التواجد العسكري الأميركي في العراق

لماذا تريد السعودية استمراره؟

خالد شبكشي

قضايا أساسية عديدة تجعل السعودية ومن ورائها دول الخليج الأخرى مصرّة على بقاء القوات الأميركية في العراق.

هذا يتوافق مع رغبة واشنطن في إبرام اتفاقيات دائمة مع بغداد من أجل تسهيل وجود عسكري أميركي دائم في ذلك البلد. ومن هنا لا تحتاج الولايات المتحدة الى ضغط من محمياتها الخليجية لتبقى، ليس في أراضيها فحسب، حيث القواعد العسكرية منتشرة في كل دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن أيضاً ـ وهذا هو المهم ـ في هذا العراق الذي شكّل إغراء وتهديداً ـ في آن واحد ـ للمصالح الأميركية ومحمياتها في الخليج.

هناك تطابق في الهواجس بين واشنطن وحليفاتها تجاه العراق. وهناك أيضاً ـ والى حد كبير ـ تطابق في الأهداف والتوجهات والدوافع.

وبالرغم من أن العراق مثّل في فترة سابقة نقطة اختلاف في وجهات النظر بين السعودية وبعض الدول الخليجية من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، بشأن السياسات والحكم الذي يجب أن يسود في العراق (السعودية ترفض النظام الديمقراطي لأنه يأتي بالأكثرية الشيعية الى الحكم؛ وهي تعتقد أن السياسات الأميركية زادت من النفوذ الإيراني في العراق).. إلا أن المرحلة الحالية، ويتوقع أن تكون كذلك في المستقبل، تميل الى التوافق التام بين السعودية وواشنطن بشأن الموضوع العراقي. الى حدّ أن تركي الفيصل، وفي تصريحات أخيرة له، لم يشر الى أية اختلافات بين اميركا والرياض تجاهه، وهو الذي اعتاد اعلان وتوضيح اختلافات وجهات النظر بين البلدين في هذا الموضوع الحساس.

ما هي القضايا المشتركة في مستقبل العراق؟

حسب الإتفاقيات الأمنية التي وقعتها واشنطن مع حكومة بغداد، وبموافقة معظم القوى السياسية على اختلاف توجهاتها، فإن القوات الأميركية يجب أن ينجز انسحابها من العراق بنهاية العام الجاري. لكن الولايات المتحدة التي ظهرت وكأنها راغبة في الإنسحاب، بغية تهدئة الوضع الداخلي المعارض لها، ونأت بنفسها بقدر لا بأس عن الشأن المحلي السياسي العراقي، فإنها قد بدأت بسحب عشرات الألوف من قواتها، ولكنها كانت تريد إبقاء قواعد عسكرية لها في ذلك البلد، هيأتها لهذه المرحلة.

من الصعب أن تتنازل واشنطن عن كل استثمارها السياسي والعسكري في العراق، والذي دفعت فيه الدماء والأموال، لصالح قوى إقليمية لا تشاركها الرؤية السياسية بالضرورة، كتركيا، أو تعتبر منافساً وعدواً لها كما إيران، في حين أن حلفاءها المجاورين للعراق، خاصة السعودية، لا يوجد لديهم النفوذ في ذلك البلد بحيث يعوّض عن تواجد أميركا العسكري المباشر. وكانت الولايات المتحدة قد ألحّت على السعودية مراراً وتكراراً طيلة السنوات الماضية أن تستثمر سياسياً في العراق (وليس التخريب وارسال القاعدة والتكفيريين اليها) تحسباً لمثل يوم الإنسحاب الأميركي إن اضطرت اليه. السعودية فضلت تخريب المعادلة العراقية، ولو بالدمّ والإرهاب، ولم تستثمر صداقاتها القديمة، بل استعدت كل القوى العراقية، عدا أقلية ضعيفة، زودتها بالمال وفشلت في الوصول الى الحكم، وتغيير المعادلة القائمة.

لهذا لا تستطيع الولايات المتحدة التعويل على نفوذ سعودي أو أردني أو خليجي عام يعوّض خسارة نفوذها المباشر بسحب قواتها؛ ولذا هي مضطرة بشكل كبير الى أن تبقي آلافاً من قواتها في القواعد العسكرية العراقية التي أعدتها منذ الإحتلال لهذا الغرض؛ وهي بهذا تفضل شراكة في النفوذ مع ايران وتركيا وسوريا، على أن تخسر كل شيء بمجرد أن تسحب قواتها من الأراضي العراقية.

