الدور السعودي في الحرب

تسهيلات عسكرية ثمناً لسبتمبر

سبق إعلان الحرب الأميركية على العراق نشاطات دبلوماسية محمومة بين مسئولين أميركيين وبريطانيين من جهة وقادة دول الخليج من أجل حصول قوات التحالف على تسهيلات عسكرية تتضمن استعمال القواعد الجوية وفتح الأجواء أمام طائرات وصواريخ قوات التحالف.

المملكة كان لها وضع خاص لدى الأميركيين، وكان الحصول على موافقتها قد تطلب حملة إعلامية مكثفة أجبرت العائلة المالكة في نهاية المطاف على إصدار موافقتها ولكن مع الابقاء على سرية الموافقة من أجل تفادي أية ردود فعل داخلية وخارجية.

بعد شهور من حملة إنتقاد واسعة شنتها وسائل الاعلام الأميركية على السعودية، وصفت الادارة الاميركية حليفها السعودي بأنه ''شريك جيد'' فيما تسميه الادارة بالحرب ضد الإرهاب. هذه الشراكة جرى تطويرها لاحقاً بحسب النوايا الأميركية المبيّتة للحرب على العراق، حيث أعلن متحدث بإسم البيت الأبيض قبل شهور من الحرب بـ''أن المسؤولين في واشنطن يعملون على تحسين مستوى المشاركة السعودية في الحملة ضد الإرهاب''.. هذه الحملة التي أقحمت دولاً مثل العراق ضمن أهدافها. وكان أري فليشر المتحدث باسم البيت الأبيض قال بأنه ''يتوقع من الشركاء الجيدين أن يقدموا المزيد''، ولا حاجة للتأكيد على أن السعودية تمثل أحد الشركاء الأساسيين.

ربما كان السياق التي صدرت فيه تصريحات المسؤولين الأميركيين يتصل بملاحقة فلول تنظيم القاعدة وقطع قنوات الامداد المالي في مركزها الايديولوجي والمالي، أي السعودية، الا أن الاخيرة تدرك بأن أهداف الإدارة الاميركية تتجاوز موضوع تنظيم القاعدة، بالنظر الى توافد القوات الأميركية الى الخليج قبل ستة شهور على أقل تقدير من اعلان الحرب على العراق.

ففي تصريح لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في 30 ديسمبر من العام الماضي نفى فيه ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن موافقه بلاده على فتح قواعد أمام القوات الأميركية في حال شن هجوم أميركي على العراق. وأكد الأمير سعود الفيصل رفض بلاده للضربة العسكرية ضد العراق وضرورة اللجوء الى الوسائل الدبلوماسية حتى في حال صدور قرار من مجلس الأمن. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت في الثامن والعشرين من ديسمبر من العام الماضي تصريحات لرئيس هيئة أركان القوات الجوية الأميركية جون بي جومبر جاء فيها أن :''المملكة العربية السعودية سمحت لبلاده باستخدام قواعدها الجوية ومركز القيادة في قاعدة الأمير سلطان، في حال شنها هجوما على العراق'' وأضاف بأن ''الجانبين يجريان محادثات عن تفاصيل التسهيلات التي ستقدمها الرياض''. هذه التصريحات جاءت بالتزامن مع وصول مزيد من القوات الأميركية إلى المنطقة في إطار الاستعداد لشن الحرب.

وقال الجنرال جومبر: ''أعتقد بقوة أن السعوديين سيعطوننا كل التعاون الذي ننشده، وكل الإشارات الموجودة لديّ أننا نحصل على كثير مما نطلبه''. وأضاف جومبر أن العلاقات العسكرية الأمريكية السعودية لم تتأثر كثيرًا منذ تدهور العلاقات السياسية بين البلدين في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وقال: ''على سبيل المثال، تم تخفيف القيود المفروضة على التدريبات الأمريكية في الشهور الأخيرة، كما يلعب العسكريون السعوديون دورًا بالغ الأهمية في العمليات التي تجرى في قاعدة الأمير سلطان''. في الوقت نفسه قالت الميجر ساندي ترويبر المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون: ''إن السعودية حليف قوي للولايات المتحدة، وتؤيد أيضاً الحرب على الإرهاب''. ونقلت نيويورك تايمز عن قادة عسكريين أمريكيين آخرين قولهم: ''إنهم تلقوا تأكيدات في أحاديث خاصة أن بإمكانهم شنّ حرب جوية ضد العراق بواسطة مركز قيادة متطور في قاعدة الأمير سلطان. وأضافوا أنه ''سيسمح لطائرات الاستطلاع والمراقبة وطائرات التزويد بالوقود بالطيران من قواعد سعودية، واستخدام المجال الجوي للبلاد من أجل القيام بمهام في حرب عراقية''.

هذه التصريحات المثيرة دفعت أكثر من مسؤول سعودي وبخاصة من هم في وزارة الدفاع للرد على التصريحات الأميركية، فقد نفى الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز، نائب وزير الدفاع السعودي قائلاً بأن :''ما ادعته الصحيفة الأمريكية غير صحيح''. وأضاف ''موقف المملكة واضح من البداية تجاه هذا الأمر، ونحن لا يمكن أن نضع مجالنا الجوي وقواعدنا تحت تصرف الأمريكيين في حال نشوب حرب ضد العراق''.

