الدولة الضدّيّة

دولة ضدّية بكل ما في الكلمة من معنى، فقبل نشأتها دخلت كتائبها على الفور في حرب مع الدولة العثمانية، وذهبت إلى العراق لترويع سكّانه، وقتل أبنائه، إلى جانب أعمال النهب والسلب، بما يشبه أساليب قطّاع الطرق، وعادت جحافل الوهابية لتهدّد باجتياح الشام، بعد أن أسقط علماء الوهابية صفة الإسلام عن أهله، ومنعوا محمل الشام عن القدوم الى مكة لأداء مناسك الحج ما لم يجدد أهل الشام إسلامهم، وفعلوا ذلك مع محمل مصر، وكانوا على استعداد لتعطيل شعيرة الحج، على قاعدة أن كل ماعدا الوهابيين ليس على غير الجادة، وأن المسلمين يعيشون أوضاعاً أسوأ من أوضاع الجاهلية الأولى، ولا مناص من الإذعان لرسالة التوحيد التي جاء بها إبن عبد الوهاب..

في كل أطوارها الثلاثة، كان تكفير عباد الله وإباحة دمائهم وأموالهم سمات الدولة السعودية الوهابية، ومن أجل أن يقتلوا كفّروا الناس، ومن أجل أن يحكموا فرضوا الوهابية شريعة جديدة، وتذرّعوا بأن الأخيرة هي العودة الى الإسلام الأصيل، فيما المسلمون بعد القرن الثالث الى حين ظهور الشيخ إبن تيمية كانوا على ضلال، ثم عاد الضلال مجدداً بعد رحيل إبن تيمية إلى الأمة الى حين ظهور الشيخ إبن عبد الوهاب..وبحساب إجمالي، فإن أمة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، بعد القرن الثالث الهجري كانت على ضلال إلا من إتّبع إين تيمية وإبن عبد الوهاب!

وحين أعلن عن قيامها الرسمي سنة 1932، بعد أن أنجزت بريطانيا مهمة بناء كيانين ضدّيين (الكيان السعودي والكيان الإسرائيلي)، فإن أول ما قامت به هو الإجهاز على قضية الشعب الفلسطيني وانتفاضته الأولى سنة 1936، وتدخّلت من أجل وقف الإضراب العام بحجة أن بريطانيا ستوفي بوعودها حول حقوق الشعب الفلسطيني ووقف الهجرة اليهودية ..وتبيّن لاحقاً أن إبن سعود ليس سوى شخصية تعيش على المكر، كما تعيش على المجون أيضاً، وضاع المسجد الأقصى في أيامه دون أن يرفّ له جفن، حتى أن الشاعر الفلسطيني المناضل عبد الرحيم محمود تنبأ، ربما لسوء ما شهده من أداء حكّام على شاكلة إبن سعود، بضياع الأقصى قبل سنوات من النكبة، فخاطب الأمير سعود: المسجد الأقصى أجئت تزوره..أم جئت من قبل الضياع تودعه.

وقد لحظنا قبح الموقف السعودي بكل الضدّية المكتنزة فيه من العدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز (يوليو) 2006، ثم على قطاع غزة في كانون الأول (ديسمبر) 2008، حيث اصطفت دولة عربية ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وبصورة علنيّة الى جانب العدو، فيما راح علماء الوهابية يصدرون الفتاوى التي تحرّم مجرّد الدعاء للمقاومة في لبنان والتظاهر لدعم أهالي غزة. وكان من خزي الضديّة السعودية أن يقوم موقع (وزارة الخارجية الإسرائيلية) طيلة أيام العدوان على قطاع غزّة، بنشر مقالات كتّاب الدولة الضدّية والتي تنقد حركة حماس وتبرر، ضمناً، العدوان الإسرائيلي!

