دولة عاجزة وآفلة وخائفة

السعودية وقلق (تصدير) الثورة المصرية!

عبدالحميد قدس

قالوا عن الحدث المصري بأنه شقّ بداية شرق أوسط جديد؛ أو حتى بداية عالم جديد. ذلك أن مصر تمثل عمود الخيمة ليس في العالم العربي وحده، بل في مجمل منطقة الشرق الأوسط. وبلا شك فإن تأثير سقوط النظام المصري، يعني تغييراً عميقاً في الوضع السياسي لمجمل كيانات الشرق الأوسط. لقد هزّت الثورة المصرية العالم العربي الذي مضى على سكونه عقوداً طويلة حتى بلغ اليأس من التغيير غايته، وبلغت الروح الى الحلقوم.. وإذا بالبشائر تترى من تونس فتطلق عنفوان الثورة في مصر، بحيث ارتعدت فرائص الأنظمة الأخرى من أن يأتي دورها.

أمراء السعودية تابعوا ويتابعون بقلق بالغ ما يجري؛ فهم من أكثر الخاسرين من سقوط مبارك وتغيير نظامه. والسعودية بالذات أكثر تأثراً بما يجري في مصر، دون أن يعني ذلك أنها الأقرب الى التغيير والثورة بعد أن سقط صنم القاهرة.

الأمراء السعوديون أكثر من أي حكام آخرين في المنطقة تأثراً بما حولهم. فالنظام السعودي يعتقد بأنه قادر على ضبط الأوضاع الداخلية اعتماداً على قواه الذاتية، الأمنية والقمعية. ولكنه في ذات الوقت يعتقد بأن أغلب المشاكل الناجمة لديه، لا تعود الى ممارساته من ظلم وطغيان وفساد، بل الى تحريض خارجي، غالباً ما تأتي به ـ أو يكون ناتجاً عن ـ الثورات والتحولات السياسية الإنقلابية في دول الجوار: كالعراق واليمن ومصر وحتى إيران.

ولقد أضيف فيما بعد أحداث سبتمبر 2011 عامل جديد زاد من قلق الأمراء السعوديين من (الخارج)، حيث بدأوا بالنظر الى الولايات المتحدة الأميركية كعامل محتمل للإنقلاب على حكمهم وإسقاطه، إما بالطريقة العراقية المباشرة (غزو واحتلال)، وهو أمر لم يحدث، وقد آمن الأمراء أن هذا الأسلوب الأميركي قد ولّى الى غير رجعة ولن يتكرر لديهم أو في أي بلد آخر.. وهناك الطريقة غير المباشرة التي نشهد بعضاً من فصولها في تونس ومصر، حيث ـ وفي أدنى الحدود ـ قد يتخلّى الأميركيون والبريطانيون عن دعم النظام السعودي في وقت الشدّة والحرج، وربما نصحوا بعض قادته بأن يغادروا! هذا ما يقلق آل سعود اليوم من (الخارج)، وهو ما يغضبهم من موقف أوباما بالذات ومن قادة الإتحاد الأوروبي.

إن غياب النظام المصري عن ساحة الأحداث وفي هذا الوقت الحسّاس أمرٌ يرعب الأمراء السعوديين. فقد أخذتهم الثورتان التونسية والمصرية على حين غرّة، وباتوا مقتنعين اليوم بأن هناك فصولاً أخرى لثورات عربية لم تكتب بعد، فمن يدري لعل بعضها يكتب في الرياض نفسها، وليس في جوارها فحسب (اليمن والأردن).

يدرك الأمراء السعوديون أن الثورات لا تتوقف عند الحدود، بل تلقي بتأثيراتها المباشرة على مناطق قريبة وبعيدة. الثورات تصدر ذاتها، وتجارب الجيوش والشعوب، تستنسخ بسهولة. وإذا كان السعوديون قد أشبعوا الثورة الإيرانية لطماً من جهة (تصديرها) ولو كنموذج نظري.. فإن أمامهم اليوم امتحان شبيه لذلك تماماً، إن لم يكن أصعب من الإمتحان الإيراني بمراحل.