وفي السؤال عن طبيعة الوجود الأمريكي في قاعدة الأمير سلطان الجوية، قال الأمير عبد الرحمن: ''إن المملكة ملتزمة بما أقرته الأمم المتحدة بشأن مراقبة الحظر الجوي جنوب العراق، وهذا معروف للجميع، وليس لدينا أي التزام بأي أمر آخر تجاه العراق''.

وقد أبلغت القيادة السعودية الحليف الأميركي إنزعاجها من تصريحات الجنرال جومبر كونها سبّبت إحراجاً شديداً لها أمام مواطنيها المتعاطفين مع العراق والمناوئين للحرب، وكذلك أمام الدول العربية المناهضة للحرب. وقد إضطرت الادارة الاميركية الى تخفيف التصريحات والعودة الى نقطة البداية حيث أوضح مسؤولون أمريكيون أن كل مطالب البنتاجون الخاصة باستخدام القواعد الجوية السعودية لا تزال محل البحث.

وقد نُشرت تصريحات لاحقة في الصحف الأميركية مفادها أن المسؤولين السعوديين لم يتعهدوا علانية بمساعدة العمليات العسكرية الأمريكية في أي حرب عراقية. وقد توحي هذه التصريحات بطبيعة التوجه السعودي في الابقاء على سرية التعاون مع القوات الاميركية. وعلى حد المحلل السياسي في إذاعة بي بي سي البريطانية روجر هاردي ''السعوديون قلقون من التأثيرات المحتملة على الرأي العام المحلي لأي قرار قد ينظر اليه على انه تعاون مع المساعي الامريكية لضرب العراق. ولكنهم من ناحية اخرى حريصون على ترميم علاقاتهم مع الولايات المتحدة التي تضررت بشكل كبير بهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001''. ويعلّق موضحاً: ''ليست المرة الاولى التي تجد الحكومة السعودية نفسها مضطرة لمماشاة موقفين متناقضين في آن واحد''.

وكانت صحيفة الواشنطن بوست قد تحدثت في أول أسبوع للحرب على العراق عما أسمته بالازدواجية السياسية لدى الحكومة السعودية بناءً على الدور المزدوج الذي لعبته في الحرب حيث منحت في السر تسهيلات عسكرية لقوات التحالف وفتحت قواعدها أمام القوات الأميركية كيما تدير عملياتها الجوية ضد العراق، وفي نفس الوقت ساهمت في الجهود الرامية الى إيقاف الحرب ومعارضة استمرارها إرضاءً لمشاعر مواطنيها.

وفيما كانت وسائل الاعلام مشغولة بالتصريحات المتضاربة لدى المسؤولين الأميركيين والسعوديين حيال التسهيلات العسكرية التي ستقدمها الحكومة السعودية لقوات التحالف، كانت المحادث السرية بين القادة العسكريين الأميركيين والسعوديين تحقق تقدماً كبيراً، حيث ذكرت مصادر سعودية بأن قوات أميركية بدأت بالتقاطر على قاعدة الأمير سلطان الجوية قبل شهرين من انطلاق الحرب على العراق. فهذه القاعدة تحظى بإهتمام خاص لدى القيادة العسكرية الأميركية، وحسب المحلل السياسي روجر هاردي فإن ''القيادة العسكرية الامريكية تفضل استخدام القواعد السعودية بما فيها من امكانات فنية متطورة، بالرغم من قيامها بتطوير قواعد اخرى في قطر لاستخدامها كبديل في حال إصرار السعوديين على رفض استخدام قواعدهم في الحرب على العراق''.

المثير في الأمر أن ثمة ثمناً فرضه الأميركيون على الحكومة السعودية من أجل ترميم بنية التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الذي بدأ في التصدّع منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ففي تصريح مثير للدهشة للمرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة ديفيد ليبرمان الذي كان قد زار عدداً من الدول العربية قبل نشوب الحرب جاء فيه أنه ''أبلغ المسؤولين السعوديين بأنهم لو قرروا دعم الجهود الامريكية ضد العراق فإن من شأن ذلك المساعدة في اصلاح ما تسببت فيه هجمات سبتمبر من اضرار للعلاقات بين البلدين''.

