البراغماتية الرثّة

مصداقية العودة بعد ثورة تونس

شاءت الاقدار أن يكون الجواب على المقالة ـ الإشادة بالحريات في تونس في عهد الرئيس المخلوع الهارب زين العابدين بن علي التي كتبها الشيخ سلمان العودة ـ من الشعب التونسي نفسه، وشاءت الأقدار أن يكون مأوى بن علي هي السعودية، موطن العودة!

عمر المالكي

الشيخ سلمان العودة كتب مقالاً بعنوان (الإسلام والحركات) نشر في 12 نيسان (إبريل) 2009، بعد زيارة قام بها الى تونس جاء في مقدمته:(زرت بلداً إسلامياً، كنت أحمل عنه انطباعاً غير جيد، وسمعت غير مرّة أنه يضطهد الحجاب، ويحاكم صورياً، ويسجن ويقتل، وذات مؤتمر أهداني أخ كريم كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهد في ذلك البلد العريق في عروبته وإسلاميته. ولست أجد غرابة في أن شيئاً من هذا القيل حدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة، أو بتصرف شخصي، أو إيعاز أمني، أو ما شابه). ولكن..قاتل الله لكنات المشايخ، ماذا حصل؟. يقول العودة (بيد أني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه).

وفق هذه القراءة الميدانية المزعومة، توصّل الى حجم (التفاوت الذي أدركته بين ما شاهدته وبين ما كنت أسمعه..)، وماتفرضه القراءة من ضرورة (تصحيح الصورة الذهنية المنقولة)، على أساس أن (في جو العزلة والانغلاق تشيع الظنون، وتكبر الأحداث الصغيرة، وتتسع الهوّة والفجوة، ويفقد الناس المعلومات فيلجؤون إلى الشائعات، أو الحقائق الجزئية ليعتمدوها في تكوين النظرة الكلية). ينبئك العودة في قراءته وكأنه كان مخدوعاً طيلة سنوات طويلة بفعل (شائعات) و(دعايات) المعارضة التونسية التي أضلّته عن سبيل الحق الذي كان عليه الرئيس زين العابدين بن علي، الأمر الذي حدا به لأن يفشي لجلسائه سرّاً خطيراً حين قال لهم (إن علينا أن نفرّق بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية)، على أساس أن الانظمة قد تضيق بالحركات الاسلامية التي تزاحمه في سلطته ولكنها لا تضيق بالإسلام الذي (ربما تقبله بقناعة، أو تقبله على أساس الأمر الواقع، أو حاول أن يعوض ويمنع الدعاية السلبية ضده باعتماد مدرسة إسلامية قد تكون ملونة باللون الذي يحب ويختار، ولكنها تستجيب لحاجة التدين في النفوس).

مرونة غير مسبوقة لدى العودة الذي اتسّم خطابه بالصرامة والقطع في فترة الصحوة التسعينية، ولو كان يعلم بأن تونس ستكون المحطة الأولى التي ينطلق منها قطار التغيير الثوري في العالم العربي ما كان يقدم على إهداء النظام التونسي تقييماً ما كان يحلم به أو كان يطلبه من خصومه في الداخل والخارج ولم يجده.

وقد أثارت مقالة العودة ردود فعل واسعة لدى طيف من الكتّاب والناشطين السياسيين التونسيين الذي هالهم ما قرأوا في مقالة العودة، وهم الذين اعتقدوا بأن الأخير قد اطلّع على مخازي الاستبداد في تونس في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وكان الشيخ ابراهيم الحقيل، الصحوى والمقرّب من العودة، قد ردّ على موقف العودة من الشعب التونسي بقوله (وفي نظام تونس القمعي المستبد..كم زكّاه من شيوخ النظام وهذا مفهوم -وإن لم يكونوا معذورين- لأنهم يخافون سطوة هذا النظام.. لكن من غير المفهوم أن يتبرع داعية ليس من بلادهم وفي غنى عنهم فيعطي النظام تزكية لا يحلم بها نظام أقل منه استبداداً وأكثر اعتدالاً، ويطعن في المناضلين الإسلاميين، والثمن رحلة سياحية لتونس بضعة أيام، فما أرخص المبادئ والمواقف حين تباع بهذه الأثمان!! ولا أجد تفسيراً لذلك إلا أنه خذلان من الله تعالى، وإلا فكل المنظمات الحقوقية الدولية والعربية مجمعة على أن النظام التونسي في عهد الطاغية بن علي أشد أنظمة العالم قمعاً واستبداداً في وقته..