ماذا سيفعل أمراء آل سعود إزاء الثورة المصرية التي انتصرت في 11/2/2011.. والتي أظهرت بمجرد ان انتصرت أن لا أحد يستطيع أن يمنع انتقال تأثيراتها الى الخارج؟ الأمراء لاحظوا كيف أن ثورة يوليو 1952 والتي بدأت بانقلاب عسكري، قد صدرت تجربتها الإنقلابية لعدد من الدول العربية كما في اليمن وليبيا وحتى العراق، وأطلقت العنان لخيال عدد من الضباط السعوديين ليجربوا الإنقلابات العسكرية التي تعددت أكثر من مرة منذ عام 1956. ولاحظ الأمراء السعوديون أيضاً كيف استقبل العسكر المسعود في قاعدة لهم في الطائف الإنقلاب على الملكية في العراق عام 1958 وهم يهتفون: باقي إثنين، واحد وحسين (المقصود بـ واحد هو الملك سعود حينئذ).

لكن ما يخشاه الأمراء أكثر، هو التداعيات السياسية لسقوط النظام المصري. فبغض النظر عن إمكانية قيام حركة احتجاج شعبية واسعة داخل السعودية من عدمه، وبغض النظر عما إذا كانت واشنطن ستقف مع النظام أو على الحياد.. فإن زلزال الثورة المصرية سيصيب على الأرجح أول ما يصيب، دولتين حدوديتين أخريين للسعودية: اليمن والأردن.

اليمن ـ كما كشفت وثائق ويكيليكس ـ وحتى قبل قيام الثورة المصرية كان مرشحاً للإنهيار. والحقيقة فإن انهياره كان مسألة وقت. والسعوديون يدركون هذا، وقد كان موضوع حماية حاكم اليمن على قائمة أجندتهم. حسب ويكيليكس فإن السفير الأميركي في السعودية جيمس سميث قد كتب لوزيرة الخارجية قبل أيام من سفرها الى الرياض (10RIYADH178، مؤرخة 11/2/2010) بأن الأمراء السعوديين مهتمون بـ (منع انهيار اليمن) موضحاً (مخاوف السعودية من أن عدم الاستقرار على الحدود الجنوبية هو خطر واضح وحاضر). وأوضح السفير بأن حضور القاعدة في اليمن يمثل تهديداً للرياض، التي ترى بأن هناك حاجة لدعم علي عبدالله صالح بالرغم من عدم ثقة الملك به. واضاف السفير بأن السعودية (خلصت الى أن التمرّد الحوثي قد أذهل حكومة علي عبد الله صالح ما أدى إلى تضرّر الأمن السعودي).

على الأرجح، فإن السعودية ستعاني كثيراً من سقوط نظام علي عبدالله صالح الذي هو صنيعتها. وإذا ما طال عمر النظام هناك، وأبدى ممانعة شديدة لضغوط الجماهير، فإن حصيلة التوتر هو الإنفلات الأمني، وهو ما سيؤثر على الإستقرار في السعودية بصورة مباشرة.

لا يدري الأمراء السعوديون أية مصيبة يواجهون: هل هي مصر وتداعيات سقوط النظام عليها، أم هي اليمن.. الدولة الفاشلة التي صارت مصدراً للمتاعب والتي تبدو السعودية فيها بلا خيارات حقيقية غير خيار الوقوف الى جانب نظام صنعته ولا تحب رئيسه بعد أن قوي عوده! أم هي الأردن، الملكية الأخرى التي كانت يوما ما منافسة، والتي قد يشجع سقوطها او التعرّض لها، المواطنين المسعودين على فعل المثل تجاه آل سعود؟

في الخمسينيات الميلادية الماضية، ألقت مصر الثورة بتأثيراتها الهائلة على السعودية، شعباً وجيشاً ونظاماً، حتى ترنّح النظام وكاد أن يسقط، لولا أن تداركت العائلة المالكة الأمر فأسقطت الملك سعود، الذي لم يستطع مجابهة تحديات المرحلة آنئذ، وجاءت بالملك فيصل، الذي (أبدع!) في حربه ضد عبدالناصر.

