في الربيع العربي:

سقوط نظرية الأمن الاستراتيجي السعودي

عبدالحميد قدس

مفهوم الأمن لدى الكيان السعودي يقوم على بعدين: الأول، توفير عوامل وحدة السلطة المركزية ودرء كل الأخطار الداخلية المحدقة بها من قبل القوى السياسية والاجتماعية الطامحة نحو السيطرة على السلطة أو التي تخطط للمنافسة أو المشاركة في السلطة بما يكسر احتكارية العائلة المالكة، ويعرّف بـ (الأمن الوطني). والبعد الآخر للأمن ذو بعد قومي، أي توفير بيئة متصالحة مع النظام السعودي، بأن يكون الجوار الإقليمي منسجماً معه، ويخضع في مستوى آخر لنفوذه. وهناك بعد ثالث يشتغل عليه النظام السعودي لتدعيم بعدي الأمن الوطني والأمن القومي، وهو الأمن الإستراتيجي، والذي يقوم في أحد جوانبه الهامة على تحقيق نفوذ في مناطق بعيدة لغايات أخرى منها: مشاغلة خصومه في مناطق نائية من أجل إبعاد الخطر عن حدوده، أو بناء شبكة تحالفات من أجل المساعدة في احتواء أخطار تأتي من دول مستهدفة بهذه التحالفات، أو نقل مقاتلين ودعاة سعوديين الى دول قوية ونائية ومؤثرة في النظام الدولي من أجل تصدير مشاكله الداخلية ونقل خصوماته الى جبهات بعيدة.

هذا باختصار مفهوم الأمن لدى النظام السعودي، ولذلك عمل على الدوام من أجل تكريسه. فبعد اندلاع الثورة المصرية في يوليو 1952، كان الهاجس الأكبر الذي راود السعوديين هو كيف يدرؤون عن أنفسهم رياح الثورة القادمة من الغرب، فشاغلوا الثورة في اليمن واستنزفوها، وحرّكوا حلفاءهم الاقليميين والدوليين من أجل محاصرة الثورة، وتآمروا مع شخصيات سياسية عربية في بلاد الشام للإطاحة بالوحدة العربية.

وحين تفجّرت الثورة الإيرانية في 1978، كان النظام السعودي ينظر إلى اشتعال النار في أحد (العمودين المتساندين) قد يحمل أخطاراً على العمود الآخر. ولذلك تمسّك آل سعود بالشاه محمد رضا بهلوي حتى اليوم الأخير، وكانت عبارة ولي العهد آنذاك فهد (الملك فيما بعد): نحن نتمسّك بالشرعيّة المتمثلة في الشاه. وحين انتصرت الثورة، وقامت حكومة شعبية منتخبة، ألقت بظلالها وأمواجها على المنطقة العربية بصورة عامة، وعلى منطقة الخليج على وجه الخصوص، شعر النظام السعودي بأن أمنه الوطني والقومي في خطر، ولذلك جرى التخطيط لإشعال حرب على إيران يكون صدام حسين أداتها، وقادة دول الخليج مموّليها.

حرب طاحنة دامت ثمان سنوات حصدت أرواح ما يقرب من مليون إنسان، وخرّبت مدناً ومنشآت حيوية، وحتى البيئة لم تسلم من الدمار الرهيب الذي فعلته آلة الحرب. وقد أقرّ الملك عبد الله في لقائه بوفد عراقي بعد سقوط نظام صدام حسين في 9 نيسان (إبريل) 2003، أن المملكة أنفقت 30 مليار دولار خلال هذه الحرب، بل إن سعود الفيصل تحدّث في 2005 بنبرة عتب على الأميركيين لأنهم لم يقدّروا وقوف دولته إلى جانبهم في الحرب على إيران في الثمانينات. مهما يكن، فإن هدف الاصطفاف السعودي إلى جانب العراق وتمويل الحرب، هو تحصين مجال النفوذ السعودي الذي تعرّض للإنكسار بعد سقوط نظام الشاه في إيران.

