محاولة مستحيلة للقضاء على بؤر المعارضة

العواميّة: خلفية الأحداث

سعدالدين منصوري

لم يكن ما حدث في مدينة العوامية بالمنطقة الشرقية من صدامات ومظاهرات مع أجهزة القمع، أواخر شهر سبتمبر وبداية شهر اكتوبر، أمراً غير متوقع. فالمنطقة الشرقية عموماً، والعوامية خصوصاً، لم تشهد إلا هدوءً نسبياً طيلة الأشهر الستة الماضية. فهذه المنطقة وبسبب ما يعتقده الأهالي أنه يجري تمييز طائفي ومناطقي بحقهم.. لا يخفون معارضتهم للحكم السعودي. ورغم ان التمييز على أساس المنطقة والمذهب والقبيلة، قائم منذ نشأة الدولة السعودية ويشمل كل المملكة، عدا منطقة نجد التي تمثل بالكاد ربع سكانها، ولكنها تمثل الأكثرية السياسية الساحقة، حيث تسيطر على كل الدولة وهي أكثر المنتفعين من النظام، رغم أقليتها المذهبية الوهابية وعدد سكانها. بل ان نجد نفسها والتي تتشكل من ثلاث مناطق: الرياض جنوباً؛ والقصيم وسطاً؛ وحائل شمالاً، أخرجت حائل من حساباتها كونها مهد الحكم الرشيدي وقبيلة شمر المعادية لال سعود، وبالتالي فإن من يمسك السلطة هم أهل القصيم والرياض فحسب، فيما حرم الجميع من المشاركة في القرار السياسي وفي منافع الدولة.

احتجاجات العوامية.. هل تنتقل الى أماكن أخرى؟

لماذا القطيف والأحساء؟

مالذي يجعل المنطقة الشرقية (الأحساء والقطيف) مختلفة عن بقية المناطق في المملكة؟

الأسباب عديدة:

أولاً ـ أنها منطقة النفط، حيث تأتي معظم ايرادات الدولة؛ وإن التمييز الطائفي المناطقي على أبنائها يجعل الشعور بالمعاناة والحرمان والظلم أكبر، ووطأته أشدّ.

ثانياً ـ أن حدّة التمييز أعمق في الأحساء والقطيف منها في المناطق الأخرى، حيث شملت كل مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وحيث الفواصل النفسية متعمقة الى أبعد الحدود.

ثالثاً ـ أن المنطقة النفطية التي تسكنها غالبية شيعية، تعتبر منطقة مفتوحة على مختلف الثقافات والأقوام، أي أنها منطقة جاذبة للعمالة من داخل المملكة وخارجها، كما أنها قريبة من ثقافات أخرى كما مع دول الخليج الأخرى، كما ان التواصل الثقافي والإقتصادي تاريخياً مع أمم مختلفة كما الهند وحتى الصين فضلا عن العراق أعطى ميزة ثقافية لهذه المنطقة، وجعلها على معرفة بما يجري حولها. كما أن وجود النفط فيها، جعل العين مركزة عليها، نظراً لأهميتها واحتضانها ما يقرب من ربع احتياطي العالم من النفط، فضلا عن وجود منشآته.. ما جعل ما يجري فيها شأناً أكبر من ان يكون محلياً محضاً، فأي اشتعال في هذه المنطقة قد يهدد امدادات النفط العالمية، أو يرفع اسعاره بوتيرة عالية.

رابعاً ـ أن مناطق النفط تختزن تراثاً معارضاً قديماً. فاضافة الى كونها تشكل ارضاً خصبة للمعارضة بسبب ما يجري على أهلها، فإنها ايضاً مثلت حاضنة لكل قوى المعارضة في السعودية منذ الأربعينيات الميلادية من القرن الماضي.

