(2)

خريف سعودي وربيع عربي

دور العامل السياسي في الخريف السعودي

محمد الأنصاري

لا شك أن الثورات العربية هي ثورات سياسية بامتياز. بمعنى أنها جاءت لتحقيق أهداف سياسية بدرجة أولى. هي لم تكن (ثورة خبز) ولا (انتفاضة حرامية) كما قال السادات عنها في انتفاضة 18-19 يناير 1977. بل هي ثورات سياسية تبتغي تغييراً شاملاً لكل أوجه الحياة في الدولة ومؤسساتها، أي اقتلاع أنظمة وتأسيس أخرى على قيم ومفاهيم وبأدوات جديدة (رغم أنها حتى الآن لم تحقق ذلك لا في مصر ولا في تونس في حين لم تتوضح معالم النظام البديل في ليبيا).

جوهر الأزمة في العالم العربي سياسي، حيث تنتشر الأنظمة المستبدّة في طول وعرض هذا العالم. وإن منحى الشعوب باتجاه (الثورة السياسية الشاملة) لا (الإصلاح السياسي) سببه الأساس: عجز الأنظمة السياسية العربية عن إصلاح ذاتها، وفشلها في تلبية الحدود الدنيا لتطلعات شعوبها في الإصلاح السياسي، ما جعل الثورة خياراً بديلاً وإن كان مكلفاً، بل بدا أنه هو الخيار الوحيد المتاح أمامها. لقد تجمّعت مياه كثيرة وراء سدود الإستبداد، ولم تجد متنفساً، فكان من البديهي أن تنهار عاجلاً أم آجلاً.

أيضاً، فإن هناك تفاوت في دور العامل السياسي في الثورات العربية. هناك بلدان عربية خطت خطواتها الأولى تجاه التغيير ـ وهي غير كافية بالقطع ـ حيث اتسع هامش حرية التعبير والصحافة، وتأسست مئات (وربما آلاف) من منظمات المجتمع المدني، وهناك أحزاب سياسية تتفاوت في فاعليتها ونشاطها، رُسم لها بعض الدور لتلعبه، كمؤشر الى بعض التحول الديمقراطي، ولكن أكثر هذه الإجراءات أشبه ما تكون (للتنفيس) منها الى (التغيير) الحقيقي والجادّ.

الأنظمة السياسية العربية مختلفة أيضاً في درجة قمعها السياسي، واستبدادها. وهي مختلفة من حيث كونها أنظمة عامّة أو نظم تحكمها أقليّات مذهبيّة أو أحزاب واحدية أو عوائل مالكة أو مجموعات وظيفية عسكرية أو أمنيّة. وغالباً ما يكون حجم القمع الذي يسلّطه نظام سياسي في بلد عربي مرتبطاً بحجم المقاومة والمعارضة والنشاط الذي يبديه شعب ذلك البلد. ففي البلدان التي يضعف فيها الحراك السياسي، وتقلّ فيها المطالبة بالتغيير، لا تكون هناك حاجة كبيرة الى القمع، فهذا الأخير إنّما يشتدّ حين تشكّل المعارضة خطراً على النظام. لهذا فإن المقارنة بين بلد عربي وآخر تبدو غير دقيقة من ناحية حجم القمع الأمني، لاختلاف البيئة السياسية وحجم الإحتجاج النابع أساساً من حجم تطلّع شعب عربي ما بالقياس الى نظيره في بلد آخر.

في بلد مثل السعودية، فإن غاية المنى لدى البعض هو شيء من المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي، قد تكون في السماح بتأسيس منظمات مجتمع مدني، وفي انتخابات ـ ولو محدودة ـ لمجلس الشورى؛ في حين أن سقف المطالب والتطلعات يرتفع في الكويت (التي بها كل هذا) الى المشاركة الفعلية في إدارة الدولة وتقليص دور عائلة آل صباح، وتعيين رئيس وزراء من العامّة، وغير ذلك. ويقفز التطلّع في بلد مثل البحرين الى حتى إسقاط نظام الحكم هناك، وهكذا!

لهذا فإن المقارنة بين نظامين عربيين، يجب أن يأخذ بعين النظر حجم التطلعات الشعبية، ومن ضمنه التراث السياسي والنضالي لدى شعب ما، وتطور المعارضة فيه، ومدى وجود وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني، ومستوى الحريات المتوفرة.

القمع الأمني ليس محدداً وحيداً في نشوء ثورة عربية من عدمه. فمستوى القمع في البحرين واليمن (والى ما قبل قيام الإحتجاجات فيهما) أقل من السعودية مثلاً؛ والحريات العامّة فيهما كانت أكبر بكثير مما هو متوفّر في السعودية. ومع هذا لم يحدث شيءٌ ذو بال في السعودية.

في بلدان الثورات العربية، وبالتحديد في مصر واليمن وتونس والبحرين، كان هناك هامش حرية تعبير لا يتوافر في كثير من الدول العربية؛ وهناك مئات، بل آلاف من منظمات المجتمع المدني، لا يوجد واحد بالمئة منها في بلد مثل السعودية. ومع هذا ظهرت في هذه الدول الثورات، ولم تظهر في بلدان أخرى ينكمش فيها النشاط السياسي العام الى حدود تقارب الصفر، أو الصفر بعينه، كما في الإمارات وقطر والسعودية.

