من حلف الإعتدال الى نادي الممالك العربية

محمد قستي

كان مفاجئاً أن أعلن قادة مجلس التعاون في اجتماع قمتهم بالرياض في 10 مايو الجاري، عن قبولهم طلب انضمام الأردن الى مجلس التعاون الخليجي؛ وتشكيل وفد من وزراء الخارجية الخليجيين للتفاوض مع المغرب لإقناعها بقبول عضويتها في المجلس آنف الذكر.

لهذا الإعلان الجديد دلالات عديدة، وهو يمثل الردّ الجوهري للسعودية على الثورات العربية؛ كما أنه هو تعبير عن اغتراب سعودي متصاعد في محيطها الإقليمي والعربي الأوسع؛ وهو بمثابة ردّ سعودي خاص على خسارة مصر كرائدة في حلف الإعتدال؛ فضلاً عن أنه يعكس القلق والخوف المتصاعدين من احتمالية سقوط الملكيات بفعل الثورات القادمة.

مجلس التعاون الخليجي ذو صبغة إقليمية. تطل دول أعضائه على الخليج العربي. ومع هذا فهو رفض العراق عضواً، بل هو لم يؤسس إلا على قاعدة الخشية والخوف من العراق ومن إيران معاً.

ومجلس التعاون الخليجي ذو صبغة سياسية محددة، حيث أنظمة الخليج ملكية، مع تفاضل فيما بينها في الحريات العامة المدنية والسياسية، حيث تأتي الكويت في المقدمة والسعودية في المؤخرة. بهذا المعنى، فإن مجلس التعاون الخليجي لا يقبل سوى الأنظمة الملكية، وهو بقبوله بالأردن ودعوته المغرب للإنضمام قد فقد صفته الإقليمية بحيث لم يعد نادياً خليجياً، وأن معياره الأساس اليوم قائم على أساس تشابه النظم السياسية، مع أن المغرب يختلف بمراحل عن النظام السعودي. هو ـ أي المغرب ـ جمهوري متطرف بالقياس الى النظام السعودي.

لذا لا غرابة أن ترفض عضوية اليمن في مجلس التعاون، وأن يتعلّل القادة بألف قصة وقصة، رغم تشابه النسيج الإجتماعي، ولكن مع اختلاف النظام السياسي، حيث الجمهورية في اليمن والملكيات والمشيخات في باقي دول المجلس. ولربما كان هناك أملٌ لدى بعض الدول الخليجية أن تتحول اليمن الى (جمهورية ملكيّة!)، حين يخلف علي صالح على العرش ابنه أحمد، لكن الثورة المشتعلة أقنعت الجميع بأن اليمن سائر باتجاه آخر، وأنه سيكون عما قريب بلد في طريق الديمقراطية، وبلد ثوري في آن! وهو ما لا تتحمله أنظمة محافظة خاصة السعودية، التي ينتظر أن تخسر الكثير من نفوذها في اليمن إن نجحت الثورة.

لقد أُشرك اليمن في مباريات الكرة الخليجية وصار عضواً فيها!! بل واحتضن احدى بطولاتها الاخيرة، كأولى طرق تأهيله لدخول مجلس التعاون؛ وفي هذا إهانة وطنية لليمن. تماماً مثلما كان الحال بالنسبة للعراق، حيث كان الى وقت قريب في نادي الدوري الخليجي، قبل أن يلفظ بعد احتلال الكويت والى اليوم. وبعد أن جرى ما جرى في العراق، يستحيل أن يقبل الخليجيون العراق عضواً في ناديهم الملكي، خاصة وأنه زاد على النظام السابق بأن من يحكمه أكثرية شيعية!! فهو جمهوري، وبه ديمقراطية ناشئة، ومثله لا يمكن قبوله، رغم أن الأميركيين كانوا يتمنون احتضان العراق خليجياً قبل أن تحتضنه إيران. وان يكون عضواً في نادي الملوك.

