النفوذان السعودي والأميركي في الأزمة البحرينية


أمير الكويت لسلفيين: مقتدى الصدر وحده وبعشرين ألف من
مقاتليه يستطيع احتلال الكويت مرّة ثانية!


فريد أيهم

منذ دخول القوات السعودية الى البحرين للمساعدة في إخماد ثورة شعبها هناك، بدا واضحاً ان هناك اختلافاً بين الموقفين الأميركي والسعودي، عبّر عنه الأميركيون ـ على لسان وزيرة الخارجية الأميركية ـ بانتقاد علني لإرسال تلك القوات، باعتبارها وسيلة غير مجدية لحلّ أزمة داخلية تخصّ شعباً وحكومته. لكن هذا الموقف، تمّ التراجع عنه سريعاً، وبدا كما لو كان هناك صفقة ما قد عقدت بين الدول الخليجية والولايات المتحدة الأميركية، هي أشبه ما تكون بمقايضة بين ليبيا من جهة مقابل البحرين من جهة أخرى. بحيث تقبل واشنطن ما تقرره السعودية في البحرين، أو في الحدّ الأدنى تغضّ النظر عنه من قمع للثوار السلميين، مقابل أن تقف دول الخليج وتدعم سياسيا وتموّل الثورة والتدخل الغربي العسكري المباشر من أجل الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا. ولهذا ظهر في ذات فترة دخول القوات السعودية الى البحرين، غطاء سياسي خليجي معلن يطالب بالتدخل العسكري الغربي في ليبيا (لإنقاذ المدنيين!)، تبعه موقف مماثل للجامعة العربية، ثم جاء اجتماع مجلس الأمن ليوفر الغطاء الدولي للتدخل بعد أن تمّ توفيره عربياً وخليجياً، وبعد أن تعهدت دول الخليج بدفع تكاليف الحملة الغربية لإسقاط نظام القذافي.

وبالرغم من نفي الغربيين وجود أية مقايضة مع دول الخليج، وأنهم لا يتعاطون بمعايير مزدوجة مع الثورات العربية، إلا أن الحقيقة تبقى أن هناك مظلّة سياسية لاتزال مبسوطة على البحرين، ليس فقط لحماية نظام الحكم فيها من شعبه، بل وقبول ما بالأداة السعودية لتحقيق ذلك، حتى وإن جاءت الإجراءات المتخذة قاسية ومخالفة لحقوق الإنسان.

في اجتماعات نهاية أبريل في جنيف والتي عقدت بدعوة من سويسرا وتحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان التابع لها، كان المشروع المقترح هو إدانة الأنظمة التي تتعرض للمظاهرات السلمية في الشرق الأوسط. وكان هذا يشمل اليمن وليبيا وسوريا والبحرين. ولكن الوفد الأميركي حوّل الموضوع باتجاه سوريا فحسب، وأصدر بيان إدانة بذلك ـ كما هو معلوم.

لكن الذي لفت الإنتباه أثناء مناقشة الموضوع السوري، ان نقداً واسعاً تعرضت له البحرين حتى من أميركا والدول الغربية الأخرى الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان. ما يعني أن تركيز الإنتباه على سوريا جاء كأولوية سياسية، ولغايات سياسية، وإن استثناء البحرين كان أمراً محرجاً ويعني تعاملاً بالمعايير المزدوجة، وأنه جاء بضغط أميركي.

في حقيقة الأمر، فإنه وبعد سقوط نظام حسني مبارك، شعرت السعودية وبعض دول الخليج ـ كالإمارات ـ وحتى اسرائيل، بقلق بالغ، والسبب يتعلق بمدى إمكانية ورغبة الولايات المتحدة في حماية الأنظمة الحليفة. لقد استشاط السعوديون غضباً من الأميركيين لأنهم تخلوا عن حسني مبارك مثلما تخلّوا من قبل عن حليفهم شاه إيران، ما يعني أنهم يمكن أن يتخلّوا عن حلفائهم الآخرين.

لهذا السبب بالذات، فقدت السعودية ثقتها في الموقف الأميركي إذا ما كان الأمر يخصّها ويخصّ حلفاءها المقربين. وقد أقنعت دول الخليج بأن لا يستمعوا للأميركيين ونصائحهم، وأن يتفادوا الضغوط عليهم من أجل الإصلاح، لأن الأميركيين لديهم الإستعداد للتخلّي عنهم، أو التفريط بحكمهم. وهنا لا بدّ من الإعتماد على الذات، وعلى الشقيقة الكبرى ـ أي السعودية ـ في توفير الحماية الخاصة.