السعودية تطالب باستمرار قوات الإحتلال في العراق

ثلاث قضايا مقلقة بالنسبة للسعودية (والى حد كبير دول الخليج) تدفعها للإصرار على بقاء القوات الأميركية في العراق:

1/ القضية الأمنية:

لقد تمّ تدمير العراق واحتلاله لأن قوّته في النهاية صبّت باتجاه معاد لمصالح الولايات المتحدة الأميركية (احتلال الكويت). في وقت كان فيه العراق معادياً ومحارباً لإيران، تقاطر عليه الدعم الغربي والشرقي والعربي، لأن مشروع محاربة ايران كان يخدم أطرافاً عديدة متناقضة ومتماثلة في آن.

العراق اليوم قوّة ستنهض وإن تمّ تكسيرها عسكرياً عبر الإحتلال. والعراق بطبعه موطن العصبيات العشائرية والطائفية والإثنية، ويرى أن له حق الريادة في الخليج. هكذا كان العراق بنظر صدام ومن قبله الحكام السابقون، بل هذه رؤية العراقيين العاديين بشكل عام. تتغذّى طموحات العراق على ما لديه من قوة إقتصادية وبشرية وعسكرية. إن مكانته ونفوذه السياسي مرتبطان بالجيوبولتيك، ولهذا كان العراق منافساً لدول عديدة بما فيها سوريا والسعودية كقوتين سياسيتين في المنطقة.

بعد إسقاط صدام، حرصت الولايات المتحدة وحليفاتها أن لا يكون للعراق جيشاً قوياً يكون بإمكانه حتى الدفاع عن حدوده. لكن العراق وهو ضعيف، ليس فقط غير قادر على حماية نفسه، بل بحاجة الى دعم خارجي (اميركي بالتحديد). وهذا لن يتم الى الأبد، فلا بدّ أن يستعيد العراق بعض عافيته، ويحمي حدوده، ويشتري شيئاً من الأسلحة التي يحتاجها. وفي أقلّ الظروف، فإن العراق بجيش ضعيف، لا يستطيع أن يوقف التهديدات الآتية من الخارج: ايرانية بنظر السعودية وأميركا؛ وسعودية بنظر عراقية. وحتى في هذه الحالة، فإن العراق بجيش غير مسلّح بالأسلحة الثقيلة يمكنه أن يهدد الأمن في دول الخليج الأخرى، كالكويت، إن أراد.

المشكلة الأساس، ليست في إضعاف العراق عسكرياً، وجعله تابعاً؛ فهو كذلك بالفعل اليوم.

المشكلة الحقيقية هي أن النظرة الخليجية والأميركية لازالت ـ رغم إسقاط صدام حسين ـ تعتقد أن العراق خطرٌ أمني على دول الخليج. وكأن وجود العراق بحدّ ذاته يمثل خطراً! وما يستتبع هذه الرؤية الخليجية من سياسات تجاه العراق، هي ما يزعج هذا الأخير:

فالعراق يراد له أن يكون منبوذاً سياسياً ومحاصراً من كل الأطراف.

ويراد من العراق أن يهمل تماماً في مسألة الترتيبات الأمنية في الخليج، الذي يُزعم بأنه بحاجة الى حماية. ولكن ممن؟ مرة يقول الخليجيون من إيران، ومرة أخرى من العراق، وقبلها من السوفيات، وهكذا! مع أن العراق بلد خليجي، ولكنه مرفوض أن يكون جزءً من مجلس التعاون الخليجي، ويتعاطى معه كبرّاني، كما يتعاطى معه كعدو، وفي أقل الأحوال كمنافس. لا يمكن تحقيق أمن خليجي بإخراج العراق من دائرة الترتيبات الأمنية الإستراتيجية؛ وبدخوله لا يعدّ العراق خطراً، خاصة إن كان تحت القبضة الأميركية. لكن السعودية لا تريد أي دور سياسي للعراق في محيطه الخليجي والعربي. كما أنها لا تريد أن يكون له أي دور في الترتيبات الأمنية، لأنه في هذه الحالة سيقلّص من نفوذ السعودية السياسي والعسكري بين دول الخليج. اي أن العراق قد يكون هو بطل المنطقة، والمدافع عنها، وهذا ما لا ترغب به السعودية.