من جهة أخرى، هناك تداعيات كبيرة من هذا الإعلان الخليجي المفاجئ.

فهو ابتداءً يحدد الأعداء والأصدقاء. هو يستبطن عداءً لليمن والنظام القادم فيه. السعودية تستشعر الخطر المحتمل والقادم من اليمن ـ المطل على البحر العربي ـ كما من العراق ـ الخليجي بحق. هذا الإنحياز الى الأردن يعني في السياسة انحيازاً واضحاً ضد العراق وضد اليمن، البلدان الأكثر تأهيلاً لدخول مجلس التعاون الخليجي والمساهمة فيه، والحفاظ على استقرار بلدانه، وهو ما كان يرغب فيه الإستراتيجيون الأميركيون.

لكن هذه الرغبة لا يمكن قبولها سعودياً بالذات. فكلا البلدين ـ العراق واليمن ـ وسواء دخل أحدهما دون الآخر أو معاً، سيضعفان النفوذ السعودي على بقية دول المجلس، وسيصبحان قطب الرحى فيه لاعتبارات عديدة: الحجم السكاني مثلاً: فكلا البلدين اليمن والعراق أكثر سكاناً من السعودية؛ وهناك الإمكانيات العسكرية، وكلا البلدين أقوى عسكرياً من السعودية ولديهما جيشان أكبر من السعودية، مع ما يقال بأن جيش اليمن تنقصه التجهيزات، ولكنه في المقابل أكثر تدريباً وخبرة من الجيش السعودي بمراحل. فضلاً عن الجيش العراقي الذي رغم انكساره، فإنه اكثر تهيئة لمواجهة أية تهديدات قد تأتي لدول المجلس مجتمعة، فيما لو كان جزءً أصيلاً منه. زد على هذا فإن العراق لن يكون عالة على دول مجلس التعاون الأغنياء، وهو ما يردده قادة مجلس التعاون في مجالسهم وينعكس على تصريحات بعض مسؤوليهم حين يتعلق الأمر باليمن. لكنه هؤلاء لا يقولون الشيء ذاته عن الأردن، الضعيف اقتصاديا، وعسكرياً، والذي عاش لحقب طويلة ولازال عالة على العراق ـ حتى وهو في أسوأ ظروفه. إن الأردن أكثر الدول العربية اعتماداً على المساعدات الأجنبية والعربية.

بكلمة اخرى، فإن السعودية لا تقبل العراق ولا اليمن ليس فقط لطبيعة النظامين السياسيين فيهما، بل وأيضاً خشية منافستهما إياها على زعامة دول المجلس، وبهذا فإن السعودية مستعدة لأن تعادي كلا البلدين من أن تقبل بهما عضوين في مجلس التعاون الخليجي. السعودية في هذه المرحلة الحساسة تبحث عن دول تأتمر بأمرها، وليس الى دول تنافسها في محيطها الخاص.

لقد قررت السعودية ورسمت، بضمها الأردن، خطوط مصالحها، وتمييز أعدائها وأصدقائها. فهناك القوس الرافضي الذي تحدث عنه مشايخ الوهابية، وذكره ملك الأردن ذات مرّة (الهلال الشيعي). أي أن حدود العداء تمتد من ايران مروراً بالعراق الى سوريا ومنها الى لبنان. وبالتالي فمجلس التعاون سيضع الأردن في خط المواجهة ـ كما هو حقاً الآن ـ مع سوريا، وليس مع اسرائيل. بل أن اسرائيل تعتبر امتداداً للأردن، وتشاطر دول الخليج عداءها لذلك القوس بمجمله. أي أنه حدث تواصل بين دول الخليج واسرائيل، وأصبحت تلك الدول، في حال انضم الأردن رسمياً الى المجلس الخليجي، مجاورة لاسرائيل لا بمعنى العداء، بل بمعنى التكامل في الأهداف والإستراتيجيات، خاصة وأن الأردن له علاقات طبيعية مع اسرائيل، وسيكون دخول الأردن البوابة الواسعة التي تدخل فيها اسرائيل هذا الحلف السياسي ـ وإن بدون إعلان، كما تدخل فيه بمخابراتها وبضائعها وخططها.

