دولة (غير)!

تتغير الاشياء من حولها، بدءاَ من العمران ووسائل الانتاج وأساليب العمل والنشاط الاقتصادي، ومروراً بالمستويات المعيشية والترقي الاجتماعي وشبكة العلاقات ونظام القيم، وانتهاءً بالنظرة الكونية وبالوعي بالسياسي والتطلعات الطموحة نحو التغيير.. ولكنها تصرّ على نكران كل ذلك، وتعتقد بأن (كلمة الدولة واحدة) كما الرجل لا تتغير.

دولة لا يعنيها ما يتغير من حولها، ولا ترى نفسها ملزمة بالخضوع كما باقي الاشياء في الدنيا لسنن التحوّل والتبدل، فهي دون باقي الاشياء لا تحتكم الى قوانين التغيير ولا الى سنن التطور والتحوّل، وإذا ما أرادت فلا بد أن يصدر أمر ملكي سامٍ بذلك. فليس هناك قوة قادرة على إكراه الدولة بقبول ما لا ترضاه، كما هي فحوى تصريحات متكررة لوزير الداخلية الأمير نايف.

دولة فقدت اللياقة الذهنية على حساب ما يتغير من حولها، وإن كان المتغير كبيراً وله إنعكاسات مباشرة وخطيرة على أوضاعها الداخلية وتفت في إستقرارها وتماسكها. ثمة إعتداد لا مبرر له سوى الشعور الكاذب بالقوة والقدرة على مجابهة قوى التغيير، إن ذلك الاعتداد يقدّم دليلاً آخر على أن الدولة فقدت رشدها حتى باتت عاجزة عن رؤية الاشياء من حولها بشكل صحيح.

الدولة السعودية لا تحسب على وجه الدقة ما يجري في الداخل، وبخاصة المرتبط منه بالاتجاه الاصلاحي المتنامي وسط شعبها والمطالب بإجراء تغييرات جوهرية في تركيبة السلطة، وإعادة تشكيل الدولة على أسس جديدة يكون فيها ضمان توزيع السلطة بصورة عادلة ومتكافئة بين سكان الدولة بكافة مناطقها وطوائفها وقبائلها. منذ أكثر من عقد والصوت المطلبي يتنامى ويتردد في سماء هذه الدولة من غربها الى شرقها ومن شمالها الى جنوبها ووسطها، عبر عرائض، وجماعات سياسية، وكتابات صحافية محلية وخارجية، وتصريحات إذاعية وتلفزيونية من شخصيات سياسية وطنية ودينية، كلها مجمعة على أن الدولة في مسيس الحاجة الى إصلاحات جوهرية من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن آذان القائمين على الدولة لا يسمعون فقد سدّت إحدى الأذنيين بطين والأخرى بعجين.

كما لم تحسب هذه الدولة ماذا يجري بالدقة من تحولات خلف الحدود، فقد كان دعاة الاصلاح يأملون في أن ينبّه المتغير الاقليمي ولاة الأمر الى ضرورة السير مع تيار التغيير، فقالوا بأن التغيير في أي من دول الخليج باتجاه الديمقراطية سيفتح الباب أمام الشقيقة الكبرى كيما تنضّم الى نادي الديمقراطية العالمي، ولكن لم يحصل شيء من ذلك، فقد تغيّرت الكويت، ومن بعدها عمان ثم الامارات والبحرين وأخيراً قطر وبقيت الشقيقة الكبرى عند كلمتها المقدّسة.

ثم توسّع هذا المتغيّر الاقليمي في وقت لاحق، وأمّل دعاة الأصلاح أن يحدث زوال نظام صدام حسين رنيناً وضجيجاً في أسماع ولاة الأمر، سيما وأن موجة أحاديث إنطلقت من الغرب قبل سقوط الصنم بأن السعودية ستكون هدفاً تالياً في الأجندة الديمقراطية، وقلنا لعلها تستبق الأحداث وتخوض معركة تصحيحية واسعة النطاق في الداخل كيما تبنى تحالفاً صلباً مع شعبها في مواجهة مخططات الخارج، ولكن جاءت النتائج مخيبة كخيبة الدولة السعودية نفسها. فسقط الصنم وعادت السعودية الى عادتها القديمة في تخييب أمال مواطنيها، فجاءت التركيبة الوزارية الجديدة قديماً كرسالة شديدة الوضوح على خصومة الدولة التاريخية مع التغيير، فالتركيبة هذه لم تحبط آمال من إرتقبوا (الأمر الملكي) وطبّلوا له قبل إعلانه فحسب سيما وقد أشعروا من فقدوا الاحساس بصدق نوايا الدولة وهم أغلبية المواطنين على أن التركيبة الوزارية ستكون صندوق المفاجآت.. فجاءت دون إحساس غير المؤمّلين بها خيراً، فما بال من عملوا طبّالين في فرق دعاياتها.

ربما هناك من يهمس في أذن ولاة الأمر ليخيفهم من التغيير، فكلما طرحت مسألة التغيير أصروا على السير بخلاف تطلعات السكان، ولذلك فهم لا يؤمنون بسنن التغيير لأن تلك السنن وجدت كما يخبر سلوكهم عن ذلك من أجل الانتقاص من سلطانهم وتقليص ما حصلوا عليه من إرث الأباء والأجداد. ولذلك فإن الدولة رغم تبنيها للعقيدة الاسلامية الا أنها لا تؤمن بالسنن الآلهية، ولكن هي مؤمنة بالسلفية السياسية القائمة على أساس مناهضة التغيير وإبقاء الحال على ما هو عليه تأسياً بالسلفية الحرفية المتشددة، التي ترى إقتفاء سيرة الماضين وسلوكهم أمراً إلهياً منزلاً.

ولكن سنن الله في التاريخ والاجتماع كما في الطبيعة جارية، وأن التغيير والتحوّل سنّتان ماضيتان في الدول والحضارات والأمم، وهناك قوانين تسري عليها جميعاً. فظلم العباد باعث على نقمتهم ومما يغضب له الخالق، وتالياً الى سقوط الدول والحضارات، كما أن الفساد بكل أنواعه سبيل الى زوال الحضارات والأمم، إذ لا يمكن للفساد أن يعمّر الأوطان أو يصون البلدان، تماماً كما أن الحرمان والتطفيف السياسي والاجتماعي لا يمكن أن يصنع وحدة أو يبني أمة.

الدولة السعودية تصرّ بشدة على أن ما يجري حولها لا يعنيها بشيء وسينجلي الغبار عن حقيقة أنها دولة الحق والعدل والاستقرار وأنها لا تسير وفق قوانين وسنن التغيير بل وفق أوامر سامية وقرارات حكيمة صادرة عن حكماء يتمتعون بحكمة إفلاطون ولسان أرسطو، وهي بتلك المعايير الخارقة للعادة دولة غير الدول، ولكن بالمقلوب.

الصفحة السابقة