ولهذا السبب ـ أي التعاطي مع العراق كعدو ـ لم تشأ السعودية إلا تعويق تأهيل العراق سياسياً، وعمدت الى محاصرته، بل وعدم الإعتراف به، وهي حتى اليوم لم تفتح سفارتها فيه!

وزيادة على ذلك، تريد السعودية تعويق العراق اقتصادياً حتى لا يقوم على قدميه. وهي متخوفة من عودة العراق لتصدير حصته المقررة من أوبك من النفط، وهي الحصة التي لم ينتجها ويصدرها بسبب الظروف الأمنية وتآكل المنشآت النفطية فضلاً عن التخريب الذي قامت به القاعدة ومصدرات السعودية من التكفيريين الى العراق. بل أن السعودية قلقة من تصاعد أسعار النفط، لأن ذلك يوفر للعراق ـ كما إيران ـ إمكانات مالية تعيد له الحيوية، وتجعل النظام السياسي مسترخياً بقدر كبير. وهذا ما يفسر زيادة الإنتاج السعودي من النفط الى مستويات غير مسبوقة، دعماً للنظام الإقتصادي الغربي المتهاوي من جهة؛ وضرباً لإقتصاديات الدول المعادية أو المنافسة كما في ايران والعراق.

وفي هذا الإطار، فإن السعودية هددت عدداً من الشركات النفطية الغربية من تطوير الحقول النفطية العراقية، وقدّمت بعض الإغراءات البديلة شرط التخلّي عن الإستثمار في العراق.

قواعد ومنشآت عسكرية ومؤسسات أميركية في العراق

من كل هذا نخلص الى حقيقة أن عراق صدام حسين، من وجهة النظر السعودية، هو نفسه عراق ما بعده، بل أن التالي أسوء من السابق: لأنه عراق تحكمه نصف ديمقراطية، ولأنه عراق تحكمه أكثرية مختلفة مذهبياً، طالما ناصبتها الرياض العداء، وهي تشعر بأنها لا تستطيع التعايش معها لأسباب طائفية.

ونأتي هنا الى الهدف السعودي ـ الخليجي ـ الأميركي؛ فبقاء القوات الأميركية في العراق، يعدّ ضامناً أساسياً من أن الأخير لن يتغوّل في المستقبل، من خلال التحكّم بسياساته الأمنية والعسكرية، ومن خلال الضغط السياسي أيضاً. إذا ما خرجت القوات الأميركية من العراق، فإن أحداً لا في السعودية ولا في غيرها من دول الخليج، أو حتى الدول المجاورة التركية والإيرانية والسورية، يستطيع أن يمنع العراق من تأهيل نفسه عسكرياً وأمنيّاً. وبسبب الموقف السعودي المعادي للعراق، لا يستطيع أحدٌ أن يتنبّأ تماماً بردّ الفعل العراقي ـ المتحرر من أسر الضغط الأميركي العسكري ـ تجاه السياسات الخليجية الأمنية والسياسية والعسكرية. وقد خبرت دول الخليج جميعاً تحفّز العراق، وإمكانية رد فعله السلبي ضدّها. ابتداءً مع الكويت فيما يتعلق بالديون المترتبة منذ عهد صدام حسين ورفضها التنازل عنها؛ ومن خلال رد الفعل على التصويت الكويتي على مسألة إخراج العراق من (الفصل السابع)، أو من خلال رد فعل العراق وقواه السياسية على مسألة مشروع الكويت لبناء ميناء مبارك الكبير، والذي يعتقد أنه سيخنق العراق اقتصادياً واستراتيجياً. ردود الفعل تلك، قابلها ردٌ كويتي رسمي متحفّظ ومحدود، فيما قام النواب السلفيون المرتبطون بالسعودية، بالتحريض على معاداة العراق، وقابلوا أمير الكويت، الذي قال له بأنهم جهلة بموازين القوى؛ وأن مقتدى الصدر وعشرين ألفاً من ميليشياته قادرة على احتلال الكويت!

