(1)

خريف سعودي وربيع عربي

العامل الإقتصادي في الخريف السعودي

محمد شمس

لماذا ضرب الربيع العربي أنظمة في القاهرة وتونس واليمن ودمشق، ولم يصب إلا بأقلّ الأذى أنظمة ملكية مستبدّة كما في الخليج والسعودية، حيث تنمّرت هذه الأخيرة، وعادت الى المزيد من القهقرى من التعسّف والإستبداد وخنق الحريّات أكثر فأكثر؟.

الفقر في بلد النفط

هناك رؤى ونظريات مختلفة تحاول تفسير هذا الأمر. أحدها يتعلق بالعامل الإقتصادي ودوره في صناعة الثورات العربية وإفشال غيرها.

هناك رأي يقول بأن العامل الإقتصادي جوهري التأثير ـ وإن كان غير وحيد ـ بحيث أن درجة التأزّم الإقتصادي، وما يتبعه من تداعيات إجتماعية، كان فاعلاً محرّكاً للجمهور على الحراك والتظاهر، والمطالبة بالتغيير، سواء كان في بداية الأمر، كما حدث في تونس في قضية بوعزيزي، أو كان العامل الإقتصادي قد جاء في ضمنياً في القضية السياسية نفسها، على اعتبار أن الأزمة الإقتصادية ما هي إلاّ انعكاس لطبيعة أو نتيجة لوجود أنظمة مستبدة تسلطية.

ومما لا شك فيه أن العامل الإقتصادي المتردي للشعوب العربية كان عاملاً أساسياً في جلب السخط، وتحريك الجمهور مقابل الأنظمة، وسيبقى عاملاً مهماً في أيّ حراك سياسي سواء في المنطقة العربية أو غيرها. لكن السؤال يكمن في حجم تأثير العامل الإقتصادي من بلد عربي لآخر، وتطرح في هذا المجال مفارقات عديدة.

فوضع تونس الإقتصادي أفضل من عدد من الدول العربية لم يصبها الغضب الشعبي. ومثل ذلك ينطبق على مصر، وعلى البحرين التي تأتي في المرتبة الرابعة خليجياً من حيث حجم دخل الفرد، سابقة في ذلك السعودية نفسها، وسابقة أيضاً سلطنة عُمان التي تأتي في مؤخرة الركب. كما ينطبق الأمر أيضاً على ليبيا الغنيّة، والى حدّ ما على سوريا التي تتمتع بوضع اقتصادي معقول، في دولة لا تثقل كاهلها ديون ولا غيره.

قد يحتجّ البعض بمسألة أخرى، وهو أن الحراك الثوري لا علاقة له فحسب بمستوى دخل الفرد في دول عربية ما، بقدر ما له علاقة بتوزيع الثروة وخدمات الدولة. فقد تكون الثروات مكدّسة بيد فئة اجتماعية أو مناطقية أو مذهبية، وهناك جماعات أخرى محرومة قد تنطلق منها شرارة الثورات. وهذا صحيح الى حدّ ما كما هو واضح بالنسبة للبحرين، حيث تتعرض الأكثرية الى التمييز الطائفي في مجال السياسة والإقتصاد والخدمات والتوظيف وغيرها، كما هو واضح في مصر حيث القطط السمان التي تستنزف الإقتصاد المصري. وبقدرٍ ما يمكن الإشارة ايضاً الى تونس، حيث التفاوت بين الشمال المنعّم، والجنوب المحروم الذي انطلقت منه شرارة الثورة.

أيضاً، فإن هذا قد لا يكون كافياً لتوضيح معالم التأثير الإقتصادي في الحراك السياسي في دول الربيع العربي. والسبب أن من يشعل الثورات ويقودها هم أبناء الطبقة الوسطى، لا الطبقة المخملية ملتصقة المصالح مع الأنظمة، ولا الطبقة الدنيا الفقيرة المشغولة بتوفير قوت يومها. فإذا كان العامل الإقتصادي مؤثراً، فيفترض أن تنهض الطبقات الفقيرة قبل غيرها، وهذا ما لم نجده في معظم الثورات العربية، بل أن من قام بذلك هم أبناء الطبقة الوسطى المكتفية اقتصادياً، والباحثة لها عن دور في معترك السياسة أكثر من أي فئة أخرى. نعم؛ فقد التحقت الطبقة الدنيا بالثورة وكان عددها عنصراً فاعلاً في نجاحها؛ لكن القيادة بقيت بيد الطبقة الوسطى ولاتزال في كل عواصم الربيع العربي.

اعتراف: وضع اقتصادي مزري للملايين

وفي العموم، أن الشعارات التي رفعت في كل الثورات العربية لم تشر إلا لماماً وبشكل عرضي جداً للموضوع الإقتصادي أو للأزمة الإقتصادية كعامل محرّك لها، إما لأن هذا العامل كان أقل تأثيراً من غيره من العوامل، أو لتداخله مع عناصر سياسية طغت على السطح، أو لأن الثورات العربية اتجهت في أهدافها لضرب البنية السياسية لأنظمة الإستبداد باعتبارها مولّداً للأزمات الإقتصادية والإجتماعية وغيرها.

ولنا أن نلاحظ أنه جرى في معظم الدول العربية، بما فيها الدول التي أصابها التسونامي السياسي الثوري، تحرّكت الأنظمة هناك لاحتواء الثورات أو لمنع قيامها من خلال تقديم (رشوات اقتصادية) للجمهور كي يهدأ، وقدمت وعوداً للإصلاح الإقتصادي، وزادت الرواتب، وأبقت على دعم السلع الأساسية، بل يمكن القول أن بعض الدول العربية حسّنت من أدائها الإقتصادي، لتجنّب قيام الثورات أو لتهدئتها.