لا عجب ان تشهد المنطقة الشرقية اضرابات عمالية مبكرة في الاربعينيات الميلادية من القرن الماضي، ثم في الخمسينيات والستينيات. ولا عجب ان يجد كل معارضي آل سعود ارضاً خصبة للمعارضة في المنطقة الشرقية حيث العمالة قرب آبار النفط، وحيث التنوع المناطقي والمذهبي الذي تشكل قرب تلك الآبار. معظم الأحزاب السياسية المعارضة بشتى أشكالها بما فيها الاحزاب اليسارية، والتي سعت لاسقاط النظام السعودي، كانت قاعدتها الأساسية والشعبية في تلك المنطقة.

لهذا ندرك الآن، لماذا يكون هناك تمظهر واضح لمعارضة آل سعود في المنطقة الشرقية أكثر من غيرها.

فمع وجود السخط والألم وكل دوافع المعارضة في المناطق الأخرى، فإن تمظهر تلك المشاعر على الأرض كان قليلاً. الرغبة موجودة ولكنها مكبوتة بعنف وقوة، وما سهل كتمها: غياب التراث النضالي ووسائله الإحتجاجية، فالمناطق السعودية غير الأحساء والقطيف، لاتزال بكراً على ممارسة المعارضة، مع الإقرار بوجود روح المعارضة.

عزل بؤرة التوتر

نايف وزير الداخلية: الإستعلاء والغطرسة القاتلة

من الصعب عزل بؤرة توتر يقع فيها مخزون عالمي هائل من النفط، كما تقع فيها مرافئ النفط التي يجري منها شحنه الى أقاصي الأرض، فضلاً عن أن موقع المنطقة الجغرافي الملاصق لعدد من دول الخليج والعراق، يصعّب من المهمة. زد على ذلك فإن هذه المنطقة مفتوحة أمام الشركات الأجنبية منذ الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي. لهذا هناك استحالة في ممارسة سياسة التعمية والخنق دون أن يلتفت العالم، أو دون أن يتأثر بما يجري في تلك المنطقة.

بديهي أن الحكومة السعودية لا تريد لهذه المنطقة التي تعتبرها مشاغبة معارضة أن تتمدد بآثارها الى المناطق الأخرى، فتصبح نموذجاً معارضاً، أو محفزاً على المعارضة، يمكن التعلم منها، والعمل على نيل الحقوق وفق المشهد السياسي النضالي الذي ترسمه، والخبرة والتجربة المتقدمة التي يمكن أن توفرها.

ولعلّ أكثر ما يزعج الحكم السعودي من هذه المنطقة وسكانها، أنه غير قادر من الناحية العملية (وان كان من الجانب النظري يظن أنه قادر) على ممارسة الحد الأقصى من الدموية دون أن يلفت النظر أو يثير الرأي العام، أو دون أن يتسبب بأزمة حتى مع حلفائه بمن فيهم الأميركيين الذين يخشون على النفط أكثر من خشيتهم على آل سعود وحكمهم. لقد وقعت أحداث عديدة وبعضها عنيف في مناطق أخرى، كما في منطقة نجران الإسماعيلية المحاذية للحدود اليمنية، ولكن النظام استطاع التعمية عليها، فلم يظهر إلا القليل من الأخبار عنها. هذا السيناريو غير قابل للتكرار في مناطق النفط لأسباب شرحناها آنفاً. ولربما قيل ـ وهو صحيح ـ بأن تأثيرات ما يجري في هذه المنطقة على المناطق الأخرى، والإحراج الذي لازم النظام بأنه غير قادر على إنهائها، هو ما جعل غضبه وربما حقده مضاعفاً على أهاليها، وكأنهم يدفعون ثمن اخفاقات النظام في جوانب شتى. فالنظام لا يعاقب شعبه في تلك المنطقة لأنهم مختلفون مذهبياً ومناطقياً ويميز بحقهم من أجل الاستفراد بكامل السلطة والثروة له وللأقلية النجدية الوهابية التي تدعمه. ليس هذا فحسب، بل هو يعاقبه أيضاً لأنه قد يمثل نموذجاً للمناطق الأخرى التي لديها ذات المشاكل لكي تعترض وتقوم بوجهه.

