لإخفاقها في تبني سياسات إقتصادية متوازنة. فالشميسي في الرياض والكرنتينة في جدة والباطنية في الدمام نماذج حية لأحياء معدمة داخل مدن الملح، وهي ليست سوى أعشاشاً تولد فيها الجريمة كرد فعل على الحرمان الاجتماعي مقابل مترفين يقبعون خلف جدر تلك الاحياء المعدمة. الزيارة التي قام بها الأمير عبد الله الى حي الشميسي بالرياض قبل عدة شهور والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة كشفت للحكومة حجم المعاناة التي يعيشها سكان ذلك الحي، وطبيعة الانفجارات الأمنية المتوقع حدوثها.

صحيفة عكاظ اليومية نشرت في مارس الماضي ثلاث حلقات عن حي الكرنتينة الفقير في جنوب جدة. وكان بحق تقريراً يثير الهلع، فقد تحدث صحفيون زاروا الحي خفية عن إنتشار الدعارة وتعاطي المخدرات وتهريب المشروبات الكحولية، حي لا يكاد يصدق المرء بأنه جزء من هذا البلد، أو أنه يقع على مسافة قريبة من المشاعر المقدسة، حي ترتكب فيه كل المخالفات بلا تمييز (انظر الحجاز، العدد 5، ص 8، 24). ويقول الصحافيون الذين زاروا الحي بأنه أصبح منطقة لا تستطيع الشرطة دخولها ليلاً.

وفي العام الماضي أعلن اللواء علي حسين الحارثي مدير الادارة العامة للسجون في السعودية عن إجراءات تستهدف تقليل عدد السجناء الذين يقضون فترات العقوبة في زنزانات مكتظة. وقال للصحفيين انه سيجري تخفيف العقوبات عن الجرائم الصغيرة حيث تحل الخدمة العامة والغرامات محل عقوبة السجن. وفيما يبدو أن كل الاحتياطات والتدابير الأمنية التي تتخذها الحكومة من أجل تقليل معدلات الجريمة باتت غير مجدية، ولا تمارس دور الكابح. فالبلاد باتت مسرحاً لحوادث أمنية ذات أشكال متنوعة، ويكفي للتدليل على ذلك بأن شهر مارس الماضي كان حافلاً بالحوادث المخلّة بالأمن العام. ففي الثامن عشر من مارس الماضي إنفجر في العاصمة السعودية الرياض منزلا عثرت قوات الأمن على اسلحة وذخائر بين أنقاضه. وبحسب ما جاء في التصريح الصحفي لوزير الداخلية الأمير نايف فإن الانفجار وقع 'في منزل يسكنه رجل أو امراة في شمال شرق الرياض' مضيفا ان 'قوات الامن عثرت في المكان على اسلحة وذخائر'. وأعلن الوزير انه لا يملك معلومات بعد حول احتمال وقوع ضحايا. ولكن معلومات جديدة ظهرت في الثالث والعشرين من مارس كشفت بأن شخصاً قد لقي حتفه في الانفجار، وقد ذكرت مصادر وزارة الداخلية بأن الشخص كان 'قد تلقى تدريبا في افغانستان'.

وجاء في بيان وزارة الداخلية بأن 'قوات الأمن عثرت في ركام المنزل على ثلاث قنابل يدوية و12 بندقية رشاشة من نوع كلاشينكوف وبندقيتين ومسدس ومتفجرات، كما عثروا على 87 مخزن بندقية رشاشة وأربع علبٍ من الذخائر و34 مخزن مسدس ومخزني بندقية إضافة الى مواد كيميائية كما اكتشفوا مختبراً وأوراق هوية مزوّرة ومبلغاً من المال قدره 142 الف ريال (37890 دولارا)'. وأشار البيان الى أن التحقيق متواصل في ملابسات الحادث، فيما ذكرت مصادر أخرى بأن رجلاً وامرأة غادرا المنزل فور حدوث الانفجار.

وفي حادثتين متشابهتين وقعتا في يومين متتاليين.. الحادثة الأولى وقعت في الدمام في تاريخ 22 مارس حيث قام شخص مسلّح بالهجوم على مؤسسة صرافة وهدد العاملين فيها وسرق ما مقداره 500 ألف ريال سعودي وجرح من جرح وهرب بعيداً عن أعين الاجهزة الامنية والجنائية. وبعد يومين من تلك الحادثة وقع حادث مشابه في جدة حيث تمكن أربعة مسلحين سعوديين من الاستيلاء على أكثر من 190 ألف ريال من فرع البنك السعودي الفرنسي بحي البوادي شمال جدة. وبدأت عملية السطو بقيام المسلحين في التاسعة من صباح ذلك اليوم بتهديد أحد مأموري الصرف في فرع البنك بواسطة سلاح ناري كانوا يحملونه وطالبوه بتسليمهم كل المبلغ الذي في خزنته والذي بلغ أكثر من 190 ألف ريال ثم لاذوا بالفرار فيما كان البنك يعج بالعملاء. وقد وصلت الجهات الأمنية في جدة الى الموقع بعد أن تمكن المسلحون من إتمام عمليتهم والفرار بعيداً عن أنظار الأمن الجنائي والبحث الجنائي وشرطة المحافظة وباقي أجهزة الاختصاص في مثل تلك الحالات.

في اليوم التالي أي الخامس والعشرين من شهر مارس أعلنت أجهزة الأمن السعودية عن مقتل أحد رجال الأمن السعوديين وإصابة آخر بجروح إثر تعرضهما لحادث إطلاق نارٍ من مجهول في مدينة سكاكا بمنطقة الجوف شمالي السعودية. وقال مدير شرطة منطقة الجوف في تصريح لوكالة الأنباء السعودية أن الحادث وقع في تمام الساعة الواحدة والربع ظهراً بالتوقيت المحلي أثناء أداء فرقة من ادارة المرور أعمالها في أحد شوارع مدينة سكاكا بمنطقة الجوف.

إن وقوع الحادث في منتصف النهار وخلال فترة عمل إدارة المرور يعكس والى حد كبير جرأة الناس على السلطة كما يعكس أيضاً إنكسار حاجز الخوف من الأجهزة الأمنية. نشير الى أن هذا الحادث قد سبقته حوادث قتل مشابهة في منطقة الجوف، ففي أواخر سبتمبر عام 2002 لقي القاضي عبدالرحمن السحيباني حتفه متأثرا بجراحه، كما ذهب في منتصف فبراير الماضي وكيل امارة منطقة الجوف الدكتور حمد الوردي ضحية حادث إغتيال غامض تعرض له، قيل أن أحد الأمراء السعوديين كان يقف وراءه.

إن إجمالي الحوادث الامنية المتزايدة بوتيرة متسارعة ينذر بمستقبل شديد الاضطراب في بلد لم يعد بإمكان الأجهزة الأمنية إحكام قبضتها عليه، فقد تهاوت هيبة الدولة وتراخت قبضتها الأمنية وليس هناك ما يمنع تطور الجريمة وتعقّدها سوى إعادة تركيب الدولة على أسس جديدة.

الصفحة السابقة