هناك رأيٌ يقول، وهو الى حدّ كبير صحيح، أن وجود فسحة ولو محدودة من حرية التعبير، ووجود منظمات مجتمع مدني تتمتع بقدر من الفاعلية والإستقلال عن الدولة، وكذلك وجود موروث نضالي شعبي، ساهم والى حدّ كبير في قيام بعض الثورات العربية؛ فيما الأصوات مخنوقة في بلدان أخرى، حيث معرفة وقدرة المواطنين على التجمع والتنظيم محدودة للغاية. وقد نجد في بلدان أخرى، كسوريا، والى حد ما ليبيا، تشكيلات ومؤسسات سياسية ونقابية واجتماعية تهيمن عليها الدولة، وهي مفرّغة من محتواها، إضافة الى وجود ممارسات سياسية تتعلق بتركيبة النظام السياسي، مثل وجود دساتير وممارسة الإنتخاب وما أشبه، وهذه ـ رغم خوائها وتضليلها ـ قد يكون لها دورٌ أيضاً في تعويد الجمهور وتعليمه أوليات حقوقه السياسية وكذلك الممارسة السياسية، التي قد لا تكون موجودة أصلاً في بلدان أخرى، مثل السعودية.

هذا يعني، أن قيام الثورات والإحتجاجات مرهون بأمور كثيرة، تتعلق ببنية النظام السياسي، وتطلعات المواطنين لتغييره، كما تتعلق بما يتوفر للمواطنين من بنى سياسية مثل الأحزاب والتنظيمات والهيئات الأهلية، وبما للشعب من خبرات سياسية ومعرفة بحقوقه، وبما هو متوفر له من أدوات نضالية قادر على تفعيلها واستخدامها ضد النظام المستبد لكي يحكمه، وهذه كلها يفتقدها المواطنون السعوديون.

ومن هنا أيضاً، قد نفهم كيف أن الأنظمة العربية اتخذت منهجين أو مقاربتين تجاه التغيير الذي في الأساس لا تؤمن به. هناك دول ـ وحتى لا يصل شعبها الى حدّ الإنفجار ـ قامت بتعديلات سياسية محدودة لا تغير من تركيبة السلطة، ولا توسع من عدد المساهمين في صناعة القرار. وهي وإن سمحت لبعض الأحزاب بالتأسيس والعمل، كما في مصر، والى حدّ ما الأردن، فإنها أبقتها تحت الضغط، حتى صارت أشبه ما يكون بالديكور، غير قادرة على إحداث نقلة حقيقية في الوضع السياسي. بل أن هناك أحزاب سياسية قائمة في بلد مثل سوريا (ما يسمى بأحزاب الجبهة الوطنية المتحالفة مع حزب البعث الحاكم) لكنها في حقيقتها مجرد أداة مفتعلة للتضليل ولإظهار حالة من التنوع السياسي فيما لا يعدو الأمر أن تلك الأحزاب تلك مجرد ملحق للحزب الحاكم.

بعض الدول العربية، قبلت التنازل، وعوّضت عن الإنغلاق السياسي بشيء من الإنفتاح الإعلامي وسمحت بقيام مؤسسات مجتمع مدني، رأت أنها غير ضارّة لها، أو يمكن تحمّل ضررها. وقد حدث هذا في المغرب وتونس ومصر والأردن وحتى البحرين واليمن، على أمل أن تستقطب هذه المنظمات بعضاً من الطاقات الشابّة وتوجهها في مكان لا يصيب النظام السياسي في مقتل، ولا يؤثر عليه إلا في الحدّ الأدنى من التغيير. مثل هذه الموافقة الرسمية بالحذر تجاه الإنفتاح الإعلامي وتأسيس المجتمع المدني (رغم تضييقه وكبحه حسب الحاجة) جاء جزئياً تجاوباً مع الرؤية الغربية تجاه ما سُمي بـ (دمقرطة الأنظمة العربية).

فالغرب، وبعد أن رأى ممانعة حادّة من الأنظمة السياسية (وهي في معظمها حليفة له) لتقوم هي بتغيير جلدتها طوعياً، ولأنه لا يريد الإقدام على ممارسات ديمقراطية بحجة الخوف من الإسلاميين ووصولهم الى السلطة عبر صناديق الإقتراع، ألقى بكامل جهده في دعم مؤسسات المجتمع المدني خاصة في المغرب ومصر، كخطوة أولى نحو إحداث التغيير التدرجي الذي يبقي الأنظمة بتوجهاتها القائمة ولا يسقطها، ويوصل في الوقت نفسه جهات غير إسلامية لتسنّم مقاعد التغيير المحتمل. وفعلاً فقد نجح هذا المسعى، حيث تحوّلت مؤسسات المجتمع المدني الى أقنية للجهد الشعبي، وساهمت ـ خلافاً لرغبة الغرب ـ في إسقاط مبارك وبن علي، كما ساهم الكثير منها في تأجيج الثورة في اليمن والبحرين. وقد لعبت تلك المنظمات دوراً أساسياً ـ مع القدر المتوفر من هامش الحرية ـ في الضغط باتجاه تحقيق تنازلات سياسية محسوسة في المغرب، وإن لم نرَ حتى الآن مثيلها في الأردن.

المجتمع المدني: غيابه أضعف الحراك السياسي

ما ذكر أعلاه، من الإنفتاح أو التنفيس الإعلامي والسماح بقيام مؤسسات مجتمع مدني، كان مجرد واحدة من المقاربات التي نهجتها الأنظمة العربية لتلافي تداعيات الإنغلاق السياسي الكامل.

لكن هناك مقاربة أخرى، أوضح ما تكون في السعودية. فهذه الأخيرة تعد الأكثر بين الدول العربية تشدّداً في تأسيس منظمات أهلية. وهي حين سمحت بشيء من الحريّة في النقد ـ غير السياسي ـ لأداء مؤسسات الدولة، فإنما كانت مكرهة عليه، ووجهته في أقصاه الى انتقاد (التطرف الديني) الذي ترعاه، بغية تمرير سياسات اجتماعية أكثر انفتاحاً، رأت أنها بحاجة اليها لامتصاص فائض النقمة الداخلية، من أن يتحول باتجاه المزيد من العنف الأعمى الذي ضرب الدولة في سنوات 2002-2005، ولازالت بعض بقاياه قائمة حتى اليوم. والحكومة السعودية فوق هذا لم تشرعن النقد في قانون، ولا في نظام مطبوعاتها الجديد، وبالتالي فهي كانت ولازالت تستطيع أن تمرر الموضوعات التي تصيب خصومها أو منافسيها أو التي تخدم سياساتها، وتحدد القدر من النقد، ثم تقرر إيقاف الكتابة والنشر في هذا الموضوع أو ذاك، وفق حسابات المسيطر على الإعلام من أمراء الدرجة الأولى، وبالخصوص نايف وسلمان وسلطان، قبل أن يتقاعد هذا الأخير بفعل المرض.