ما هي البدائل لدى النظام، اضافة الى العنف، لقمع المنطقة والتعمية على حقوق مواطنيها الأساسية المنتهكة، كما بقية المناطق؟

حضور أمني مكثف في مناطق النفط

البديل الأساس هو: تأجيج النزعة الطائفية ضد الشيعة، باعتبارهم طابوراً خامساً لإيران، والتحريض على قتلهم وطردهم، مثلما رأينا ذلك بعد أحداث العوامية الأخيرة. بمعنى آخر، هناك تحريض لقسم من الشعب ضد القسم الآخر. حيث يضع الوهابيون أنفسهم ممثلين لـ (السنّة) مقابل (أقلية شيعية عميلة).

الحقيقة أن الوهابية هي التي تمثل الأقلية؛ وأن نجد تمثل أقلية حاكمة، وأن التنوع في السعودية مقموع. وكما يضطهد الشيعة في الشرق؛ يضطهد الحجازيون الشوافع والصوفيون في الغرب، ويضطهد الإسماعيليون في الجنوب وهم الذين يشكلون نحو 6% من السكان، ويضطهد سكان حائل وتبوك وغيرها. كل المناطق مضطهدة، مناطقياً ومذهبياً، وخصمها هي نجد ووهابيتها ورجال حكمها من آل سعود. لا تحتاج نجد الى شدّ عصب طائفي إضافي، فالنظام طائفي مناطقي أقلوي منذ نشأ، ومشايخ الوهابية كما مدعو الليبرالية بين النجديين يصطفون مع النظام، كما هم دائماً.

لكن المناطق الأخرى، لم تعد تهتم بهذا التعصيب، ولا تراه إلا إحدى اللعب السياسية للنظام. يوماً بعد آخر، يفقد آل سعود هذا السلاح، وقد رأينا أثناء الحرب السعودية على اليمنيين (الحوثيين) والتأجيج الطائفي الذي صاحبه ضد الشيعة في الداخل والخارج.. رأينا أنه لم يؤثر إلا في محيط النظام الأقلوي، أي أنه لم يؤثر في الأكثرية، ولم يجد النظام التعاطف الكافي في حملته العسكرية الظالمة تلك، والتي أودت بأرواح آلاف المدنيين اليمنيين من خلال قصف مدنهم وقراهم.

التحشيد الطائفي نظر اليه نظام آل سعود الأقلوي بأنه وسيلة عزل تأثير المعارضة الآتية من الشرق. هذا بالرغم من أن الخطاب الطائفي الرسمي السياسي والديني يفضح النظام ووهابيته وليبرالييه، فكيف يتحدث نظام بلغة اتهامية ضد 15% من شعبه، ويضعه بأكمله في صف العمالة للأجنبي؟ وكيف سيكون تعاطي المتهمين مع مثل هذه الإتهامات ومع من يطلقها؟ وكيف ينتظر آل سعود وحلفاؤهم ولاءً وحباً ممن يتهمونهم بالكفر، ويهددونهم بالقتل، وبالطرد من موطن آبائهم وأجدادهم، في حين أن الطارئ على تلك المنطقة هم آل سعود ومشايخهم؟

الناشط الحقوقي حسن حظية

مهما قيل وزُعم، فإن مشكلة الشيعة، بل مشكلة كل المواطنين في المملكة المسعودة، تكمن في حقيقة أن هناك أقلية نجدية وهابية تسيطر على الدولة وتفرض رؤيتها وثقافتها ومصالحها وأجندتها غير الوطنية على الجميع. الوهابية ونجد لا تمثل التنوع في السعودية، ولا تمثل أكثرية السكان، والوهابية فشلت في عقر دارها قبل أن تصدر منتجاتها التكفيرية للخارج. لازالت الأكثرية السنية غير وهابية، وستبقى، في حين لا يبقى لدى النظام إلا اتهام من يعارضه بالعمالة والكفر، ويهدده بالقمع والطرد والضرب بيد من حديد، كما هو حال كل الطغاة على مر التاريخ.