بقبول الأردن عضواً في مجلس التعاون، صُنع حلف جديد، أو هو قوس خليجي ـ اسرائيلي مضاد لقوس الممانعة، يمتد من مسقط وينتهي في تل أبيب، غرضه المواجهة للخصوم وفي كل الإتجاهات: لبنان والعراق وسوريا وإيران. هذا القوس هو البديل الطبيعي والممكن ـ بنظر السعودية ـ في هذه اللحظة التاريخية، وهو الرد الطبيعي على خسارة مصر وخروجها من حلف الاعتدال بسقوط رئيسها المكروه حسني مبارك.

للحلف أهداف دفاعية عن الأعضاء. المهم أولاً أن لا تسقط أية ملكية من الملكيات المعرضة لخطر الثورة. فسقوط إحداها يعني احتمالية كبيرة لسقوط حبّات السبحة الأخرى. والحفاظ على الأنظمة الملكية بما فيها النظام الأردني أمر حيوي للغرب ولإسرائيل. وإلا فإن الأردن كدولة ليست مهيئة لأن تبقى إلا لتكون حاجزاً مدافعاً عن إسرائيل.

وللحلف الخليجي ـ أياً كانت تسميته ـ أجندته الخاصة تجاه سوريا بالذات. فهي مستهدفة كما هي الآن فعلاً. وإذا كانت دول الخليج قد أعلنت انحيازها في الجملة الى جانب السعودية من أجل تأجيج الثورة على النظام السوري، فإن الأردن هو الدولة الوحيدة التي يمكن لها أن تطعن في الخاصرة. وما تداعيات موضوع درعا إلا شاهد على النفوذ الأردني المخابراتي والعشائري. بل ان الأردن اعتادت على احتضان المعارضة المسلحة السورية (الإخوان) وتدريبهم.

إن كانت هناك سياسة خارجية واحدة لمجلس التعاون، فإسرائيل تصبح مجرد صديق، وقد لا نستغرب أن تقوم علاقات سياسية مباشرة معها من قبل السعودية إذا ما تطور الوضع الإقليمي في غير صالحها. أما سوريا والعراق، فستكون الأردن الشوكة السعودية التي تغرزها في خاصرة النظامين، حتى وإن أدّى الى خسارة دعم العراق الحالي للنظام في الأردن؛ فهذه الخسارة محتملة جداً، ولكن هناك من سيعوّضها بين الخليجيين الأغنياء، ولن يكون هناك من حرج طالما أصبح الأردن عضواً في مجلس التعاون الخليجي. بمعنى آخر: إن قبول عضوية الأردن يعيد رسم التحالفات في المنطقة، ويرسل ثلاث رسائل ذات معنى للعراق وسوريا واسرائيل.

أما اليمن، فسيكون مستهدفاً في ثورته التي تشارف على الإنتصار. ستعمل السعودية الى احتواء الثورة وعزل تأثيراتها في ركن قصي من الجزيرة العربية. لا يوجد لليمن حدود سوى البحر. ستكون السعودية سعيدة جداً بأن يبقى اليمن ممزقاً غير مستقر مشغولاً بذاته. فهذا أفضل من أن يحكمه نظام ديمقراطي وطني مستقل عن الرياض. وحتى اذا ما انتصرت الثورة في اليمن، فأمامها زمن كيما يستقر النظام الجديد، إن سمحت السعودية، اللهم إلا اذا اتحد اليمنيون على قاعدة العداء للرياض، وهذا ايضاً محتمل.