أمرٌ آخر، قد يلقي ضوءً حول أسباب الفسحة الإعلامية المحدودة التي أتيحت في السعودية (الصحافة تحديداً)، في السنوات القليلة الماضية، وهو أن العائلة المالكة، وجدت نفسها ولأول مرّة في تاريخها، غير قادرة على مواجهة الإعلام الآخر المنافس أو المعارض من خارج الحدود. فبفعل تطور التكنولوجيا ووسائل الإتصال والتواصل الإجتماعي، بما في ذلك الموبايل، ومواقع الإنترنت والفيس بوك وتويتر فضلاً عن البال توك والقنوات الفضائية المختلفة، لم يعد هناك حصانة لدى النظام من النقد، ولم تعد هناك قدرة على المنافسة واستقطاب المواطنين بإعلام هزيل، حيث السخرية من قنوات (غصب 1، وغصب 2). الرقابة على الإنترنت، وحجب مئات الآلاف من المواقع، بشكل لم يوجد في أي بلد في العالم، لم يفد النظام كثيراً، فالمواطنون التفّوا على هذا الحجب، وصاروا أكثر بلد في العالم يستخدم الإلتفافات الإلكترونية لتجاوز الحجب (البروكسي).

قبل نحو سبع سنوات، فاض الكيل بالصحافة المحلية التي لا تُقرأ، وظهر نقد بأن مساحة حريتها تجعلها فاشلة في المنافسة مع مواقع الإنترنت؛ وقدّمت توصيات الى العائلة المالكة، من أن قيادة الرأي العام المحلي وتوجيهه بحاجة الى جرعة من الحريات حتى تستطيع استقطاب الشباب، وإلاّ ما الفائدة من إعلام الدولة بمجمله إن كانت المحصّلة أن الجيل الشبابي يستقي معلوماته وتوجيهاته من فضائيات وصحف ومواقع الكترونية خارجية؟

هذه الخلفية تكشف سبب توسع هامش الحرية ولسنوات محدودة. لكن لم تكن الفسحة الإجراء الرسمي الوحيد. فقد اتجهت الحكومة السعودية، بعد أن أعياها الحجب دون ان تتنازل عنه، الى تأسيس إعلام بديل يستقطب ويعوض النقص، لا يمكن أن ينمو في الداخل، فظهرت عشرات القنوات السعودية في الخارج، بعضها يقدّم التوجيه السياسي، كما العربية، وبعضها يقدّم التوجيه الديني، كما المجد وأخواتها، وبعضها يغرق المجتمع المسعود بألوان من التغريب والإباحية الرخيصة، ويبعدهم عن السياسة وممارسات العائلة المالكة، كما في قنوات أم بي سي، وروتانا، وأضرابها، والتي يمتلكها أمراء، أو شركاء أمراء.

لم تدم الفسحة الإعلامية المحدودة فتقلصت في السنوات الثلاث الأخيرة؛ إذ بدا أن العائلة المالكة استنفذت بعضاً من أغراضها، خاصة في حرية مكافحة العنف القاعدي وتطويقه من خلال نقده. وبدأ الأمراء، خاصة وزير الداخلية، محاولاً لإعادة الصحافة المحلية بالذات والتي يجري تمويلها بالمال الحكومي رغم أنها أهلية، الى ما يقارب من وضعها القديم قبل أحداث سبتمبر 2011. حيث أطيح برؤساء تحرير وبطرد صحافيين، وبمنع النقد والنقاش في مواضيع محددة، ليصل الأمر الى الذروة في الأشهر القليلة الماضية، بمنع نقد المؤسسة الدينية، التي كانت داجنة، خاصة المفتي ومعاقبة من يقوم بذلك. وقد جاء ذلك بعد أن وقفت تلك المؤسسة الفئوية ورجالها الى جانب النظام في إجهاض الحراك الأولي للتظاهر في مارس الماضي، وأصدرت بيانات وخطابات والأهم فتاوى، تحرّم التظاهر ضد النظام، فكان أن كافأها النظام في قرارات ملكية مشهورة وخصصت لها مليارات من الدولارات.

المنهج الذي تقاربه السعودية في الإعلام، هو تقليص مناسم التنفيس الشعبي حتى لا يتعود المواطنون على النقد وإبداء الإستياء العلني. وبغض النظر عن صحّة هذا المسلك ونتائجه، إلا أن الأمراء يعتقدون بأن الشعب المسعود يجب أن يبقى مطواعاً، وأما النقد في الإنترنت وفي غيره، فهناك تجنيد لأعداد كبيرة من الأشخاص يتولون مهمة المواجهة، إن لم يفد الحجب، للقنوات الفضائية أو للمواقع الإلكترونية. هذا التسوير الذهني والإعلامي لا يفيد النظام كثيراً، ولكنها مجرد محاولة لتعزيز حضور الدولة واستعراض قوتها وأن بإمكانها أن تقمع الأصوات، وتمنعها من التواصل مع الفضاء الخارجي، سواء تعلق الأمر بمعلقين على الأحداث العربية في القنوات الفضائية، حيث منعت الأكثرية من فعل ذلك، أو بالنشاط الصحافي برمته. وقد عزّز العام الماضي نظام المطبوعات الجديد الذي أقرّه مجلس الشورى المُعيّن ـ حسب طلب وزارة الداخلية ـ من التشدد الإعلامي وخنق حرية التعبير.