إحتلال قوات النظام العراقي بقيادة صدام حسين للكويت في آب (أغسطس) 1990، كان بمثابة ضربة قاصمة للأمن القومي والأمن الوطني للكيان السعودي معاً، الأمر الذي دفع به الى قرارات طوارىء، وكان كما لو أنه تلقى صدمة عنيفة في مركز تفكيره، أفقدته القدرة على ضبط إيقاعه، حتى أنه سلّم البلاد الى الأميركيين، فكانوا يديرون شؤون الدولة من مبنى وزارة الدفاع في الرياض، وصاروا هم الحكّام الفعليين.

كانت تجربة احتلال الكويت نقطّة تحوّل دراماتيكية في أمن الكيان السعودي في أبعاده الوطنية والقومية والإستراتيجية. من تداعيات تلك التجربة، سقوط مفهوم الأمن الاستراتيجي لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، بعد أن دخلت الكويت، وقطر، والإمارات في إتفاقيات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، الأمر الذي أدّى الى تفكّك المجلس، وشعور دول خليجية صغيرة بأن هيمنة (الشقيقة الكبرى) أو (الأخ الأكبر) لابد من نهاية حاسمة لها، ومنذاك بدأت دولة خليجية مثل قطر تنطلق نحو أدوار كبيرة وطموحة.

طيلة فترة التسعينيات من القرن الماضي، كان النظام السعودي يعاني من تداعيات الغزو العراقي للكويت وما بعده، والانعكاسات الداخلية التي رافقت التحوّل الاقليمي، إثر صعود التيار السلفي الناشط سياسياً ودخوله في مجابهة سياسية مع النظام، والانشقاقات الحاصلة داخل المجتمع الديني، وتبلوّر أيديولوجية الخروج على النظام، بل والأيديولوجية الكونية للتطرّف والعنف والممهدّة لتشكّل تنظيم القاعدة.

هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 كانت نقطة تحوّل أخرى في الأمن القومي والإستراتيجي للكيان السعودي. فعمليات التصدير للمشاكل الداخلية، وتشجيع المقاتلين والدعاة على الإنتشار الكوني قد أتى وقت حصاده المر في قلب الدولة ـ الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة. وبصرف النظر عن خبايا وأسرار الهجمات، فإن صورة الدولة السعودية تمزّقت بعد تلك الهجمات، وبات ينظر إليها باعتبارها (بؤرة الشر)، بحسب تصريح عضو في الكونغرس الأميركي في 2003.

قبل ذلك، أي في نهاية العام 2002، نشرت الصحف الأميركية تقريراً للبنتاغون (رفعت عنه السريّة) ينص على (تصنيف الحكومة السعودية ضمن قائمة أعداء الولايات المتحدة) وأوصى التقرير بتوجيه إنذار شديد اللهجة الى هذه الحكومة بالتخلي عن سياستها العدوانية، وإلا (فإن أمريكا سوف تقوم باحتلال منابع النفط في المملكة، وتضع يدها على أرصدتها المالية في الخارج).

وفيما تمسّك وزير الداخلية الأمير نايف بموقفه بأن هجمات الحادي عشر من سبتمبر هي (مؤامرة صهيونية) وأنه لا يصدّق بأن مجموعة من الشباب اليافعين يقومون بهذا الفعل الكبير، كان مستوى التوتر في العلاقة بين الرياض وواشنطن يرتفع بوتيرة سريعة. وفي رد فعل على الإنتقادات الواسعة في الإعلام الأميركي ضد السعودية والأيديولوجية الوهابية المتطرّفة قال الأمير نايف (إن الحملة الإعلامية الشرسة ضد المملكة تعبّر عن حقد دفين ضدنا)، وهي العادة التي يتبعها الأمير في مؤتمراته الصحافية المحلية، أي أنها تصريحات للإستهلاك الداخلي فحسب.

مهما يكن، فإن الأهم والأخطر في هجمات الحادي عشر من سبتمبر هو في التداعيات، ففي مقابل برجي نيويورك، قامت الولايات المتحدة باحتلال دولتين: أفغانستان (في ديسمبر 2001)، والعراق (في إبريل 2003). وفي هذين الاحتلالين، تكبّد الكيان السعودي خسارة فادحة على مستوى الأمن الإستراتيجي والأمن القومي على التوالي. ففي مثال أفغانستان، كانت السعودية أحد صنّاع حركة طالبان ومموليها، إلى جانب المخابرات الباكستانية وحكومة الإمارات.