والبحرين، خبرت رد الفعل العراقي الشعبي والرسمي والديني، فيما يتعلق بالثورة القائمة ضد نظام الحكم هناك، ما دعا البحرين لإيقاف طيرانها (طيران الخليج) من التواصل مع مطار بغداد، ومثله مطار بيروت، ومطار طهران، في نزعة لا تخلو من الطائفية، وإن كان القرار في غير صالح البحرين اساساً لا سياسياً ولا اقتصادياً. وحتى السعودية، فإنها ـ بسبب سياساتها المعادية للعراق سابقاً ولاحقاً حتى الآن ـ تعلم أن الأغلبية الساحقة من العراقيين يكنّون لها عداءً شديداً، بسبب عملها التخريبي الداخلي، وهي ـ أي السعودية ـ قد استبقت الأمر منذ سنوات، وتعاقدت على بناء سور أمني ـ غير مسبوق في التاريخ البشري ـ يكلف عشرات المليارات من الدولارات، يحجز العراق بحدوده المتسعة مع السعودية.

باختصار: فإن السعودية وقطر بشكل خاص، فضلاً عن الكويت والإمارات، واللاتي ناصبت العراقيين العداء، المكشوف حيناً والمبطن في أحايين كثيرة، تعتقد بأن خروج القوات الأميركية من العراق، سيؤدي الى زيادة التهديد العراقي لدول الخليج، وأن وجود تلك القوات هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لإبقاء العراق غير مؤهل وغير قادر على القيام بأي تهديد، وبأي عمل دون الرغبة الأميركية.

أيضاً فإن الولايات المتحدة تشعر ـ ضمن الظروف السياسية القائمة ـ بأن العراق يمكن أن يخرج من سجن الماضي الصدّامي، ويبدأ بممارسة دوره الأمني، وبالضرورة السياسي، على نطاق واسع، وبشكل قد يعقّد الإستراتيجية الأميركية في المنطقة الخليجية، وقد يؤذي حلفاءها ويضرّ بنفوذهم السياسي والأمني (السعودية بشكل خاص).

2/ القضية السياسية:

بدخول القوات الأميركية واحتلالها لأراضيه، خرج العراق من المعادلة السياسية الإقليمية والعربية بشكل شبه كامل.

العراق كان مشغولاً بنفسه، ولم تكن له سياسة خارجية، وأنّى تكون له سياسة خارجية وبريمر يدير الدولة العراقية برمتها؟ وكيف تكون له سياسة مستقلة في الأساس، وهو مشغول بالجزء الأمني والمفخخات المصدّرة من سوريا والسعودية؟ زد على ذلك، لم تكتمل في السنوات الأولى العملية السياسية، فلا دستور موجود، ولا برلمان منتخب، ولا مجالس محلية، ولا حكومة قائمة تبعاً لذلك، فضلاً عن أن القرار السياسي والإقتصادي والأمني والعسكري وغيره، كان في مجمله بيد المحتل الأميركي ومستشاريه.

شيئاً فشيئاً، استكمل العراق بنيته الدستورية، وبصعوبة بالغة تخطّى المشاكل الأمنية الكبرى، وظهرت حكومة عبر الإنتخابات، وجرت عملية المحاصصة (التوافقية) بين الكتل السياسية، وبدأت الدولة تسيطر على جزء كبير من الوضع الأمني، وتتسلم الأمن داخل المدن، وغير ذلك.

من البديهي هنا، أن ينتقل تطور الوضع الى الجانب السياسي، حيث فتحت السفارات أبوابها، العربية والأجنبية، ولكن العقل الرسمي العراقي كان مشغولاً بالصراع الداخلي على الحكم، وعلى توفير متطلبات الحياة الأولية للسكان من الخدمات، وعلى توفير الحدّ الأدنى من الأمن. هنا، لم تتسابق الدول العربية لفتح سفاراتها، فبعض تلك الدول لم تجد نفسها معنيّة بما يجري، وبعض الدول الأخرى كانت شريكاً في تخريب الوضع الأمني الداخلي: سوريا والسعودية وقطر ودول خليجية أخرى. ومصر ـ مبارك ـ كانت مجرد ملحق للسياسة السعودية. لكن خلال السنوات الأربع الماضية، افتتحت معظم السفارات، بما فيها سفارات خليجية، وبقيت دولتان رائدتان في المعارضة هما: مصر والسعودية (وقطر كملحق). مصر تراجعت وفتحت سفاراتها بإغراءات اقتصادية عراقية كبيرة. أما السعودية فرفضت كل العروض، ولم تفتح سفارتها حتى اليوم، ومثلها قطر التي جنّدت الجزيرة لخدمة السياسة الخاصة بها، والتي كانت في جوهرها طائفية أيضاً.