ومع بداية القصف الصاروخي المكثف على بغداد والمدن العراقية الكبرى في الجنوب والشمال والوسط، وظهور صور الدم والدمار والهلع من جراء سقوط الصواريخ على المباني السكنية، والذي أدى الى تفجّر غضب عارم في الدول العربية والاسلامية، إضطرت القيادة السعودية للانحناء أمام الاتجاه الشعبي العام الرافض لما يجري على الشعب العراقي، حيث عبر وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عن '' قلق المملكة البالغ وأسفها الشديد'' لبدء العمليات العسكرية ضد العراق، مؤكدا مجدداً أن المملكة ''لن تشارك'' في الحرب على العراق. ونقلت وكالة الانباء السعودية عن مصدر رسمي سعودي قوله ''أن القوات المسلحة السعودية لن تدخل تحت أي ظرف شبراً واحداً من الاراضي العراقية''، فيما أشار الأمير سعود الفيصل في تصريحه الى بذل جهود ''في سبيل حماية أمن السعودية واستقرارها ووحدتها الوطنية''. هذه التصريحات قد تكشف الى حد كبير معنى التعاون العسكري السعودي في الحرب الأميركية على العراق، بما لا يشمل فتح القواعد والأجواء أمام الطائرات والصواريخ الأميركية، كما يكشف المخاوف السعودية من الانعكاسات المحتملة للحرب على وحدتها الوطنية وأمنها الداخلي.

وفيما كانت الحملات الصاروخية تتصاعد على بغداد والمدن العراقية، كان الموقف السعودي يزداد حراجة إزاء أي تسريبات حول الصلات المحتملة للحكومة السعودية بما يجري في العراق. فقد ظهر بعد أربعة أيام من الحرب بأن ثمة توتراً في العلاقات السعودية الأميركية إزاء مطالب أمريكية بإبداء المزيد من المساعدة في الحرب. وكان مسؤولون أمريكيون صرحوا في الرابع والعشرين من مارس الماضي بأن وزارة الدفاع الأمريكية تضغط على الرياض من أجل زيادة ما أسموه تعاون المملكة. وقال أحد المسؤولين: ''يعتقد البنتاغون أنه يستطيع شن الغارات من خلال المملكة''.

إن الحديث عن مناقشات بين القيادتين العسكريتين الأميركية والسعودية حول زيادة التعاون العسكري السعودي في الحرب على العراق جاءت في أعقاب المشاكل التي واجهتها القوات الأميركية في الجبهة الشمالية نتيجة الرفض التركي في المرحلة الأولى من الحرب بفتح أراضيها للقوات الأميركية. وكان مسؤولون أميركيون قد ذكروا بأن ''المملكة العربية السعودية أصبحت دولة هامة في التخطيط العسكري الأمريكي بعد رفض تركيا السماح بنشر نحو 62000 جندي أمريكي والذين كانوا سيدخلون عبر الحدود الشمالية من العراق''. وهذا ما أدى في الناتج النهائي الى تكثيف البنتاغون ضغوطه على القيادة السعودية للتمكن من إستخدام مجالها الجوي ومناطقها في كل من العمليات المضادة للعراق وكطريق إضافي تستخدمه واشنطن في الحرب.

وفي الثامن والعشرين من مارس الماضي وقعت مفاجأة غير سارة للقيادة السعودية إثر سقوط عدد من صواريخ توماهوك في الأراضي السعودية، وكان ذلك يمثل رأس الجليد في موضوع التعاون العسكري بين السعودية والولايات المتحدة. وكيما تخفف القيادة العسكرية الأميركية من إنعكاسات الموضوع على الساحتين المحلية والعربية قررت وقف قصف العراق بصواريخ توماهوك عبر الاراضي السعودية. وقال الميجور جنرال فيكتور رينورات في مؤتمر صحفي بمقر القيادة المركزية الوسطى في قاعدة السيلية بقطر أن القوات الاميركية واجهت هذه المشكلة مع السفن الراسية في البحر الاحمر والبحر الابيض المتوسط. غير أن توضيحاً لاحقاً بدد ما كان يعتقد بأنه توقف تام عن استعمال للأجواء السعودية، حيث قال رينوارت ان الولايات المتحدة تعمل على اصلاح الخلل ''وسوف نعود الى السعودية لاستئناف القصف عندما يكون ذلك ملائماً''. وأضاف ''أن القوات الاميركية تأمل معاودة استئناف القصف دون تعريض المناطق المأهولة بالسكان في السعودية الى الخطر''.

ربما كان تصريح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في بداية أبريل لمحطة تلفزيون أميركية والمتضمن دعوة للرئيس العراقي بالتنحي عن الحكم إنقاذاً لشعب العراق وتجنيباً له من ويلات الحرب، قد فجّر الغضب العراقي حيال موضوع التعاون العسكري السعودي الأميركي. فقد إعتبر مسؤولون عراقيون بأن ''السعودية شريك كامل'' في الحرب على العراق، فيما وصف نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان في رده على تصريح الأمير سعود الفيصل بأنه وإبن عمه الأمير بندر عملاء للسي آي أيه، وحمل على موقف السعودية المهادن من الحرب على العراق.

الخلاصة: إن ما يميّز موقف السعودية من الحرب هذه المرة أنه يتسم بالسرّية الشديدة ويختفي خلف موجة كثيفة من التصريحات المناوئة للحرب، إضافة الى ''التسهيلات الاعلامية'' التي منحتها الحكومة لأصحاب الرأي كيما يفرغوا شحنات الانفعال والغضب ضد الولايات المتحدة على أن تنال الأخيرة ما تريد من قواعد السعودية وأجوائها.

الصفحة السابقة