في مسألة التعديلات السياسية، فإن العائلة المالكة اعتقدت ولاتزال، بأن دعوات الإصلاح السياسي طارئة، وأن منشأها يعود الى أحداث سياسية في المنطقة يتلوها حراك داخلي، وبعض الضغط الخارجي، الذي إن صُمد بوجهه سوف ينتهي وينقشع. دعوات الإصلاح السياسي ليست جديدة، وقد ظهرت واضحة بعيد احتلال الكويت، ودخول نصف مليون جندي غربي وأجنبي الى الأراضي السعودية لإخراج قوات صدام منها. تلا ذلك دعوات الى الإصلاح، ما لبث أن قمعت وانتهت في منتصف التسعينيات.

ثم جاءت أحداث سبتمبر 2001 معززة بمشروع أمريكي غربي لدمقرطة المنطقة، وبضغوط على العائلة المالكة لتغير من أيديولوجيتها وممارستها السياسية والتي أدت الى تخريج شباب عنيف ساهم في تلك الأحداث وغيرها. وهنا تحمّلت العائلة المالكة الضغط ولم تقدم على شيء، رغم وعود الإصلاح الكثيرة يومئذ، حتى وصل الأمر ومنذ سنوات أن لفظة (الإصلاح) لم تظهر على شفاه أيّ من الأمراء!، كاشفة مزاعم (الملك الإصلاحي) الذي منذ أصبح ملكاً عام 2005 لم يتطرق يوماً ولو خطأ فيذكر كلمة الإصلاح.

تعود الكرّة مجدداً بظهور عصر الثورات، أو ما سمي بالربيع العربي، فتجعل النظام السياسي السعودي ـ حين المقارنة ـ تافهاً باهتاً، ولتشجع المواطنين على المطالبة بالتغيير ليس عبر العرائض والإلتماسات بل عبر التظاهر، ولكن المظاهرات أُحبطت في حينها في 11 مارس، اللهم إلا مظاهرات المنطقة الشرقية، ذات الأكثرية الشيعية، التي تواصلت فيها المظاهرات بضعة أشهر، رغم الإعتقالات والقمع والفصل من الوظائف والتهديد باستباحة المدن والقرى واستخدام العيارات النارية بشكل محدود.

لكن السعودية هذه المرة لا تواجه ضغوطاً غربية اعتادت عليها، وباتت غير مؤثرة، بل توجهت الأنظار الى دول أخرى في إطار الصراع الإقليمي مع إيران، وبالتالي وإن سلمت العائلة المالكة ـ الى حين ـ من التغيير، بفضل دعم الفئوية المسيطرة على السلطة (الأقلية النجدية الوهابية المسيطرة على الدولة) فإنها خسرت ـ كما الغرب ـ نفوذاً كبيراً في مصر وتونس واليمن ما يجعل العائلة المالكة في وضع قلق، تحاول تفادي آثاره، من خلال القمع، وشراء الضمائر بالأموال (زيادة الرواتب مثلاً). ومثل هذا الحل، يبدو محدوداً.

العائلة المالكة التفتت منذ البداية الى أن قيام مؤسسات مجتمع مدني سيضعفها بنحو كبير. ويمكن أن تتحول الى أحزاب سياسية من الناحية الواقعية. ومعلوم أن العمل الحزبي ممنوع في السعودي، كما هو ممارسة أي نشاط سياسي، أو القيام بالتجمع، أو التظاهر، أو أي من الأعمال التي يمكن أن تستثمر سياسياً، بل وحتى التظاهر لصالح النظام نفسه!

لا تريد العائلة المالكة ان يتعود المواطن على أن يعبر عن رأيه، لا بالكلمة، أو التظاهر، أو التجمع، أو الإعتصام، ولا بأي شكل من أشكال التنظيم المدني، فضلاً عن السياسي. وترى بأن هذا سيؤخر ـ حتماً ـ أي حراك معارض، إصلاحياً كان أو جذرياً. وقد أثبتت التجربة أن المجتمع السعودي، عدا بعض المناطق كالشرقية، أضحى معوّقاً، فحتى مع وجود الرغبة في التغيير لا تتوفر لديه أدواته، ولا هو لديه خبرة سابقة يمكنه البناء عليها. وحتى تقليد التجارب الأخرى بدت مستعصية، حيث الفردانية، والشكوك والمحاذير الأمنية في دولة تتسم بقمع المباحث وتلصصه على أية بادرة نشاط.

نعم، سمحت العائلة المالكة بإنشاء بعض الجمعيات التي لها طابع المجتمع المدني، ولكنها في الجوهر ـ وحسب قوانينها ايضاً ـ مسيطر عليها من قبل الحكومة ورجالها، مثل جمعية الصحافيين، ومثل هيئة حقوق الإنسان. وقد رفضت الحكومة الطلبات المتكررة لتأسيس جمعيات متعددة حقوقية وغيرها، ولكن إجابة الحكومة كان ولايزال الرفض، وأحياناً حتى هذا الرفض لا يُبلّغ للمتقدمين بطلباتهم. هناك أفراد امتلكوا الشجاعة فأسسوا لهم نشاطاً حقوقياً، فاعتقلوا لسنوات في السجون، كما هو نشاط د. عبدالله الحامد وجمعية الحقوق المدنية والسياسية؛ أو أولئك الذين أسسوا حزب الأمة فاعتقلوا؛ وهناك جهات عديدة أو أفراد أسسوا جمعيات ومارسوا بعض النشاط ووضعوا تحت اسم جمعياتهم جملة (تحت التأسيس)، لتوفير شيء من الحماية لأنفسهم إن كان ذلك سيفيد حقاً!!