هدايا سعودية: تفجيرات التكفيريين في العراق

لم تكتف السعودية طيلة سنوات احتلال اميركا للعراق بمحاصرة الحكم الوليد، بحجة أو بأخرى (الوضع الأمني مرّة، ووضع شروط تعجيزية مسبقاً، والخشية من الوضع الداخلي الوهابي على الحكم ثالثاً). بل أنها عمدت الى محاصرة العراق سياسياً، وكأنه ليس دولة عربية، ولا يمت الى العروبة بصلة، ما ترك المجال مفتوحاً لتركيا وإيران والدول الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية لتنشط فيه، وتحصد الجوائز والعقود والنفوذ وغير ذلك.

العراق المقيّد بالإحتلال، وبمشاكله الداخلية، استكمل الجزء الأكبر من شرائط بقاء نظامه السياسي، رغم كل المعوقات؛ وتطلّع الى تقوية علاقاته بالدولة العربية عبر الجامعة العربية (التي كان دائم المشاركة في اجتماعاتها)، وعبر التواصل مع دول مجلس التعاون الخليجي. وفي وقت الأزمات، وفيما كان العراق بحاجة الى الدعم السياسي، حجبت السعودية عنه ذلك، وأشغلته امنياً وسياسياً بالصراعات واللعب على القوى السياسية واختلافاتها (علاوي كان الأثير للسعودية وربما لازال كذلك). كانت السعودية تطمح لإسقاط النظام في العراق، وإعادة عقارب الساعة للوراء، وإلغاء النظام السياسي الإنتخابي التوافقي برمته. ومثل هذا الحلم كان مستحيل التحقّق، فلا الأميركيون كانوا يقبلون بذلك، ولا إيران ولا تركيا. وقد اكتشفت السعودية استحالة ذلك خلال العام الماضي، حيث كانت آخر محاولاتها!

لكن السعودية وإن لم تحقق ما تريد، فإنها كانت تستهدف أيضاً، إبقاء العراق مشغولاً بنفسه أطول مدّة ممكنة. بحيث لا يتطلع الى ممارسة أي دور سياسي خارج محيطه، وإبقاء النخب الحاكمة في العراق، في حال تصارع مستمر. فهذا هو الضمان لبقاء السعودية ونفوذها في المنطقة الخليجية، وتفرّدها ـ مع مصر ـ بقيادة حلف الإعتدال.

الولايات المتحدة من جانبها كانت تضغط على الساسة العراقيين ـ ولا تزال ـ بانتهاج سياسة معتدلة تجاه السعودية، وعدم الإصطدام معها، مهما بدر منها من تجاوزات واعتداءات ومؤامرات. وقد استجاب العراقيون لذلك. وفي نفس الوقت، حاول العراق ان يشق له طريقاً سياسياً يتواصل في الحدود الدنيا مع عالمه العربي؛ ولكن حين حانت استضافته للقمة العربية، تمّ تأجيل ذلك لعام كامل، ليس فقط بسبب ربيع الثورات العربية، وانشغال الأنظمة المستبدة بها، وإنما أيضاً بسبب أن عدداً من الدول العربية الخليجية بالذات، أعلنت أنها لا تريد أن تشارك في القمّة إن كانت ستعقد في بغداد!

استمرار التواجد العسكري الأميركي يعطّل مفاعيل السياسة الخارجية العراقية، ويحدّ من ممارسة العراق لدوره الذي اعتاد على ممارسته. وقد جاءت إشارة منذرة للسعودية حين وقف العراق مندداً بقمع الثورة في البحرين، فقال الخليجيون والأميركيون: إن كان العراق وهو واقع تحت الإحتلال غير قابل للضبط الكامل!، فكيف به إن تفلّت من ذلك الإحتلال وانسحبت القوات الأميركية؟!

