الدولة السريّة

وصف أحد المراقبين الأجانب المملكة السعودية قبل عقدين بأنها (صندوق ضخم من الأسرار الخطيرة)، وهذا الوصف يمثل خلاصة تجربة معاشة وقراءة مباشرة لأحوال أهل الحكم في الديار السعودية. هذا الوصف يلتقي مع قراءات أخرى لاحقة، توصلت الى نتائج مماثلة، تؤكد على أن ستاراً سميكاً يحيط بالمعلومات الخاصة بنشاطات الدولة ورموزها الكبار. فبحسب دراسات ميدانية داخل السعودية فإن هناك عملاً دؤوباً من قبل حلقات ضيقة داخل جهاز الحكم الذي يدير دفة الأمور في هذا البلد من أجل ضرب طوق حديدي حول المعلومات الخاصة بنشاطات العائلة المالكة وممتلكاتها وقراراتها وهكذا النزاعات الداخلية بين أجنحتها.

في التشريعات التي سنّها أعلى سلطة في البلاد، الملك ومن يليه من أصحاب النفوذ والحضوة ما يشير بوضوح الى أن ثمة جانباً من نشاط العائلة المالكة يجب أن يظل مستوراً عن أعين السكان للحيلولة دون تحفيز فضولهم الداخلي للتعرف على ما يدور داخل القصور، أو تشجيعهم على النقد والمراقبة انتقالاً الى مرحلة المحاسبة. فقد ظلت شؤون العائلة المالكة من الاسرار التي مازالت تخضع للسرية التامة، فحصتها من ميزانية الدولة العامة غير معروفة حتى الآن، بل كانت ميزانية الدولة تدخل حتى عقد الستينيات ضمن باب الاسرار الخاصة، ولذلك لم يتم الاعلان عنها سوى بعد أن تفجّرت الخلافات حول تبذير الملك سعود للأموال العامة والتي أدّت الى إهلاك الموارد وتبديد ثروة البلاد بفعل النزوات الشخصية، الطائشة.

فلم يكن كسر أقفال السرية ممكناً الا حينما يتم على خلفية أزمة إقتصادية أو مالية، فحتى الدين العام الذي سبب الاعلان عنه صدمة بفعل ضخامة الرقم حيث وصل قبل عامين الى 670 مليار ريال، وهذا الرقم لم يكن وليد لحظة إعلانه بل هو دين تراكم على مدى قرابة عقدين من السنوات. ولم يكن الكشف عن هذا السر الخطير إستجابة لحق المعرفة المنتقص من قبل الدولة، بل كان إعداداً للسكان لفترة عصر تنوي العائلة المالكة إخضاع من تليهم لشروطها وضغوطها.

الشفافية التي أعلن عنها ولي العهد قبل سنتين فشلت في كسر حلقات السرية المحيطة بنشاطات كبار الأمراء، وهكذا الاتفاقيات الخاصة التي تمت في الظلام بمليارات الدولارات وتضمنت رشاوى وعمولات بمعدلات خيالية. فالوعود التي قطعها ولي العهد للفقراء في أرجاء المملكة، تمثل الضريبة الدعائية التي يرغب المكتنزون الكبار في دفعها كيما يبقوا على سرية الحسابات الفلكية.

ليس الوضع المالي وحده الذي يخضع لسرية محكمة، رغم أنه الموضوع الأشد ثوراناً في ظل أوضاع إقتصادية عاصرة لسكان باتوا يرقبون سرابات الوعود القادمة من أعلى الهرم. فالسرية تكاد تطال شؤون السلطة كافة، باعتبار أن الأخيرة ملك خاص لفئة محدودة من الناس.

تقارير أجنبية عديدة صدرت خلال العقد الأخير تكشف جانباً من السرية في ديار الحرمين، بعضها يتحدث عن إتفاقيات تجارية سرية بين أطراف في العائلة المالكة مع جهات في بلدان أخرى تتضمن أحياناً تقديم خدمات تسلية خاصة يؤول الكشف عنها الى إقالة، أو اعتقال، أو محاكمة تلك الأطراف بينما يظل الجانب الآخر، أي الأمير أو وكيله أو ممثله الخاص السري ممسكاً بزمام الأمر بثبات وتؤدة، بل أكثر من ذلك فهو يقدّم نفسه للسكان بلغة دينية شديدة التقليدية، حتى يخيّل للبعض بأنه أشد نسكاً وزهداً من عمر بن عبد العزيز. إنها في حقيقة الأمر السرية التي تجعل تلك اللغة صالحة للاستعمال في ديار لم تعتد على محاسبة المسيء فضلاً عن معاقبته. للتذكير فقط، مايزال جوناثان إيتكن الذي ذهب ضحية الكشف عن عمليات سرية مع الأمير محمد بن فهد، أمير المنطقة الشرقية، خاضعاً للمراقبة حتى بعد الافراج عنه العام الماضي بعد أن خسر وظيفته وأدخل السجن لسنوات. فهل يتذكر القارىء ماذا جرى عام 1995 للأمير محمد بن فهد؟ بالطبع كلا، لأنه لم يقع شيء البته، والسبب أن ما تم الكشف عنه في بريطانيا بقي مستوراً في ديارنا، رغم أن الأمير نفسه يمثل بطلاً أساسياً في هذه الحادثة المليئة بالمغامرات النسائية والمالية.

لماذا تبقى حسابات الأمراء وخصوصاً الكبار منهم سرية؟، فهل الخوف من الحسد هو ما يحول دون الكشف عنها أم أنه الخوف من اندلاع السؤال التقليدي (من أين لك هذا؟) وما يليه من إكتشافات صادمة. لماذا صفقات الاسلحة تبقى سرية؟، هل لأن الأمن الوطني يملي ذلك؟ أم لأن السرية شرط البائع الأجنبي؟ أم أن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالعمولات السرية التي يتقاضاها بعض الأمراء وشركاء لهم في الجانب الآخر.

في داخل هذا العدد قصة أخرى حول الدولة السريّة، فحتى وقت قريب كان الجميع يتحدث عن هجمات سبتمبر بوصفها واقعة في حادثة لا تتجاوز حدود الأعمال الإجرامية التي يقوم بها عادة مجموعة من الافراد. ولكن التقارير التي صدرت مؤخراً عقب الإعلان عن تقرير الكونغرس حول حوادث الحادي عشر من سبتمبر، تتحدث عن شبكة معقدة من الصفقات المالية والعسكرية والتحالفات السرية بين شركات تجارية حقيقية ووهمية مملوكة لمسؤولين كبار في الادارة الأميركية يتقاسمون مصالح خاصة مع جهات سعودية، تتراوح بين السي آي أيه والبيت الأبيض وطالبان والقاعدة والحرس الوطني ووزارة الدفاع والطيران السعودي وأمراء كبار وصغار في العائلة المالكة.. خليط غير متجانس من الاشخاص والاسماء والشركات والأعمال والبرامج تسرّبت من داخله فكرة القيام بعمل ضخم يهز الولايات المتحدة في لحظة إختلال سياسي مع فورة أيديولوجية مشتعلة.

الدولة السرية هذه تجعل اكتشاف المعلومات قضية سياسية ساخنة، ترتبط بمصداقية العائلة المالكة أمام المحكومين، ولذا فإن الابقاء على السرية يظل دائماً ضمانة الاستمرار والاستقرار، ولكن في ظل تفجّر المعلومات وتنوّع وسائل الوصول اليها هل يمكن لجدار السرية أن يصمد؟

الصفحة السابقة