لا شك أن الثورات العربية هي ثورات سياسية بامتياز. بمعنى أنها جاءت لتحقيق أهداف سياسية بدرجة أولى. هي لم تكن (ثورة خبز) ولا (انتفاضة حرامية) كما قال السادات عنها في انتفاضة 18-19 يناير 1977. بل هي ثورات سياسية تبتغي تغييراً شاملاً لكل أوجه الحياة في الدولة ومؤسساتها، أي اقتلاع أنظمة وتأسيس أخرى على قيم ومفاهيم وبأدوات جديدة (رغم أنها حتى الآن لم تحقق ذلك لا في مصر ولا في تونس في حين لم تتوضح معالم النظام البديل في ليبيا).

جوهر الأزمة في العالم العربي سياسي، حيث تنتشر الأنظمة المستبدّة في طول وعرض هذا العالم. وإن منحى الشعوب باتجاه (الثورة السياسية الشاملة) لا (الإصلاح السياسي) سببه الأساس: عجز الأنظمة السياسية العربية عن إصلاح ذاتها، وفشلها في تلبية الحدود الدنيا لتطلعات شعوبها في الإصلاح السياسي، ما جعل الثورة خياراً بديلاً وإن كان مكلفاً، بل بدا أنه هو الخيار الوحيد المتاح أمامها. لقد تجمّعت مياه كثيرة وراء سدود الإستبداد، ولم تجد متنفساً، فكان من البديهي أن تنهار عاجلاً أم آجلاً.

الصحافة: تنفيس مؤقت، وهامش من الحرية جرى الإرتداد عليه

أيضاً، فإن هناك تفاوت في دور العامل السياسي في الثورات العربية. هناك بلدان عربية خطت خطواتها الأولى تجاه التغيير ـ وهي غير كافية بالقطع ـ حيث اتسع هامش حرية التعبير والصحافة، وتأسست مئات (وربما آلاف) من منظمات المجتمع المدني، وهناك أحزاب سياسية تتفاوت في فاعليتها ونشاطها، رُسم لها بعض الدور لتلعبه، كمؤشر الى بعض التحول الديمقراطي، ولكن أكثر هذه الإجراءات أشبه ما تكون (للتنفيس) منها الى (التغيير) الحقيقي والجادّ.

الأنظمة السياسية العربية مختلفة أيضاً في درجة قمعها السياسي، واستبدادها. وهي مختلفة من حيث كونها أنظمة عامّة أو نظم تحكمها أقليّات مذهبيّة أو أحزاب واحدية أو عوائل مالكة أو مجموعات وظيفية عسكرية أو أمنيّة. وغالباً ما يكون حجم القمع الذي يسلّطه نظام سياسي في بلد عربي مرتبطاً بحجم المقاومة والمعارضة والنشاط الذي يبديه شعب ذلك البلد. ففي البلدان التي يضعف فيها الحراك السياسي، وتقلّ فيها المطالبة بالتغيير، لا تكون هناك حاجة كبيرة الى القمع، فهذا الأخير إنّما يشتدّ حين تشكّل المعارضة خطراً على النظام. لهذا فإن المقارنة بين بلد عربي وآخر تبدو غير دقيقة من ناحية حجم القمع الأمني، لاختلاف البيئة السياسية وحجم الإحتجاج النابع أساساً من حجم تطلّع شعب عربي ما بالقياس الى نظيره في بلد آخر.

في بلد مثل السعودية، فإن غاية المنى لدى البعض هو شيء من المشاركة الشعبية في صناعة القرار السياسي، قد تكون في السماح بتأسيس منظمات مجتمع مدني، وفي انتخابات ـ ولو محدودة ـ لمجلس الشورى؛ في حين أن سقف المطالب والتطلعات يرتفع في الكويت (التي بها كل هذا) الى المشاركة الفعلية في إدارة الدولة وتقليص دور عائلة آل صباح، وتعيين رئيس وزراء من العامّة، وغير ذلك. ويقفز التطلّع في بلد مثل البحرين الى حتى إسقاط نظام الحكم هناك، وهكذا!

لهذا فإن المقارنة بين نظامين عربيين، يجب أن يأخذ بعين النظر حجم التطلعات الشعبية، ومن ضمنه التراث السياسي والنضالي لدى شعب ما، وتطور المعارضة فيه، ومدى وجود وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني، ومستوى الحريات المتوفرة.

القمع الأمني ليس محدداً وحيداً في نشوء ثورة عربية من عدمه. فمستوى القمع في البحرين واليمن (والى ما قبل قيام الإحتجاجات فيهما) أقل من السعودية مثلاً؛ والحريات العامّة فيهما كانت أكبر بكثير مما هو متوفّر في السعودية. ومع هذا لم يحدث شيءٌ ذو بال في السعودية.

في بلدان الثورات العربية، وبالتحديد في مصر واليمن وتونس والبحرين، كان هناك هامش حرية تعبير لا يتوافر في كثير من الدول العربية؛ وهناك مئات، بل آلاف من منظمات المجتمع المدني، لا يوجد واحد بالمئة منها في بلد مثل السعودية. ومع هذا ظهرت في هذه الدول الثورات، ولم تظهر في بلدان أخرى ينكمش فيها النشاط السياسي العام الى حدود تقارب الصفر، أو الصفر بعينه، كما في الإمارات وقطر والسعودية.