واليوم، لا تستطيع العائلة المالكة التعايش مع نظام وطني في مصر (ولا نقول مع نظام ثوري). أمراء السعودية يتعايشون مع نظرائهم من الحكام الفاسدين مثل السادات وخليفته مبارك. وبعد أن قام نظام جديد في قاهرة المعز، فإن السعودية ـ على الأرجح ـ ستكرر مواقفها القديمة التي حدثت في الخمسينيات والستينيات الى أن سقط الرمز عبدالناصر في حرب 1967، ثم وفاته عام 1970.

يستطيع المرء أن يتنبّأ بماذا ستفعله السعودية مع النظام الجديد في مصر. فهي منذ الآن تشتم عبر إعلامها من يحتمل أن يشاركوا في الحكم، من الليبراليين والعلمانيين والإسلاميين. وهذا يثبت أن مشكلة السعودية ليست أيديولوجية، بل مشكلتها أنها تريد نظاماً تمتطيه وتوجهه لمصالحها كما فعلت مع مبارك والسادات من قبل.

ستقوم الرياض على الأرجح بمناصبة النظام المصري الجديد العداء منذ أن يولد. ستنظر اليه بريبة وخشية وخوف. ستحاول تخريبه من الداخل وشراء من يمكن شراؤه من شخصياته السياسية. سيتدخل المال السعودي في أية انتخابات حرّة قادمة. ستفعّل السعودية نشاط سلفييها في القاهرة والإسكندرية وتسيسهم ليقوموا بدور المعارضة، بعد أن أبقتهم في دور الموالاة في العهدين المباركي والساداتي!

والسعودية، إن تطورت علاقاتها مع النظام المصري القادم باتجاه المواجهة، فإنها ستعمد الى محاولة الإطاحة به، عبر تشجيع الإنقلاب العسكري إن أمكن، أو عبر الإغتيالات، والمؤامرات كما فعل الملك سعود برشوته المعروفة للضابط عبدالحميد السراج.

ويمكن لنا أن نتوقع استخدام السعودية لكل اسلحتها الإعلامية والإقتصادية ضد مصر.. الى حد طرد العمال والأساتذة المصريين كما فعلت من قبل في الخمسينيات والستينيات، وكذلك وقف المساعدات كما فعلت ذلك في وقت قريب مع سوريا. ولربما افتعلت وغذّت السعودية حروباً، كما فعلت مع إيران، وكما فعلت مع مصر نفسها في حرب اليمن 1962-1967. وأخيراً بإمكان السعودية أن تكرر ما فعلته عبر الأحلاف المعادية لمصر، مثل الحلف الإسلامي، واستخدام الأيديولوجيا الإسلامية ضد قومية القاهرة (الكافرة). وكذلك إقامة تحالفات إقليمية مع الأردن وأحياناً سوريا والعراق، لمواجهة النفوذ المصري، ويمكنها أن تضيف اليوم (اسرائيل)!

لا ننس أيضاً أن الأمراء السعوديين قد بدأوا فعلا باستقبال جنود المستقبل من بقايا النظام المصري المندحرين، بحجة الإستجارة وإغاثة الملهوف!، كيما يتم استخدامهم في الحروب السعودية المستقبلية مع النظام المصري الجديد.

باختصار.. يرجح أن لا تستطيع السعودية التعايش مع أي نظام وطني مصري قادم، في حين لا نعلم ما إذا كان النظام الجديد الذي يتشكل في القاهرة مستعد لإرضاء السعودية (على الأقل في السياسة الخارجية، وهو أمرٌ مستبعد).

لا يبدو أن السعودية تستطيع أن تفعل ما فعلته من قبل. فالنظام السعودي في أدنى حالات ضعفه وشيخوخته.

والولايات المتحدة تواجه أيضاً نفوذاً منحسراً في الشرق الأوسط لم تشهده من قبل. وهي بهذا لا تستطيع أن تقوم بما قامت به سابقاً. لقد تغير الوضع الإقليمي والدولي، بشكل أفقد الأمراء السعوديين أوراقاً عديدة كانوا يستخدمونها، وحبالاً طويلة يلعبون عليها.

السعودية آفلة كدولة، ومصر الثورة ستنتج نظاماً يجدد شباب الدولة، ويعيد لها مركزيتها.

ليس أمام العائلة السعودية المالكة إلا أن تتأثر سلباً، وأن تنعزل، وربما تتغير بالحسنى أو بالقسر!

الصفحة السابقة