ويأتي هذا الزلزال الشعبي ليكذّب هذه التزكية الرخيصة، فهل يظفر الشعب التونسي بكلمة اعتذار من هذا الداعية..أتمنى ذلك.. وإن كنت أشك فيه.. بل لا أستبعد أن يقلب البوصلة باتجاه الشعب الثائر تمجيداً له ومدحاً فيه وهو بالأمس يزكي قامعه.. ولن يعد ذلك تناقضاً؛ لأننا في زمن الانقلابات وتقلبات القلوب.. وتبديل المواقف بحسب ما تمليه المصالح الشخصية..وكل ذلك يجري تحت لافتات الحرية والشفافية والأحلام المثالية ومدن أفلاطون الفاضلة..).

على أية حال، فإن ازدواجية العودة باتت سمة ملازمة لأدائه، الذي لم يستطع حتى الآن التخلي عنها، فهو يضبط إيقاعه بحسب ما يتطلبه الجمهور، ولذلك نسي عمداً وعن سابق تصميم وإصرار ما خطّه في وقت سابق عن تونس، وعاد ليضع نفسه في صفوف الثوّار، وربما المنظّرين للثورة. ولأن العودة لم يعتد البته الاعتذار والتراجع، شأن مواقفه السابقة التي مازالت صالحة الاستعمال من أي طرف كان طالما لم يصدر بشأنها رأي من العودة نفسها يضع حداً لصلاحيتها المفتوحة، فإنه قرر ببساطة أن يعتبر نفسه من المبتهجين لثورة تونس. وجّه مشفّق عليه ومخلص له نصيحة بأن يعتذر العودة للشعب التونسي الشقيق (لمافعله سابقاً من نصرة للظالم وخذلان لإخوانه في تونس في وقت كانوا في أمس الحاجة للنصرة..).

لم يخيِّب العودة ظن الحقيل، فقد بادر الى الاشادة بالحراك الشعبي في تونس ومن ثم في مصر ونسي ما قاله سابقاً. يقول في مقالة له في صحيفة (عكاظ) في 5 شباط (فبراير): (تجافى النوم عن عيني البارحة، وظلت المشاهد التي رأيتها على الشاشات تحاصرني بالفرح حينا لشباب واع منضبط يهتف لأحلامه ويصبر من أجلها، ويمارس وعيا كبيرا بأهمية الانضباط والحفاظ على المكاسب وعدم الاستجابة لأي استفزاز..). يتذكّر العودة تونس هنا (وما حدث في مصر ومن قبل في تونس فهو شيء يدعو للتوقف والاعتبار، خاصة من أولي الأبصار). ولاشك أن العودة بعد ما اكتشفه بعد ثورة تونس تجعله أول المدعوين للتوقّف والاعتبار، أليس كذلك أيها الشيخ؟!

هل أدرك العودة الآن (أننا أمام مرحلة جديدة من «الوعي» الشعبي وتنامي الإحساس بالحقوق لدى شعوب العالم بأسرها). وهل الآن تنبّه الى حقيقة (ليس ثم مفاجآت أو مصادفات، كل التفاصيل متصلة بمنظومة من الأحداث والمتغيرات، والمشكلة أننا قد لا نراها جيداً إلا بعد أن تكبر، وأن هناك من يحاول تزوير الصور أو إغراقنا بجرعات من الطمأنينة على أوضاعنا حتى إذا وقعت الواقعة قلنا: أنى هذا؟). وهل تنبّه أيضاً (إنني ألحظ تأخراً شديداً في فهم الموقف واستيعابه، يجعل السياسي يتأخر في مواقفه، وربما قدّم تنازلات ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تجاوزها الحراك الشعبي الذي يتصاعد بطبيعة الحال، ويرفض اليوم ما كان ممكناً بالأمس، ثم يمضي لآخر الشوط، ويريد أن يصل إلى طموحه النهائي!).

وليتذكّر العودة نفسه ما يقوله الآن من بينها (قبل أن تسمع هذه الدول الهتافات لسقوط النظام وقبل أن تهرع إلى ترسانتها الأمنية التي قد لا تسعف، يجب أن تعلن حزماً من الإصلاحات الجذرية، لا يكفي توزيع بعض الفتات على الناس..الأمن يصلح في مواجهة العنف، أما العزل الذين خلعوا الخوف وامتطوا الصبر والإرادة فيحتاجون إلى لغة أخرى.. أكلت الأرض منسأة الترويع وتعجب الناس من صبرهم الطويل على من كان متكؤه عصا غليظة منخورة آيلة للسقوط).