استمرار بقاء القوات الأميركية يضمن تعويقاً لدور العراق الإقليمي وعلى مستوى المنطقة العربية، ويحدّ من تطلعات قادته للعب دور سياسي متميز اعتاد العراق على ممارسته منذ نشأته ككيان سياسي في بداية العشرينيات من القرن العشرين الميلادي. كما أن بقاء تلك القوات يعني إبعاد السعودية عن مزاحمة لاعب سياسي طالما سبب لها الإزعاج طيلة تاريخه، وطالما نافسها الزعامة، وطالما وقف أمام مخططاتها وسياساتها.

القوات الأميركية يجب أن تبقى، وإلاّ تذرّر ما تبقى من نفوذ سعودي في المنطقة، بما فيها منطقة الخليج. إن دخول العراق كمنافس سياسي في الحلبة العربية والخليجية أمرٌ غير مقبول سعودياً وأميركياً.

3/ القضية الإستراتيجية:

يمثل خروج القوات الأميركية من العراق انتصاراً ساحقاً لإيران. فحتى الآن، ورغم أنه ليس لدى إيران قوات عسكرية في العراق، فإنها اللاعب الأقوى في الساحة العراقية، وإن خروج القوات الأميركية يفسح المجال لإيران لتتمدد أكثر في العمق العراقي. هذه وجهة النظر الأميركية والسعودية. لا أحد من حلفاء أميركا يستطيع أن يحتلّ الفراغ الذي سيخلفه خروج تلك القوات ـ إن خرجت. ولا توجد أية دولة حليفة لأميركا، بما فيها السعودية والأردن وحتى تركيا، يمكنها معادلة النفوذ الإيراني في العراق.

بالمنطق السعودي: إن خروج القوات الأميركية يعني تسليم العراق كاملاً لإيران! وفي هذا القول شيء من المبالغة، لكن لا شك أن النفوذ الإيراني سيتصاعد.

العراق لازال يمثل تهديداً للسعودية ومنافساً سياسيا لها

بالمنطق السعودي الإستراتيجي، فإن إيران كسبت الجولة إقليمياً، وأضعفت النفوذ السعودي في أكثر من موقع، بما في ذلك العراق. وقد تبيّن خطأ السياسة السعودية وظلاميتها، واعتمادها المنطق الطائفي الحادّ والعنيف المتوازي مع تصدير التكفير والعنف. كلا البلدين السعودية ـ وايران ـ لهما حدود طويلة مع العراق، لكن كان لكل منهما استراتيجيته الخاصة به.

السعودية اعتمدت في نفوذها على التواجد الأميركي الذي انتقدته لاحقاً حين فشل الأميركيون في صدّ النفوذ الإيراني رغم أنهم يحتلون العراق ويتحكمون في كل قراراته!

وحين أُضعف النفوذ الأميركي في العراق، تألمت السعودية، ولكنها لم تؤسس لها نفوذاً موازياً يعتمد السياسة والحكمة، بل مضت على سياستها السابقة فأنتجت لها خسارة فادحة، وهامش مناورة ضئيل، وكل ما ترجوه السعودية اليوم ليس إيجاد موطئ قدم قوي لها في العراق، وإنما التخريب على النفوذ الإيراني الذي يتصارع مع أميركا وأياديه.

حين فشلت السعودية في المنافسة وهي تخسر كل يوم منطقة نفوذ، كان آخرها تونس ومصر، بفعل الثورات العربية، وفي قادم الزمن ستخسر نفوذاً كبيراً في اليمن.. اعتبرت كل فشل حاق بها، مكيدة إيرانية، ومؤامرة رافضية، وحوّلت التنافس الإقليمي الى حروب طائفية، علّها تستعيد شيئاً من قوتها، أو تبعد عنها شروراً قد تتوقعها. وتقصدت السعودية ـ ضمن الإستراتيجية الأميركية ـ ضرب مفاصل القوة في النفوذ المنافس، فانفتحت المعارك ضد حزب الله، وضد حماس، وضد سوريا، وضد الحكم القائم في العراق، وحاولت تطويق العلاقات الطبيعية التي يفترض أن تقوم بين مصر وايران، وإدخال العامل التركي للمنطقة (ثم تأسفت على ذلك كونه ينهش من رصيدها وليس من رصيد ايران).