هناك رأيٌ يقول، وهو الى حدّ كبير صحيح، أن وجود فسحة ولو محدودة من حرية التعبير، ووجود منظمات مجتمع مدني تتمتع بقدر من الفاعلية والإستقلال عن الدولة، وكذلك وجود موروث نضالي شعبي، ساهم والى حدّ كبير في قيام بعض الثورات العربية؛ فيما الأصوات مخنوقة في بلدان أخرى، حيث معرفة وقدرة المواطنين على التجمع والتنظيم محدودة للغاية. وقد نجد في بلدان أخرى، كسوريا، والى حد ما ليبيا، تشكيلات ومؤسسات سياسية ونقابية واجتماعية تهيمن عليها الدولة، وهي مفرّغة من محتواها، إضافة الى وجود ممارسات سياسية تتعلق بتركيبة النظام السياسي، مثل وجود دساتير وممارسة الإنتخاب وما أشبه، وهذه ـ رغم خوائها وتضليلها ـ قد يكون لها دورٌ أيضاً في تعويد الجمهور وتعليمه أوليات حقوقه السياسية وكذلك الممارسة السياسية، التي قد لا تكون موجودة أصلاً في بلدان أخرى، مثل السعودية.

هذا يعني، أن قيام الثورات والإحتجاجات مرهون بأمور كثيرة، تتعلق ببنية النظام السياسي، وتطلعات المواطنين لتغييره، كما تتعلق بما يتوفر للمواطنين من بنى سياسية مثل الأحزاب والتنظيمات والهيئات الأهلية، وبما للشعب من خبرات سياسية ومعرفة بحقوقه، وبما هو متوفر له من أدوات نضالية قادر على تفعيلها واستخدامها ضد النظام المستبد لكي يحكمه، وهذه كلها يفتقدها المواطنون السعوديون.

ومن هنا أيضاً، قد نفهم كيف أن الأنظمة العربية اتخذت منهجين أو مقاربتين تجاه التغيير الذي في الأساس لا تؤمن به. هناك دول ـ وحتى لا يصل شعبها الى حدّ الإنفجار ـ قامت بتعديلات سياسية محدودة لا تغير من تركيبة السلطة، ولا توسع من عدد المساهمين في صناعة القرار. وهي وإن سمحت لبعض الأحزاب بالتأسيس والعمل، كما في مصر، والى حدّ ما الأردن، فإنها أبقتها تحت الضغط، حتى صارت أشبه ما يكون بالديكور، غير قادرة على إحداث نقلة حقيقية في الوضع السياسي. بل أن هناك أحزاب سياسية قائمة في بلد مثل سوريا (ما يسمى بأحزاب الجبهة الوطنية المتحالفة مع حزب البعث الحاكم) لكنها في حقيقتها مجرد أداة مفتعلة للتضليل ولإظهار حالة من التنوع السياسي فيما لا يعدو الأمر أن تلك الأحزاب تلك مجرد ملحق للحزب الحاكم.

بعض الدول العربية، قبلت التنازل، وعوّضت عن الإنغلاق السياسي بشيء من الإنفتاح الإعلامي وسمحت بقيام مؤسسات مجتمع مدني، رأت أنها غير ضارّة لها، أو يمكن تحمّل ضررها. وقد حدث هذا في المغرب وتونس ومصر والأردن وحتى البحرين واليمن، على أمل أن تستقطب هذه المنظمات بعضاً من الطاقات الشابّة وتوجهها في مكان لا يصيب النظام السياسي في مقتل، ولا يؤثر عليه إلا في الحدّ الأدنى من التغيير. مثل هذه الموافقة الرسمية بالحذر تجاه الإنفتاح الإعلامي وتأسيس المجتمع المدني (رغم تضييقه وكبحه حسب الحاجة) جاء جزئياً تجاوباً مع الرؤية الغربية تجاه ما سُمي بـ (دمقرطة الأنظمة العربية).

فالغرب، وبعد أن رأى ممانعة حادّة من الأنظمة السياسية (وهي في معظمها حليفة له) لتقوم هي بتغيير جلدتها طوعياً، ولأنه لا يريد الإقدام على ممارسات ديمقراطية بحجة الخوف من الإسلاميين ووصولهم الى السلطة عبر صناديق الإقتراع، ألقى بكامل جهده في دعم مؤسسات المجتمع المدني خاصة في المغرب ومصر، كخطوة أولى نحو إحداث التغيير التدرجي الذي يبقي الأنظمة بتوجهاتها القائمة ولا يسقطها، ويوصل في الوقت نفسه جهات غير إسلامية لتسنّم مقاعد التغيير المحتمل. وفعلاً فقد نجح هذا المسعى، حيث تحوّلت مؤسسات المجتمع المدني الى أقنية للجهد الشعبي، وساهمت ـ خلافاً لرغبة الغرب ـ في إسقاط مبارك وبن علي، كما ساهم الكثير منها في تأجيج الثورة في اليمن والبحرين. وقد لعبت تلك المنظمات دوراً أساسياً ـ مع القدر المتوفر من هامش الحرية ـ في الضغط باتجاه تحقيق تنازلات سياسية محسوسة في المغرب، وإن لم نرَ حتى الآن مثيلها في الأردن.

ما ذكر أعلاه، من الإنفتاح أو التنفيس الإعلامي والسماح بقيام مؤسسات مجتمع مدني، كان مجرد واحدة من المقاربات التي نهجتها الأنظمة العربية لتلافي تداعيات الإنغلاق السياسي الكامل.

لكن هناك مقاربة أخرى، أوضح ما تكون في السعودية. فهذه الأخيرة تعد الأكثر بين الدول العربية تشدّداً في تأسيس منظمات أهلية. وهي حين سمحت بشيء من الحريّة في النقد ـ غير السياسي ـ لأداء مؤسسات الدولة، فإنما كانت مكرهة عليه، ووجهته في أقصاه الى انتقاد (التطرف الديني) الذي ترعاه، بغية تمرير سياسات اجتماعية أكثر انفتاحاً، رأت أنها بحاجة اليها لامتصاص فائض النقمة الداخلية، من أن يتحول باتجاه المزيد من العنف الأعمى الذي ضرب الدولة في سنوات 2002-2005، ولازالت بعض بقاياه قائمة حتى اليوم. والحكومة السعودية فوق هذا لم تشرعن النقد في قانون، ولا في نظام مطبوعاتها الجديد، وبالتالي فهي كانت ولازالت تستطيع أن تمرر الموضوعات التي تصيب خصومها أو منافسيها أو التي تخدم سياساتها، وتحدد القدر من النقد، ثم تقرر إيقاف الكتابة والنشر في هذا الموضوع أو ذاك، وفق حسابات المسيطر على الإعلام من أمراء الدرجة الأولى، وبالخصوص نايف وسلمان وسلطان، قبل أن يتقاعد هذا الأخير بفعل المرض.