كان هذا الرأي ناضجاً حين وقعت الثورة البحرينية، التي أشعرت السعودية بقلق بالغ من تأثيرها على المنطقة الشرقية النفطية ذات الكثافة الشيعية. الرياض كانت تؤمل قمعاً للتظاهرات والإحتجاجات المتصاعدة، وهو ما حدث بداية الأمر حيث اطلقت النيران وقتل العديدون. لكن بدا أن هناك جناحاً أقلّ تطرفاً يمثله الملك وولي عهده، وقد حاول عبر التفاوض الوصول الى حل، بمساعدة فيلتمان مساعد وزير الخارجية الأميركية والذي أمضى نحو خمسة أيام في البحرين مفاوضاً للوصول الى حلّ. لكن الجناح المتشدّد في السلطة البحرينية بالذات، لم يكن راغباً في الحلّ السلمي، يدعمه في ذلك السعوديون، الذين حذّروا بأن الوضع بحاجة الى حسم أمني/ عسكري لا الى مساومات سياسية. وفعلاً نجح هذا الخيار، في حين كان الأميركيون يميلون الى خيار المصالحة الداخلية.

تبعات الخيار الأمني

استدعى استخدام الخيار الأمني إدخال الجيش السعودي، واعتماد الحدّ الأقصى من القسوة والعنف وفي كل الإتجاهات: اعتقال القيادات السياسية المعارضة/ اعتقال الأطباء/ منع التظاهرات واطلاق النار عليها/ حملة اعتقالات واسعة/ محاكمات عسكرية ضمن قانون الطوارئ قضت بإعدام البعض/ فصل عشرات المبتعثين البحرينيين من دراستهم لمجرد التظاهر ضد الحكم/ فصل العديد من أساتذة وطلبة الجامعات في الداخل/ فصل المئات من العمال من وظائفهم لمشاركتهم في التظاهرات/ تدمير العشرات من دور العبادة بحجّة أو بأخرى/ إغلاق صحيفة الوسط اليومية ومحاكمة رئيس تحريرها/ التضييق على الصحافة وحرية التعبير/ اعتقال نواب برلمان/ حملات تشهير حكومية في الإعلام ضد الناشطين وضد منظمات المجتمع المدني/ اعتقال أمينا عامين جمعيتين سياسيتين مرخصتين هما وعد والعمل الإسلامي، وغير ذلك.

لكن الأخطر من هذا كلّه أمران: تحويل الأمر من صراع سياسي بين العائلة المالكة وشعبها، الى صراع طائفي على مستوى الداخل والخارج، وهذا كان دأب الإعلام الرسمي (تلفزيون البحرين بشكل خاص) وشبه الرسمي المملوك لمتنفذين وممولين ومسؤولين من العائلة المالكة وحاشيتها. والأمر الآخر المهم هو تحويل الصراع الداخلي الى صراع إقليمي تشترك فيه ايران والعراق والسعودية ودول الخليج، فضلاً عن كون الصراع اصبح ذا بعد دولي بدخول أميركا وبريطانيا ودول غربية على خط الثورة في البحرين.

الدول الغربية وبالذات اميركا، تسامحت مع القمع في البحرين وإن أحرجها، ففي المحصلة النهائية هي ترى أن حكم آل خليفة يمكن ضمانه عبر الديمقراطية (غير الكاملة) وأنها لا تقبل بإزاحتهم على أية حال. لكن هذه الدول الغربية شعرت بالضغط من المنظمات الحقوقية التي توثق الإنتهاكات التي تقع في البحرين، وسبب لها حرجاً من استخدام المعايير المزدوجة، ولكن الحرج كان متحمّلاً الى حدّ كبير. الفكرة الأساس لدى الغربيين هي التالي: ليقمع النظام في البحرين بمساعدة السعودية الناس الى حدود ولفترة زمنية، كمقدمة لإعادة ترتيب أوراق اللعبة الداخلية في البحرين مرّة أخرى، وذلك بعودة النظام الى مربعه السابق والتفاوض والتحاور مع المعارضة ـ تحديداً جمعية الوفاق ـ من جديد على طرق التغيير وهوامش المصالح. لكن ما أدهشهم ولازالوا، هو أن النظام ذهب بعيداً في القمع، إضافة الى أنه لم يضع وقتاً محدداً لانتهاء حالة الطوارئ، كما لم يبد أية رغبة لاستئناف الحوار، بل لم ترد اي اشارة لموضوع الحوار في كل التصريحات الرسمية منذ تكسير المتظاهرين في دوار اللؤلؤة. ما عنى أن القمع يمكن ان يستمر (وهو بنظر الغربيين لا يوفر أمناً ويبقي البحرين غير مستقرة لفترة طويلة)، كما أن الحوار قد تمّ التخلّي عنه نهائياً.

لهذا يمكن أن نلاحظ وقفتين أميركيتين واضحتين معارضتين لاستخدام السعودية وجناح التطرف الحاكم في البحرين (الخيار الصفري). اولها حين قررت حكومة البحرين إلغاء جمعية العمل الاسلامي ووعد والوفاق التي هي أكبر حزب سياسي في البحرين ولديها من الأصوات ما يفوق شعبية الحكومة البحرينية والعائلة المالكة نفسها. هنا ظهر المتحدث باسم الخارجية علناً وانتقد الحكومة البحرينية التي تراجعت بعد ذلك وزعمت أن الموضوع يتعلق فقط بمحاسبة الوفاق حسب القانون!