إن الأخطاء المتكررة التي يقترفها الشيخ العودة في موضوعات بالغة الحساسية مثل مواقفه الفكرية التحريضية التي كانت مسؤولة عن ذهاب أرواح شباب ذهبوا ضحية مشاريع جهادوية وهمية في أكثر من بقعة في العالم، فيما ضنّ المحرّضون بأبنائهم وأموالهم ودنياهم. اليوم حيث يتخلى العودة عن أفكاره السابقة التحريضية، أو التشويهية ويركب موجة الثوّار في تونس ومصر نخشى أن يأتي يوم آخر ويركب موجة أخرى لمجرد أنها الأعلى، وقد تكون موجة استبداد أو تضليل كما هو الحال في انخراطه في المشروع الاعلامي لشبكة إم بي سي التي كان الصحويون ينأوون بأنفسهم عنها باعتبارها وكراً للفساد والإفساد!

وفي الأخير، نضع أمام القارىء تقييم الكاتب محمد علي المحمود لأداء الشيخ سلمان العودة، حيث يقول ما نصّه (كنت - إلى ما قبل سنتين تقريباً – أتوقّع منه الكثير في سياق محاولته التحرر من ماضيه. لكن، سكوته عن ماضيه، وعدم جديته وصراحته في هدم الخطاب التهييجي الذي أسّس له بداية التسعينيات، جعلني أرتاب في طرحه الراهن، وأراه مجرد حركة التفاف. قد يكون هذا هو ما وراء الستار، وقد يكون غير ذلك. وأنا أرجِّح أن ملكات الرجل العقلية والعلمية تقف به عند هذا الحد، ولا تستطيع أن تتجاوز به هذا المقدار المتواضع. ولهذا دخل في طور التكرار والإجترار، وبدأ يبدئ ويعيد في مسائل تجاوزها الخطاب الديني لدينا، ولم يعد يسمع له أحد إلا القليل، ومن يفعل ذلك فإنما يفعله بدافع الوفاء، وليس عن قناعة بأن ثمة ما يستحق السماع).

ويرى المحمود بأن العودة الى جانب الشيخ عايض القرني والشيخ ناصر العمر (يتوجهون ليكونوا في ذمة التاريخ. أي أن هذا الزمن ليس زمنهم قطعاً). ويوضح ذلك قائلاً (لعلك تلاحظ أن الجماهير لم تعد تلتفت- كما كانت- لهم، بل كثيرون يعجبون الآن من ذكرى تاريخ الإعجاب بهؤلاء. لكن، المشكلة الحقيقية أن الجيل الجديد من الوعاظ، بدا وكأنه صورة مستنسخة من بدايات هؤلاء. وفي تقديري أنه يقودنا إلى كارثة، ليس على مستوى الخطاب الديني، وإنما على مستوى السياق الاجتماعي العام).

وفي مكان آخر يقول المحمود عن العودة بأنه (كنت أتوقع منه أن يتجاوز عباءة السلفية التقليدية، وأن يكون أكثر صراحة وجرأة في مجال الإصلاح الديني. ما أراه الآن، أنه يعطي بيد لمسيرة تحديث الخطاب الديني، ويأخذ بيد أخرى. لا تزال الجماهيرية حاضرة فيما يقول ويفعل، لا يريد أن يخسر جماهيريته، ولا يريد -وهذا الأهم عنده- أن يتم إخراجه من خط التيار الديني التقليدي السائد. هو لا يجرؤ حتى إلى تبني مسائل التسامح التي وقع فيها الخلاف داخل الإطار الفقهي التقليدي للمذاهب الأربعة؛ لأنه يعي أنه لو تخطى هذه العتبة، فسيجد رفقاء الدرب الصحوي له بالمرصاد. علاقته قوية معهم، وهو لا يريد أن يخسرها، وهي علاقات متواشجة مع العلائق الاجتماعية التي يشتبك معها. ومن ثم، فالأمر معقد أكثر مما يتم تصويره كمسألة دينية خالصة. المجتمع لم يعد يحفل بالدعاة الذين يضعون أعينهم على مسيرة مجدهم الخاص، ذلك المجد الذاتي الذي تحكمه العلائق الاجتماعية الدينية. إمساك العصا من الوسط، بغية كسب أكبر قدر من الأوراق في الأطراف، ليس هو السلوك المُجدي دائما. قد يعود هذا السلوك بعوائد نفعية خاصة، لكنه مضر أشد الضرر بمسيرة تحديث الخطاب الديني. هذا إن كان - حقاً - يهمهم هذا التحديث؟).

الصفحة السابقة