أمرٌ آخر، قد يلقي ضوءً حول أسباب الفسحة الإعلامية المحدودة التي أتيحت في السعودية (الصحافة تحديداً)، في السنوات القليلة الماضية، وهو أن العائلة المالكة، وجدت نفسها ولأول مرّة في تاريخها، غير قادرة على مواجهة الإعلام الآخر المنافس أو المعارض من خارج الحدود. فبفعل تطور التكنولوجيا ووسائل الإتصال والتواصل الإجتماعي، بما في ذلك الموبايل، ومواقع الإنترنت والفيس بوك وتويتر فضلاً عن البال توك والقنوات الفضائية المختلفة، لم يعد هناك حصانة لدى النظام من النقد، ولم تعد هناك قدرة على المنافسة واستقطاب المواطنين بإعلام هزيل، حيث السخرية من قنوات (غصب 1، وغصب 2). الرقابة على الإنترنت، وحجب مئات الآلاف من المواقع، بشكل لم يوجد في أي بلد في العالم، لم يفد النظام كثيراً، فالمواطنون التفّوا على هذا الحجب، وصاروا أكثر بلد في العالم يستخدم الإلتفافات الإلكترونية لتجاوز الحجب (البروكسي).

السعودية: خنق الإحتجاجات

قبل نحو سبع سنوات، فاض الكيل بالصحافة المحلية التي لا تُقرأ، وظهر نقد بأن مساحة حريتها تجعلها فاشلة في المنافسة مع مواقع الإنترنت؛ وقدّمت توصيات الى العائلة المالكة، من أن قيادة الرأي العام المحلي وتوجيهه بحاجة الى جرعة من الحريات حتى تستطيع استقطاب الشباب، وإلاّ ما الفائدة من إعلام الدولة بمجمله إن كانت المحصّلة أن الجيل الشبابي يستقي معلوماته وتوجيهاته من فضائيات وصحف ومواقع الكترونية خارجية؟

هذه الخلفية تكشف سبب توسع هامش الحرية ولسنوات محدودة. لكن لم تكن الفسحة الإجراء الرسمي الوحيد. فقد اتجهت الحكومة السعودية، بعد أن أعياها الحجب دون ان تتنازل عنه، الى تأسيس إعلام بديل يستقطب ويعوض النقص، لا يمكن أن ينمو في الداخل، فظهرت عشرات القنوات السعودية في الخارج، بعضها يقدّم التوجيه السياسي، كما العربية، وبعضها يقدّم التوجيه الديني، كما المجد وأخواتها، وبعضها يغرق المجتمع المسعود بألوان من التغريب والإباحية الرخيصة، ويبعدهم عن السياسة وممارسات العائلة المالكة، كما في قنوات أم بي سي، وروتانا، وأضرابها، والتي يمتلكها أمراء، أو شركاء أمراء.

لم تدم الفسحة الإعلامية المحدودة فتقلصت في السنوات الثلاث الأخيرة؛ إذ بدا أن العائلة المالكة استنفذت بعضاً من أغراضها، خاصة في حرية مكافحة العنف القاعدي وتطويقه من خلال نقده. وبدأ الأمراء، خاصة وزير الداخلية، محاولاً لإعادة الصحافة المحلية بالذات والتي يجري تمويلها بالمال الحكومي رغم أنها أهلية، الى ما يقارب من وضعها القديم قبل أحداث سبتمبر 2011. حيث أطيح برؤساء تحرير وبطرد صحافيين، وبمنع النقد والنقاش في مواضيع محددة، ليصل الأمر الى الذروة في الأشهر القليلة الماضية، بمنع نقد المؤسسة الدينية، التي كانت داجنة، خاصة المفتي ومعاقبة من يقوم بذلك. وقد جاء ذلك بعد أن وقفت تلك المؤسسة الفئوية ورجالها الى جانب النظام في إجهاض الحراك الأولي للتظاهر في مارس الماضي، وأصدرت بيانات وخطابات والأهم فتاوى، تحرّم التظاهر ضد النظام، فكان أن كافأها النظام في قرارات ملكية مشهورة وخصصت لها مليارات من الدولارات.

المنهج الذي تقاربه السعودية في الإعلام، هو تقليص مناسم التنفيس الشعبي حتى لا يتعود المواطنون على النقد وإبداء الإستياء العلني. وبغض النظر عن صحّة هذا المسلك ونتائجه، إلا أن الأمراء يعتقدون بأن الشعب المسعود يجب أن يبقى مطواعاً، وأما النقد في الإنترنت وفي غيره، فهناك تجنيد لأعداد كبيرة من الأشخاص يتولون مهمة المواجهة، إن لم يفد الحجب، للقنوات الفضائية أو للمواقع الإلكترونية. هذا التسوير الذهني والإعلامي لا يفيد النظام كثيراً، ولكنها مجرد محاولة لتعزيز حضور الدولة واستعراض قوتها وأن بإمكانها أن تقمع الأصوات، وتمنعها من التواصل مع الفضاء الخارجي، سواء تعلق الأمر بمعلقين على الأحداث العربية في القنوات الفضائية، حيث منعت الأكثرية من فعل ذلك، أو بالنشاط الصحافي برمته. وقد عزّز العام الماضي نظام المطبوعات الجديد الذي أقرّه مجلس الشورى المُعيّن ـ حسب طلب وزارة الداخلية ـ من التشدد الإعلامي وخنق حرية التعبير.