التحشيد الطائفي الوهابي لا يغير من حجم نجد الوهابية العددي، ولا من تمثيلها الأقلوي، ولن يثني الاخرين عن مطالبهم بالمساواة والعدالة في دولة تزعم أنها وطنية، وأنها متمسكة بشرع الله، فيما حكامها ومنذ نشأوا إنما رضعوا من حليب بريطانيا، واستمروا بحماية امريكا ولازالوا.

مشكلة الشيعة في الشرق سابقة لقيام الثورة في ايران، عمرها من عمر النظام السعودي نفسه، الذي احتل المناطق الأخرى المستقلة بقرار بريطاني، وبغطاء وهابي تكفيري، أباح لآل سعود دماء الخصوم، كما أباح لهم أعراضهم وحتى دماء الأكثرية من الأبرياء من سكان المملكة المسعودة قهراً.

تقطيع النسيج الوطني على أسس طائفية، وتحريض فئات الشعب على بعضها البعض، قد يبطيء من عملية التغيير، ولكنه لا يلغيها، بل قد يفتح آفاقاً لا يريدها النظام غير الوطني، تقول بأن هذه الدولة التي لا يجمعها جامع وطني، ولا هوية وطنية، ولا قيم الدولة من عدالة ومساواة، ولا تؤمن بحقوق مدنية أو سياسية كما في كل العالم. مثل هذه الدولة مصيرها أن تعود الى مكوناتها القديمة، بعد أن فشل النظام في الإصلاح وفي سياسة الدمج الوطني التي لا يريدها في الأساس، وفي تبني الوحدة بدل تمزيق المجتمع.

تمزيق المجتع أكثر سيؤدي حتماً الى تمزيق سلطة الأقلية الوهابية النجدية لو كان رؤوسها يعلمون.

بيان الداخلية: كشف قيء المخبوء

منطقة القطيف والأحساء لم تهدأ منذ ستة أشهر، حيث التظاهرات والإحتجاجات والإعتقالات مستمرة. الحضور الأمني المكثف، بما فيه حضور المدرعات، وآلاف من رجال الأمن والحرس الوطني تطوّق المدن والقرى، فيما طائرات الهيلوكبتر، لاتزال مستمرة تجوب الأجواء مرهبة المواطنين. هذه الطائرات استخدمت بكثافة يوم 11 مارس الماضي في كل المدن السعودية متزامناً مع حضور أمني مكثف على الارض من أجل إفشال التظاهرات المطالبة بالإصلاحات. لكن المنطقة الشرقية لم تهدأ إلا بشكل جزئي، حين تدخل بعض الوجهاء وبضغط من أمارة المنطقة الشرقية لإصدار بيان يطالب المتظاهرين بالإنسحاب من الساحات العامة والتوقف عن التظاهر، والحجة كانت أن رسالتكم أيها الشباب قد وصلت الى الحكومة، وواعدين بأنهم سيواصلون المساعي لاطلاق سراح المعتقلين السياسيين خاصة من سموا بـ (السجناء المنسيين) الذين مضى على اعتقالهم نحو 16 عاماً دونما محاكمة وبتهم باطلة.