لا بدّ لليمن في هذه الحالة من منفذ. فاختناقه السياسي واضح المعالم. قد تتبدل التحالفات في ظل النظام الديمقراطي، وقد تنشأ تحالفات أخرى، كالتحالف مع مصر والسودان، وكتقوية العلاقة مع ايران والعراق وسوريا. بمعنى أن القوس الشمالي يمكن أن يردفه قوس جنوبي يتجه غرباً فشمالاً، فيحاصر السعودية وحلفها الجديد. وإذا كان مجلس التعاون الخليجي قد ولّد ردّ فعل فأنشأ تحالفين عربيين آخرين كما نتذكر (حلف العراق واليمن والأردن/ والحلف المغاربي العربي)، فإن إدخال الأردن والمغرب، سيؤدي الى رسم خارطة التحالفات في كل المنطقة العربية؛ نظنّ أنها ستكون مضادّة للحلف الخليجي الملكي الجديد.

قد تدفع السعودية وشقيقاتها الملكيات ثمن قبول الأردن ورفض اليمن، فضلاً عن التدخل المباشر في شؤونه. سيكون هناك انتقام سياسي من نوع ما، ما لم يصار الى حل. فإذا كان اليمن مستعداً ليكون عضواً في مجلس التعاون الخليجي اليوم، فإنه حين يُرفض ـ كما هو واضح ـ قد يتجه شمالاً.

أما المغرب، فهو كملكية دستورية لا يشبه دول الخليج مثل السعودية. النظام السياسي في المغرب مختلف، ويظن السعوديون أن المغرب سيفيدهم أمنياً. لكن التواصل الجغرافي لدول المجلس ينتهي بقبول عضوية المغرب، ولن يكون دخول الأخيرة فاعلاً حقيقياً على الصعيدين العسكري والأمني. معلوم أن الأردن سيستفيد اقتصادياً بدخوله نادي الملوك الخليجيين، وربما تتوفر له حماية أكبر، وإن كان البعض يعتقد العكس، فإقحامه في صراع مع دمشق وبغداد قد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه. لكن السؤال: ماذا سيستفيد المغرب؟ وهناك تساؤل آخر أكثر أهمية: ما هي الخسائر التي ستلحق بالمغرب إن انضمّ الى هذا الحلف؟ وهل هناك أصلاً رغبة مغربية لذلك، شعبية أو رسمية؟ إن دول مجلس التعاون الخليجي بطلبها من المغرب الإنضمام اليها لم تكن بحاجة الا لتأكيد نقطة واحدة: تحويل مجلس التعاون الخليجي الى نادي للملوك العرب، أو الملكيات العربية.

وفي حين يوفر المغرب حماية ذاته بالاتجاه نحو الديمقراطية والتعددية السياسية والتي قطع شوطاً كبيراً فيها. فإن السعودية تريد من الملكيات أن تنتحل شخصيتها هي، وأيديولوجيتها الدينية التكفيرية، ونظامها السياسي المتخلف. وهذا قد يكون مقلقاً للساسة في المغرب، ونقصد أن تتغير هيكلية النظام السياسي المغربي نفسه باتجاه معادٍ للديمقراطية والحريات العامة.

السعودية تريد من توسعة المجلس أن تفك العزلة عن نفسها بعد أن أصبحت لاعباً ثانوياً في السياسة العربية والإقليمية. كانت مصر هي حصان السعودية الذي توجهه أينما تريد ليقوم بالدور السعودي المطلوب. الآن وقد سقط مبارك، فإن لمصر اتجاهاً آخر. ولا يبق امام السعودية الا تجميع الفتات هنا وهناك، وتغيير اسم مجلس تعاونها الخليجي (لم يعد خليجياً بعد الآن) حفاظاً على الذات من الثورات، وطمعاً في ممارسة دور اقليمي في عالم يسيطر عليه الكبار حقاً!

الصفحة السابقة