في مسألة التعديلات السياسية، فإن العائلة المالكة اعتقدت ولاتزال، بأن دعوات الإصلاح السياسي طارئة، وأن منشأها يعود الى أحداث سياسية في المنطقة يتلوها حراك داخلي، وبعض الضغط الخارجي، الذي إن صُمد بوجهه سوف ينتهي وينقشع. دعوات الإصلاح السياسي ليست جديدة، وقد ظهرت واضحة بعيد احتلال الكويت، ودخول نصف مليون جندي غربي وأجنبي الى الأراضي السعودية لإخراج قوات صدام منها. تلا ذلك دعوات الى الإصلاح، ما لبث أن قمعت وانتهت في منتصف التسعينيات.

ثم جاءت أحداث سبتمبر 2001 معززة بمشروع أمريكي غربي لدمقرطة المنطقة، وبضغوط على العائلة المالكة لتغير من أيديولوجيتها وممارستها السياسية والتي أدت الى تخريج شباب عنيف ساهم في تلك الأحداث وغيرها. وهنا تحمّلت العائلة المالكة الضغط ولم تقدم على شيء، رغم وعود الإصلاح الكثيرة يومئذ، حتى وصل الأمر ومنذ سنوات أن لفظة (الإصلاح) لم تظهر على شفاه أيّ من الأمراء!، كاشفة مزاعم (الملك الإصلاحي) الذي منذ أصبح ملكاً عام 2005 لم يتطرق يوماً ولو خطأ فيذكر كلمة الإصلاح.

تعود الكرّة مجدداً بظهور عصر الثورات، أو ما سمي بالربيع العربي، فتجعل النظام السياسي السعودي ـ حين المقارنة ـ تافهاً باهتاً، ولتشجع المواطنين على المطالبة بالتغيير ليس عبر العرائض والإلتماسات بل عبر التظاهر، ولكن المظاهرات أُحبطت في حينها في 11 مارس، اللهم إلا مظاهرات المنطقة الشرقية، ذات الأكثرية الشيعية، التي تواصلت فيها المظاهرات بضعة أشهر، رغم الإعتقالات والقمع والفصل من الوظائف والتهديد باستباحة المدن والقرى واستخدام العيارات النارية بشكل محدود.

لكن السعودية هذه المرة لا تواجه ضغوطاً غربية اعتادت عليها، وباتت غير مؤثرة، بل توجهت الأنظار الى دول أخرى في إطار الصراع الإقليمي مع إيران، وبالتالي وإن سلمت العائلة المالكة ـ الى حين ـ من التغيير، بفضل دعم الفئوية المسيطرة على السلطة (الأقلية النجدية الوهابية المسيطرة على الدولة) فإنها خسرت ـ كما الغرب ـ نفوذاً كبيراً في مصر وتونس واليمن ما يجعل العائلة المالكة في وضع قلق، تحاول تفادي آثاره، من خلال القمع، وشراء الضمائر بالأموال (زيادة الرواتب مثلاً). ومثل هذا الحل، يبدو محدوداً.

العائلة المالكة التفتت منذ البداية الى أن قيام مؤسسات مجتمع مدني سيضعفها بنحو كبير. ويمكن أن تتحول الى أحزاب سياسية من الناحية الواقعية. ومعلوم أن العمل الحزبي ممنوع في السعودي، كما هو ممارسة أي نشاط سياسي، أو القيام بالتجمع، أو التظاهر، أو أي من الأعمال التي يمكن أن تستثمر سياسياً، بل وحتى التظاهر لصالح النظام نفسه!

لا تريد العائلة المالكة ان يتعود المواطن على أن يعبر عن رأيه، لا بالكلمة، أو التظاهر، أو التجمع، أو الإعتصام، ولا بأي شكل من أشكال التنظيم المدني، فضلاً عن السياسي. وترى بأن هذا سيؤخر ـ حتماً ـ أي حراك معارض، إصلاحياً كان أو جذرياً. وقد أثبتت التجربة أن المجتمع السعودي، عدا بعض المناطق كالشرقية، أضحى معوّقاً، فحتى مع وجود الرغبة في التغيير لا تتوفر لديه أدواته، ولا هو لديه خبرة سابقة يمكنه البناء عليها. وحتى تقليد التجارب الأخرى بدت مستعصية، حيث الفردانية، والشكوك والمحاذير الأمنية في دولة تتسم بقمع المباحث وتلصصه على أية بادرة نشاط.

نعم، سمحت العائلة المالكة بإنشاء بعض الجمعيات التي لها طابع المجتمع المدني، ولكنها في الجوهر ـ وحسب قوانينها ايضاً ـ مسيطر عليها من قبل الحكومة ورجالها، مثل جمعية الصحافيين، ومثل هيئة حقوق الإنسان. وقد رفضت الحكومة الطلبات المتكررة لتأسيس جمعيات متعددة حقوقية وغيرها، ولكن إجابة الحكومة كان ولايزال الرفض، وأحياناً حتى هذا الرفض لا يُبلّغ للمتقدمين بطلباتهم. هناك أفراد امتلكوا الشجاعة فأسسوا لهم نشاطاً حقوقياً، فاعتقلوا لسنوات في السجون، كما هو نشاط د. عبدالله الحامد وجمعية الحقوق المدنية والسياسية؛ أو أولئك الذين أسسوا حزب الأمة فاعتقلوا؛ وهناك جهات عديدة أو أفراد أسسوا جمعيات ومارسوا بعض النشاط ووضعوا تحت اسم جمعياتهم جملة (تحت التأسيس)، لتوفير شيء من الحماية لأنفسهم إن كان ذلك سيفيد حقاً!!

الصفحة السابقة