بطبيعة الحال، ليست المرة الأولى التي يقف فيها آل سعود ضد مصالح الشعوب العربية والإسلامية والإصطفاف الى جانب أعداء هذه الأمة، فما قام كيانهم إلا على التآمر والضدّية، فعبّئوا المال والرجال لإطاحة أنظمة وحركات مقاومة، بدءاً من الرئيس المناضل جمال عبد الناصر، حيث كان آل سعود ينسجون المؤامرات ويشجّعون الأميركيين على ضرب مصر، إنتقاماً من رئيسها الذي حمل راية تحرير الوطني والقومي، وتواطؤ مع الأسرائيليين، كما يخبر تقرير أعدّته لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس وبعثة وزارة الخارجية الأميركية في نهاية 1991، على اختراق الجيش السوري بهدف إطاحة النظام هناك..

وهكذا هو حال آل سعود طيلة فترة حكمهم، فكلما ارتفعت راية للإستقلال والممانعة في الأمة، دفعوا الأموال لكل نفس دنيئة كيما تغمز في قناة من يرفعها، وتشيع ثقافة اليأس والقنوط وسط المناصرين لها، وفي وقت ما يحرّكون الأطفال والساديين للإنخراط في مواجهات مسلّحة عبثية كالتي شهدنا بعض صورها في لبنان على يد تنظيم (فتح الإسلام) في مخيم نهر البارد، في الشمال اللبناني، أو تنظيمات القاعدة في العراق واليمن، وشبه القارة الهندية، وشمال أفريقيا والتي لم تحقق الأمة منها سوى العار والتشويه لدين الإسلام..ومن أجل تغطية تلك الكوارث، يلوذ آل سعود بمؤتمرات حول حوار الأديان، الذي تبيّن لاحقاً أنها جزء من مشروع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي..

لم يأت خير قط من هذا الكيان، ولم يدفع المال إلا من أجل إشعال الفتن في الأمة، وتحريك جماعات التطرّف الذين شوّهوا دين الله عزّ وجل، وكما تذكر الوثيقة سالفة الذكر عن الملك فهد بأنه كان يكره آية (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها..الآية)، وحين طالبته بعثة الكونغرس والخارجية بأن يدخل إصلاحات سياسية لتجنيب البلاد أزمة سياسية كبرى، قال بأنه سيحرّك المطاوعة حتى يكره الناس ليس هذا الدين فحسب (يقصد الإسلام)، وإنما كل الأديان السماوية..هو نفسه، الملك فهد، الذي أنفق 80 مليار دولاراً على نشر الوهابية المتطرّفة في أرجاء العالم، فأولدت إرهاباَ، وتشويهاً، واستهتاراً بقيم الأديان السماوية في التسامح، وحفظ الأنفس والثمرات..

مقالات متعاقبة صدرت في الآونة الأخيرة بلغات عدّة حول الدور السعودي المركزي في الثورة المضادة، وكيف تحوّل (ربيع العرب) الى خريف بسبب تواطؤ دول كبرى وصغرى وذيلية لجهة تحويل المدّ الثوري في الشرق الأوسط الى حرب تصفية حسابات بين دول وربما شعوب..

بلغت الضدّية في الكيان السعودي حد التصرّف وكأنه الراعي الرسمي للشعوب العربية، يملي عليها ما يجب فعله، وما لا يجوز تجاوزه، فهي تدفع الأموال لمصر كيما تفرض على المجلس العسكري الاعتصام بالسياسة نفسها التي كان عليها الرئيس المخلوع، وتجتاح البحرين كيما تثبّت النظام الملكي الشمولي، وتسعى لاختطاف الثورة اليمنية عن طريق افتعال صراعات جانبية، وتقدّم مبادرة مفصّلة على مقاسها، وتحرّك فرق الفتنة في سورية وتخصص القنوات الفضائية الفتنوية لإحداث إنقسامات داخلية، وتموّل من تحت الطاولة الحرب في ليبيا..إنها دولة ضدّية، وستكون ضد بقائها يوماً ما.

الصفحة السابقة