الدوله المتجاهلة

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، واجه آل سعود حملة دولية إنطلقت من الغرب وتركزّت حول نقطة واحدة هي: أن الإستبداد الديني والسياسي في السعودية هو المسؤول الأول والمباشر عن ظاهرة التطرّف والإرهاب، ما استوجب حملة علاقات عامة تقودها شركات متخصّصة في الولايات المتحدة وأوروبا بهدف إعادة طلاء صورة آل سعود ودولتهم الوهابية.

على مستوى العائلة المالكة، تم تكليف عدد من الأمراء ممن يتقنون اللغة الانجليزية أو درسوا في الجامعات الغربية، ولهم صلات بمراكز القرار في واشنطن والعواصم الأوروبية، أو يحتفظون بصداقات وثيقة مع شخصيات مؤثرة في صنع القرار هناك، من أجل التخاطب معهم بلغة خاصة وفي الغالب تبريرية..

من بين أولئك الأمراء الذين انبروا لمهمة الدفاع عن سمعة العائلة المالكة كان الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السابق، والسفير في لندن وواشنطن سابقاً، حيث ألقى محاضرات مكثقة في الجامعات الأوروبية والأميركية دفاعاً عن نظام الحكم السعودي وأجرى مقابلات صحافية مكثّفة في أوروبا والولايات المتحدة لتصوير المملكة بخلاف ما هي عليه، بل لم يتردد في مقابلة مع القناة الخامسة التابعة لهيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي في العام 2004 بأن يعتبر العائلة المالكة متقدّمة على الشعب في نزعتها الديمقراطية والليبرالية وأن المجتمع هو من يحول دون تنفيذ أجندة إصلاحية متقدّمة. بطبيعة الحال، هو يتحدث عن شريحة من المجتمع النجدي، قد تكون العائلة المالكة متقدّمة عليها، وهو يدرك بأنها لا تمثل سوى جزء ضئيل من سكّان المملكة.

ردّد الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية العليل، في مقابلة مع صحيفة (نيويورك تايمز) حين بالغ في توصيف الليبرالية السعودية الى حد أنه تنبّه لغلطه الفادح، فتراجع عن كلامه ولكن على المستوى المحلي ودون إلفات إنتباه قرّاء الصحيفة الاميركية تلك، حيث عدّل تعريف الليبرالية ووضع عليها قيوداً كيما لا تفهم بالطريقة الغربية.. وللأمير مواقف مشهودة في الاستبداد، ما ينفي عنه صفة الليبرالي بأي شكل. ينقل سفير بريطاني سابق في الرياض بأنه أبلغ الأمير سعود الفيصل عن نيّته نشر كتاب عن تجربته في السعودية، فقال له بالحرف الواحد: (لا مشكلة، أنت تنشره ونحن نمنعه).

نعود الى الأمير تركي الفيصل، الذي يكرّس جهوده من أجل تلميع قبح الإستبداد السعودي، والذي ما إن يسلك طريقه الى الرأي العام حتى يتساقط غيّاً وزيفاً. ومن وهن هذا النظام الجائر، أن الفشل حليفه حين توضع مزاعمه على المحك، فقد يدّعي أمراء آل سعود ما يشاؤون من النزوعات الديمقراطية والليبرالية، ولكن في لحظة امتحان صدقية المدّعيات، يتكشّف الجوهر الاستبدادي للعائلة المالكة.

في مقابلة تركي الفيصل مع قناة بي بي سي العربية في 8 تموز (يوليو) الماضي ما يلفت الإنتباه، ليس لأن إجاباته كشفت عن خبايا العقل السياسي السعودي، ولكن أيضاً لأن الإجابات جاءت متناقضة مع كل مدّعى ديمقراطي. وفيما يتّفق كل المراقبين العرب والأجانب على وصف ما جرى في العالم العربي بأنه ربيع الثورات، أو بالأحرى ربيع العرب، فإنه رفض هذا الوصف ونفى أن يكون هناك ربيع عربي، ورفض هذه التسمية بل قد يكون هذا الربيع حسب قوله (خريف أو صيف أو زمهرير)؟ لماذا يا سمو الأمير، وقد فتح نافذة أمل لشعوب عربية عانت من استبدادكم واستبداد حلفائكم أمثال زين العابدين بن علي، الذي أذاق الشعب التونسي الأمرّين حتى أطلق الكهول آهات اختزلت في عبارة أحد المناضلين المغمورين (لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية)، وحسني مبارك، طاغية مصر، المسؤول عن صنع القطط السمان الذين نهبوا خيرات الشعب المصري، وامتهنوا كرامة المصريين، حتى باتت (البلطجة السياسية) سمة في الحكم المصري.

هذه العائلة المالكة التي كان يزعم تركي الفيصل بأنها متقدّمة في ليبراليتها وديمقراطيتها، غضبت لأجل مبارك حين تخلّت الإدارة الأميركية عنه بعد أن شعرت بأن الشعب المصري يرفضه. عارضت العائلة المالكة إرادة الشعب المصري، بحجة أن مبارك له علاقة طويلة مع دولته، ووقوفه معها في أزماتها خصوصاً الحرب العراقية الايرانية، وحرب الخليج الثانية، والحرب على لبنان وقطاع غزة، وتشكيل معسكر الإعتدال حيث كان نظاما آل سعود وحسني مبارك يعملان في خدمة المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي.

تركي الفيصل رفض تسمية ما جرى في مصر بأنه (ثورة)، حسناً قد نتفق معه في نفي الصفة الثورية باعتبار أن زوال مبارك ليس نهاية المطاف، ولابد من استكمال شروط الثورة بإزالة كل آثار النظام واقتلاع جذوره، ولكن هذا ما لايقصده الأمير الليبرالي جداً، فهو يريد نظاماً متصالحاً مع آل سعود، أي ضمن المشروع الأميركي الاسرائيلي كيما يكون شرعياً.

مشكلة تركي الفيصل، وهي مشكلة آل سعود عموماً، أنهم لا يريدون التعامل مع حقائق على الأرض، فهم يطلقون توصيفات لا أساس لها، كنفيهم وجود ربيع عربي، أو حتى عدم الاقرار بالتغيير، بل لا يؤمنون بشيء إسمه (إرادة الشعوب)، ولذلك حين سئل عن احتمال انتقال ربيع العرب الى السعودية قال (المملكة لا تواجه أي تهديد لنظام الحكم فيها)، هكذا يفسّر التحول الديمقراطي، وهكذا يبدو الديمقراطي من آل سعود، فإنه ينظر الى الاصلاح والتغيير باعتباره تهديداً لنظام الحكم. يكمل جوابه بالقول بأن سياسة المملكة في رعاية شعبها (لم تتوقف منذ تأسيس المملكة)، فهو ينظر الى الاصلاح من منطلق مادي محض، ولم يخطر بباله أن يطالب الناس بالحرية والمشاركة في صنع القرار..إذا كان هذا المتثاقف يجيب بهذه الطريقة، فماذا ينتظر من كبير المثقفين و(كبيرة القعدة)، إنها دولة متجاهلة يا صاحبي!

الصفحة السابقة