حتى في دول الخليج نفسها، والتي عادة ما ينظر اليها أنها تعيش في بحبوحة، زادت رواتب مواطنيها، وكان آخر تلك الدول قطر، التي زادت في شهر سبتمبر الجاري رواتب مواطنيها بين 60 الى 120%، وأبقت على الدعم حيث الكهرباء والماء مجاناً، وحيث فواتير التلفون المحلي مجانية. وفي الكويت، عمد أميرها الى توفير السلع الأساسية للمواطنين مجاناً لمدّة عام كامل، بما في ذلك اللحوم والأرز والسكر والزيوت وغيرها. وفي سبيل مكافحة تأثير العامل الإقتصادي والحدّ من تأثيراته، عمدت بعض دول الخليج الى دعم البحرين وسلطنة عمان بمليارات الدولارات، للتغلّب على المشكل السياسي، وفي الحقيقة بغية عدم تقديم تنازلات سياسية لمواطنيها. كما وسّعت دول الخليج دعمها المالي (اعتماد الرشوة) ليشمل النظامين الملكيين في الأردن والمغرب حتى لا تأتي عليهما الثورة.

في السعودية، يلعب العامل الإقتصادي مهدّئاً للمعارضة؛ حيث تعمد الحكومة في الأزمات، كما في هذه الفترة من تاريخ الثورات العربية، الى (دفع الرشى) للجمهور حتى يصمت، ولو مؤقتاً، ريثما تتجاوز العائلة المالكة في الرياض الأزمة. وهناك اتفاق بأن الرشى الإقتصادية التي تأخذ شكل زيادة الرواتب، وتوظيف العاطلين، وشراء العساكر وقوى الأمن، وتهدئة رجال الدين عبر المزيد من الإنفاق والترضية. لذا ظهرت بعد إعلان الرشى في مارس الماضي مقولة: (نريد كرامة لا مكرمة)!

لكن التساؤل الحقيقي: كيف يكون العامل الإقتصادي مهدّئاً، في حين أن الإنفاق الحكومي والرّشى اتجه للقطاع العام فحسب، في حين يتحمّل التضخّم المتصاعد القطاعين الخاص والعام؟!

طوابير من الباحثين عن عمل

وهناك سؤال آخر: لماذا لا يكون للعامل الإقتصادي دوراً معاكساً على النحو الذي جرى في البحرين وسلطنة عمان. فنسبة البطالة في السعودية أكبر من أي بلد خليجي آخر، وتصل الى نحو 30%؛ و78% من عدد السكان يعيشون في منازال مستأجرة؛ و30% من المواطنين يعيشون تحت حدّ الفقر، وهناك مثلهم على الأقل يعيشون فقراء.. ومثل هذه الأرقام السيئة لا توجد حتى في دول غير نفطية. فلماذا لا تشعل هذه الأوضاع ثورة على النظام، الذي لا يوجد مثيل له في الفساد والإثرة؟ ثم أليس الضخّ المالي دليل على أن هناك خشية ما من تأثيرالعامل الإقتصادي الصعب على شرائح اجتماعية بحيث يدفعها الى التوتر السياسي، والى المعارضة السياسية للنظام الذي فشل في تحسين ظروف المعيشة لملايين من المواطنين، رغم الثروة الطائلة وغير المسبوقة تاريخياً والتي تتدفق على النظام بفضل عائدات النفط؟

بات من المعروف جيداً بأن الدول الريعية، أي الدول التي تتوفر لأنظمتها مصادر دخل ضخمة غير الضرائب، هي ـ في العادة وليس دائماً ـ دول قادرة على تجميد النظام السياسي وحصر المشاركة الشعبية في يد أقليّة، كما أنها قادرة على شراء الضمائر وحرف مطالب المواطنين من سياسية الى اقتصادية. وحسب التعبير السياسي الشائع: (No Taxation No Represntation لا تمثيل سياسي بدون ضرائـب). تستطيع العائلة المالكة وفق هذا المنطق تأجيل التغيير السياسي، أو حتى الإصلاح السياسي، بحيث كلما تعرضت لأزمة سياسية، أخرجت من خزانتها بعض المال ونثرته، وقد اعتدنا على هذا المشهد مراراً خلال العقدين الماضيين بالذات.

إن المدفوعات المالية الحكومية لا تغيّر بالضرورة أوضاع الملايين من المواطنين، بل ربما تزيد بؤسهم، كون ذلك يؤدي الى التضخم كما هو حاصل الآن. في حين أن المستفيد من الدفعات المالية المباشرة ليس كل الشعب، لا العاملون في القطاع الخاص، ولا أولئك العاطلون عن العمل، ولا الفئات الفقيرة المهمّشة التي تعيش على الصدقات أو على هامش الحياة الإقتصادية والإجتماعية.

ترى لماذا لم يثر هؤلاء أو يتحركوا؟ وهل بمقدور مثل هؤلاء الضعفاء ضعيفي التعليمي أو عديميه، تنظيم أنفسهم للقيام باحتجاج جماعي، ومتى، خاصة وأنهم مشغولون بقوت يومهم، وليس لديهم تراث نضالي يتكئون عليه، ولا أنظمة أو قوانين تسمح بالجأر بالشكوى لا عبر الإعلام ولا عبر التجمع والإعتصام والتظاهر؟

الصفحة السابقة