الناشط الحقوقي المعتقل فاضل المناسف

الذي حدث هو أن أكثر التظاهرات توقفت الى حين، عدا بعض الاحتجاجات المتفرقة، وخاصة في العوامية التي واصلت مسيرتها. الحكومة من جانبها وبدل أن تفي بوعودها قامت بالمزيد من الإعتقالات بين الشباب، بمن فيهم الناشطين الحقوقيين، وأضافت عشرات الأسماء الى قوائم الممنوعين من السفر. ثم زادت الأمر، معتقدة أن لها اليد الطولى، بعد أن أفشلت التظاهرات في المناطق الأخرى، فقامت باعتقال الناشط الحقوقي ورجل الدين البارز في الأحساء (مدينة الهفوف) الشيخ توفيق العامر، والذي سبق وأن سبب اعتقاله في 2009 حراكاً شعبياً غير مسبوق في تلك المدينة، فأجبرت السلطات على اطلاق سراحه. هذه المرة لم يطلق سراح الشيخ العامر، واندلعت مظاهرات ـ خاصة في العوامية ـ رافعة صورته، ومطالبة السلطات بإطلاق سراحه وكذلك جميع المعتقلين السياسيين بمن فيهم السجناء المنسيين، الذين لازال اعتقالهم يمثل أحد أكبر عوامل التحريض للإعتراض والخروج الى الشوارع احتجاجاً.

يبدو أن الحكومة، وفي ظل تشتت الأنظار عنها الى بلدان أخرى كسوريا واليمن وغيرها، رأت أنه حان الوقت لكسر شوكة رأس الإحتجاجات في العوامية، وربما اعتقال الشيخ نمر النمر، الذي فشلت السلطات الأمنية في اعتقاله، أو تخشى من أن تقوم بعملية اعتقال تكون مكلفة مادياً ومعنوياً، مع ان النمر يواصل نشاطه الديني والسياسي كالمعتاد، ولكنه أشبه ما يكون محاصراً في مدينته منذ ثلاثة أعوام تقريباً، حيث نقاط التفتيش عند مداخل العوامية والمدن الأخرى عامة، وحيث الإهانات الشديدة للأهالي عند تلك النقاط والحواجز، والإعتداء عليهم بأسوء القول وأفحشه.

في سعيها لهذا المخطط، أقحمت السلطات أواخر سبتمبر الماضي عشرات المدرعات الى داخل المدن والقرى في محافظة القطيف، وزادت من حضورها الأمني، ونقاط التفتيش، في وقت اعتقد البعض أن الحكومة تسعى للتهدئة لا للتصعيد، وكان التساؤل يومها حاضراً: ماذا تنوي السلطات الأمنية من هذا الحضور الأمني؟ إذ لا مبررات خارج المألوف تستدعي ذلك، حتى في العوامية نفسها، حيث المظاهرات والإحتجاجات على نسقها القديم.

في بداية أكتوبر الجاري، أرادت السلطة القيام بعملية اختبار من مركز شرطة العوامية الواقع وسط المدينة تقريباً، والذي له تاريخ من الإحتكاكات والصدامات مع المواطنين هناك. بدأت القضية باعتقال شخصين عجوزين هما: حسن آل زايد، وسعيد آل عبدالعال، وذلك للضغط على ابنيهما لتسليم أنفسهما للسلطات الأمنية التي تتهمها بالتظاهر ومعارضة النظام. كان هذا الحدث استفزازاً واضحاً، وكان أيضاً اختباراً لإرادة المواطنين ونشطائهم السياسيين والحقوقيين.

الناشط الحقوقي فاضل المناسف، الذي قضى للتو أربعة أشهر في السجن، ذهب الى مركز شرطة العوامية للإستفهام عن اعتقال الرجلين، فاعتقل هو الاخر، وأخذ الى مقر احتجاز في مدينة الظهران. هناك أيضاً قام ناشط حقوقي آخر، صديق لفاضل المناسف، وهو حسن حظية، سائلاً عن زميله، فاعتقل هو الآخر.

أحد الرجلين العجوزين وهو آل زايد سقط في العوامية بسبب أزمة قلبية، وبسبب سيل الإهانات والأذى الذي تعرض له، فتحرك الشباب، بدون تخطيط ربما، الى حيث مركز شرطة العوامية احتجاجاً، وتزايدت أعدادهم فيما أسلحة الشرطة والجنود الذين جاؤوا للدعم يصوبون بنادقهم للمواطنين المتظاهرين والذين يشبه وضعهم وكأنهم يحاصرون مركز الشرطة.