خروج القوات الأميركية من العراق يعني للسعودية خسارة نهائية لها في بلد لم تحبّه يوماً منذ تأسيسه، لا في أيام ملكيته ولا جمهوريته ولا ديمقراطيته! وتقول السعودية، بأن إيران ستخسر عما قريب حليفها السوري، وبعدها سيُضرب حزب الله، وحسب كتابات سعوديين موالين في صحيفة الشرق الأوسط، فإن التحليل السعودي يقول بأن إيران تحاول أن تعوض خسارتها المحتملة في دمشق، بزيادة نفوذها في العراق ليكون بديلاً!

ضمن الصراع الإستراتيجي الأميركي الإيراني في المنطقة، فإن السعودية قد حددت موقعها، ورأت أنها وحدها وبدون دعم أميركي كفؤ للمواجهة مع ايران، وقد تبيّن لها أنها مجرد برغي صغير في ماكنة الصراع الأكبر، وأنها ملحق وتابع، تجري عليه الخسارة والربح حسب موقع سيّده الأميركي. فإن كان الأخير متراجعاً في المنطقة تراجعت السعودية، وإن كان متقدماً تقدمت السعودية. ويمكن القول بأن واحداً من أسباب تراجع الدور السعودي في المنطقة هو تراجع الدور الأميركي نفسه. ينطبق الحال نفسه على إسرائيل. لاغرو إذن أن تجد اسرائيل والسعودية نفسيهما في معسكر واحد ويقومان بالتنسيق في عمل لوبيهما في واشنطن بهدف تحريض واشنطن على القيام بعمل عسكري مباشر ضد ايران. ولا غرو أيضاً، أن الطرفين ـ وإزاء الهزائم المشتركة ـ تجمعت قلوبهما، واتفق خطابهما السياسي على أن ايران هي الخطر الأكبر، حتى صار التواصل واللقاءات بين المسؤولين الإسرائيليين والسعوديين أمراً اعتيادياً حتى على شاشات التلفزيون، كما فعل تركي الفيصل ذات مرة.

في إطار الصراع الاستراتيجي الأميركي الإيراني، وحشر السعودية نفسها كعدو لإيران ـ وليس كمنافس فحسب ـ فإن مسألة إنهاء وجود القوات الأميركية في العراق أمراً خاطئاً، ويعني خسارة واضحة لأميركا وحليفتها السعودية، التي تعيش منذ عقد على الأقل ما يمكن تسميته بـ (العقدة الإيرانية).

لن تخرج القوات

واضح ان القوات الأميركية لن تخرج من العراق لأسباب شرحناها سابقاً. فالحماسة الأميركية للإنسحاب أواخر أيام بوش وبداية عهد أوباما لم تكن تعني قبول خسارة النفوذ الأميركي في ذلك البلد الذي خاضت أميركا فيه حرباً مكلفة مادياً ومعنوياً. كان الغرض خروجاً لا يعبّر عن هزيمة كاملة، ولا يؤدي الى تضييع مكسب محتمل.

من المرجح أن تتفق القوى العراقية جميعها على التمديد للقوات الأميركية لخمس سنوات أخرى، بحيث يحدد عديدها ومهامها. ليس هناك في العراق من يريد أن يحمل لوحده عار قرار بقاء تلك القوات!

إذن. فلتتقاسم تلك القوى ذلك العار!

وحده التيار الصدري، أقوى الأحزاب شعبية، وصاحب أكبر قوة برلمانية، يرفض التمديد.

البقية تتذرّع بأمور مختلفة: السنّة يقولون بأن خروج القوات الأميركية سيؤدي الى سيطرة كاملة للشيعة، ونفوذ إيراني كبير.

بعض الشيعة يقولون بأن من الضروري للعملية السياسية أن تستقر قبل خروج القوات الأميركية، وإلا فإن النظام السياسي سينهار بالإقتتال الداخلي.