والخطوة الثانية التي انتقدتها واشنطن: مسألة اصدار محكمة عسكرية حكم الإعدام على أربعة متظاهرين محتجين. وقد تطلب الأمر ان يبادر أوباما نفسه ليعلن اعتراضه الى الملك. وقد حاول فيلتمان في زيارة في ذات الفترة (ابريل الماضي) ان يعيد الروح الى الحوار، ولكنه لم يجد أذنا حكومية سميعة. وكان التبرير هو ان الحكم عملياً صار بيد رئيس الوزراء خليفة، ووزير الدفاع بحكم قانون الطوارئ، وأن الملك وجناحه قد أُضعفا بفعل التدخل السعودي المباشر، بحيث لم يعد القرار بحرينياً بقدر ما هو سعودي.

الصراع الإقليمي

تطلّب قمع الثورة في البحرين ـ وكما قلنا ـ تحويل موضوع الثورة الى صراع طائفي داخلي وعلى صعيد المنطقة. لم يعد ما يجري في البحرين شأن محلي، أو خليجي فحسب. لقد اتهمت ايران بأنها تدعم احداث البحرين، وهذه اسطوانة معتادة من قبل الأنظمة المستبدة في القاء التهم على (الخارج) بدل أن تعالج المشاكل الداخلية، وهي ذريعة توفر قدراً من الحشد الداخلي خاصة على قاعدة الإنتماء الطائفي.

لم تكن الخشية من ايران وحدها، التي هي حاضرة بسياستها وإعلامها في الموضوع البحريني، حيث اشتدّ الصراع بين السعودية ـ وتبعاً عدد من مجلس التعاون ـ مع ايران.. بل وصل الى الأمر الى العراق، وهو ما أقلق الأميركيين بشكل كبير.

إن تحويل الصراع الى إقليمي وطائفي أدّى الى استنفار العراق، بمرجعيته الدينية، وبساسته، وبجمهوره العريض ليقتحم المسألة. حيث عمت التظاهرات ـ العفوية في أكثرها ـ مدن العراق وقراه، ورفعت اليافطات المنددة بالسعودية بدرجة أساس، وبحكم البحرين بدرجة ثانية. هذا التحوّل في الشارع ولدى الساسة ولدى المرجعية اقلق الأميركيين من جهة أن العراق قد حرق المراحل للعب دوره المفترض في السياسة الإقليمية، ولكن بوجه شيعي هذه المرة، بعد أن كان وجهاً سنيّاً يمثله نظام صدام حسين.

كان يعتقد وعلى نطاق واسع أن العراق غير مؤهل للعب أي دور في الوقت الحالي. لكن أحداث البحرين غيّرت المعادلة في العراق، وقرّبت الخطر الى دول الخليج نفسها. يُنقل عن أمير الكويت أنه استقبل عدداً من السلفيين الوهابيين المتطرفين في ديوانه، وبعد أن طالبوا بمواقف صلبة ضد الشيعة، قال لهم إن كل ما لديكم هو الكلام، وأن مقتدى الصدر وحده وبعشرين ألف من مقاتليه يستطيع احتلال الكويت مرّة ثانية؛ ونصحهم بالتعقّل والإعتدال.

الولايات المتحدة غير مستعدة الآن في خضم الثورات العربية المتواصلة أن تفتح جبهة مع ايران، ولا أن تخسر العراق؛ والأهم أنها على أبواب الخروج بقواتها منه، إن لم يتم التجديد لها مرة أخرى، في نهاية هذا العام. والمنطق الأميركي يقول: إذا كنا ونحن في العراق الآن غير قادرين على ضبط العراق وساسته، فكيف سيكون الحال إذا ما خرجت قواتنا، وكيف ستتدبر دول الخليج الأمر إن استمر موضوع البحرين يغذّي الصراع الإقليمي على خلفية طائفية؟ يترافق هذا مع شعور بالمرارة لدى العراقيين من أن دولاً خليجية عدّة، وبالذات السعودية وقطر والإمارات لعبت دوراً سلبياً في تأجيج التمرد على الحكم المركزي، الى حدّ دعم القاعدة وليس فلول البعث السابق فحسب، ما أدّى الى مقتل عشرات الألوف من العراقيين الأبرياء ضحايا لتفجيرات القاعدة.

وبشكل مختصر، فإن موضوع البحرين لا يمكن حلّه داخلياً فحسب، حيث صراع الأجنحة بين رئيس الوزراء والملك، ولا يمكن أن يفرض حل أمني الى أبد الآبدين وبذات القمع والقسوة. ولا يمكن قمع الاحزاب السياسية لأنه لن يكون هناك متسع للحوار ولا للحل السياسي. وعليه فإن الأميركيين يضغطون باتجاه تقليص نفوذ السعودية في البحرين، وأخذ زمام المبادرة منها قبل أن يتم إشعال المنطقة بحروب لا طاقة للسعودية ولا للبحرين بها.

الصفحة السابقة