المشهد تغير تماماً. مجموعات من الشباب تتظاهر وتندد، الشوارع تم اغلاقها، الحجارة قذفت باتجاه مركز الشرطة، فيما اطلقت نيران قوى الأمن في الهواء ترهيباً، فرد عليها بالقنابل النارية وإشعال بعض براميل الزبالة أيضاً. القوات الحكومية تطلق النيران على المتجمهرين الغاضبين، وتجرح نحو 27 منهم، وبسبب اطلاق النار العشوائي اصيبت امرأتان أيضاً، زعم بيان وزارة الداخلية فيما بعد بأن المتظاهرين هم السبب!.

حسب الشيخ نمر النمر في خطبة الجمعة في 7 اكتوبر، فإن القوات الحكومية استمرت في إطلاق النار لثلاث ساعات متتالية.

ثم وحسب بيان وزارة الداخلية، فإن مجموعة من الشباب توجهوا الى تلك القوات وأمطروها بالرصاص فجرح 11 رجل أمن.

تغير وجه المصادمات باتجاه غير ما أرادته وزارة الداخلية السعودية، وقد خشيت هذه الأخيرة أن تنتقل عدوى المصادمات لتشمل كل المدن والقرى، حتى مع الحضور الأمني، خاصة وأن مظاهرة احتجاج شقت طريقها بصعوبة في القطيف. بدلاً من أن تؤدّب الحكومة أهالي العوامية بالمزيد من القمع، تلقّت هي صفعة لم تتوقعها، وخسرت زمام المبادرة، فما كان منها إلا أن أصدرت بياناً اضطرت اليه، فزاد في احراجها.

اتهم البيان الرسمي البائس الصادر في 4 اكتوبر المواطنين بأنهم عملاء لدولة خارجية لم يسمها (يقصد ايران)، وخيرهم بين الولاء للوطن (أي لنظام آل سعود السياسي) وبين تلك الدولة. وقال البيان بأن تلك الدولة هي وراء الأحداث، وهدفها زعزعة الأمن والإستقرار، وما شابه.

كل عاقل قرأ البيان رآه أحمقاً، وغبياً، ولا ينتمي الى الوطنية ولا الى الحقيقة ولا الى ثقافة الدولة، بل هو خطاب مأزوم يعكس أزمة الحكومة السعودية نفسها!

ايضاً لم يقنع البيان الداخل ولا العالم في الخارج بقضية المؤامرة الأجنبية، ولم يكن التحريض على المواطنين الشيعة ذي فائدة لأن من انخرط فيه هم حزب السلطة النجدي الوهابي الأقلوي، وليس أحداً آخر من المناطق الاخرى.

البيان الرسمي، اعترف لأول مرة بأن هناك أزمة في تلك المناطق النفطية. فارتفع سعر النفط يوم اعلان البيان، حسب رويترز. وطفق الإعلام العربي والخارجي يناقش المشكلة ولم يكن النقاش بمجمله في صالح النظام.

هنا حاول النظام أن يقلل من أهمية ما جرى. فقيل: لو كان الأمر كذلك، لما تم التخلي عن سياسة التجاهل التي استمرت أشهراً طويلة بحيث ان العالم لم يلق اهتماماً للأحداث من بداية مارس الماضي.

فتح ملف أحداث العوامية، وبغير رضا آل سعود، ملف الإصلاحات السياسية، وملف التمييز الطائفي والمناطقي، وكشف عن غياب الحس الوطني لدى القابضين على السلطة قبل غيرهم، بحيث أنهم قدموا أدلة ملموسة في بياناتهم وإعلامهم تدينهم بالطائفية والتحريض على قتل مليوني مواطن على الأقل.

الصفحة السابقة