شيعة آخرون وأكراد يقولون بأن العراق اختار أن يقيم علاقات متوازية بين المتنافسين: إيران وأميركا. وإنّ تفرّد أحدهما بالعراق يعني الإضرار بمستقبله.

الحقيقة أن الشعب العراقي شعب صعب، وسياسيوه لا يقلّون صعوبة، إن لم نقلْ شراسة. لا أحد يستطيع أن يستحوذ على القرار العراقي، سواء بالدعم الخارجي أو بغيره.

لو كان النفوذ الإيراني بتلك القوة، كما تقول السعودية، إذن لكان باستطاعتها أن تقنع القوى العراقية (الكردية والشيعية بشكل خاص) بعدم التصويت لصالح بقاء القوات الأميركية. هذا لن يحدث فيما نظن. لكن السياسة الطائفية للسعودية تعتقد بأن كل شيعي هو عميل لإيران، حتى وإن كان في مقام الرئاسة الأولى، وفي بلد أكثره من الشيعة!! العمالة لأميركا ليست تهمة أو عيباً، بل العيب هي العمالة (المحتملة) لإيران!

بالطبع فإن ايران استبقت الأمر للضغط على القوات الأميركية بالإنسحاب. 18 قتيلاً اميركياً سقطوا في العراق كحصيلة لشهر يونيو الماضي فقط. وكلهم قتلوا على يد مجموعات مقاومة شيعية، تقول واشنطن أن لها صلة بإيران (عصائب الحق المنشقّة عن التيار الصدري)، وقد هدد وزير الدفاع الأميركي في 8/7/2011 بمهاجمتها منفرداً، وبدون إذن الحكومة العراقية، واتهم إيران بأنها وراء هذا التحول، حيث تمتعت القوات الأميركية خلال عامين كاملين بخسائر محدودة جداً.

تريد إيران من واشنطن أن ترحل، لأسباب خاصة بها، فالوجود الاميركي في العراق المجاور أمرٌ مقلق للأمن الإستراتيجي الإيراني. عشرات الألوف من القوات الأميركية على الحدود الإيرانية الغربية، ومثلهم على الحدود الشرقية الأفغانية، لا بدّ ان يثير القلق. الوجود الأميركي في الخليج عامة غير مرحب به ايرانياً، فهو وجود يمنع ايران من ممارسة دورها كقوة إقليمية عظمى كما كانت من قبل. فضلاً عن أن الوجود الأميركي المرحب به من قبل دول الخليج، لم يوفر لهذه الأخيرة الأمن والإستقرار، رغم تواجد القواعد الأميركية العديدة، وقيادة الأساطيل البحرية الأميركية (قيادة الأسطول الخامس في البحرين).

لكن التحرشات الإيرانية لن تفضي الى قرار لصالح الإنسحاب الأميركي الكامل، حسب المعطيات الحالية. وفي المقابل، فإن الوجود الأميركي في العراق قد يتحوّل الى رهينة فيما لو تصاعد الوضع في المنطقة، أو تمت مهاجمة ايران، وفق أسوأ السيناريوهات.

ستحقق السعودية ودول الخليج ما تريد، اي ستبقى القوات الأميركية في العراق. ولكن: هل يعني هذا أن السعودية ستستعيد ليقاتها، ومجدها الغابر، ونفوذها الآخذ بالتلاشي؟

لا نظن ذلك!

العراق، كما إيران، باقيان في المنطقة، وهما أكبر دولتين مطلتين على الخليج. وقد أثبتت الوقائع التاريخية أن لا أمن في الخليج بدونهما، فكيف يكون باستعدائهما؟!

وأثبتت الوقائع لمن يتدبر، بأن زيادة التواجد الأميركي في المنطقة لم يزدها إلا قلقاً وخوفاً، ولم يهدّيء من روع الحلفاء، رغم الأساطيل والقواعد المنتشرة.

أميركا والسعودية خلقت أعداءً وهميين، بينما هم في أقصى الحالات: منافسين سياسيين للسعودية ونفوذها. وها هي الأخيرة تخسر مواطن نفوذها الواحد تلو الآخر، ويبقى السؤال: الى متى ستبقى الإستراتيجية السعودية ـ الخليجية معلّقة على العم سام؟!

الصفحة السابقة