وفي العراق خسرت دولة كانت تشكّل بالنسبة لها صمّام أمان أمام النفوذ الإيراني، بل إن العراق في ظل الحصار الدولي (وكان الملك فهد يطالب بإبقائه بحسب وثيقة سريّة لإدارة كلينتون في دورته الأولى سنة 1992)، كان بمثابة ساتر ترابي في مواجهة إيران. سقوط بغداد في 9 إبريل 2003 كان نهاية مفهوم الأمن القومي بالنسبة للكيان السعودي، وأن هذا الأمن بات مرتبطاً بدرجة رئيسية بالوجود الأميركي في العراق. شعرت العائلة المالكة بأن خسارة كبرى قد وقعت بسقوط النظام في العراق، فقد جاءت الأغلبية الشيعية للحكم، وأن التاريخ في هذا البلد قدّر له أن يبدأ بخلاف رغبة الأمراء السعوديين، ولذلك شجّعوا كل عناصر التطرف والإرهاب، وأغدقوا الأموال على المقاتلين والسياسيين من أجل تخريب العملية السياسية، حتى أن الملك وكبار الأمراء تخلّوا عن اللغة الدبلوماسية في تعاطيهم مع قادة العراق الجديد، إلى درجة أن الملك عبد الله خاطب وفداً مؤلفاً في أغلبه من شخصيات شيعية بأن (بلاده دفعت 30 مليار دولار أيام صدام في حربه مع ايران، وهي على استعداد لدفع ضعف هذا المبلغ لمنع الشيعة من حكم العراق).

دفع آل سعود أموالاً طائلة لفريق سياسي يقوده إياد علاوي لخوض الانتخابات ضد التحالف الوطني ودولة القانون الذي يقوده نوري المالكي، رئيس الوزراء الحالي، وقيل أن علاوي تلقى ما يقرب من مليار دولار لشراء أصوات الناخبين وإفساد العملية الديمقراطية. ورغم أن علاوي حصل على أصوات أعلى من المالكي، إلا أن التئام التحالف الوطني ودولة القانون في تكتّل إنتخابي موحد أبعد علاوي عن منصب رئاسة الوزراء، وهو ما أثار غضب السعودية، التي تلقت ضربة أخرى بعد توجيه الملك عبد الله دعوة الى القادة السياسيين العراقيين للقدوم الى العراق لرعاية مبادرة مصالحة عراقية تحت اشراف سعودي، ولكن إتفاقاً عراقياً جرى في إربيل تمّ بموجبه الموافقة على المالكي رئيسياً للوزراء، وتقاسم المناصب بين الكتل السياسية الكبرى، فيما ذهبت دعوة الملك عبد الله مع الريح العراقية.

بقيت العلاقات السعودية العراقية متوتّرة حتى اليوم، وكان الهاجس السعودي يتلخّص في أن العراق بات مجال حيوياً لإيران، الى درجة أن الملك عبد الله والأمراء الكبار عبّروا مراراً للمسؤولين العراقيين والعرب والأميركيين وبطريقة تبعث على السخرية والضحك أحياناً إزاء ما يعتبرونه تهديداً إيرانياً. فقد عاتب الملك عبد الله وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لوجود ثلاثة ملايين إيراني على حدود السعودية من الشمال، ونفى زيباري ذلك، ببساطة لأن هذا العدد الضخم لا يمكن أن يكون في ظل وجود القوات الأميركية. وعاتب الملك عبد الله وليد المعلم، وزير الخارجية السوري بسبب دخول ستة ملايين إيراني الى العراق عبر الحدود السوريّة، ونفى المعلم ذلك، ببساطة لغياب حدود مشتركة بين سورية وإيران فضلاً عن أن يدخل ستة ملايين إيراني دون أن يراهم الأميركيون. وعاتب الأمير نايف مستشار الأمن القومي العراقي موفّق الربيعي لوجود مليون إيراني في مدينة الزبير، جنوبي العراق، ونفى الربيعي ذلك، ببساطة لأن الزبير صغيرة الحجم ولا تحتمل هذا العدد الكبير، فضلاً عن أن يدخل مليون إيراني ولا ترصدهم أجهزة الاستخبارات العسكرية الأميركية.

مهما يكن، فإن هاجس الأمن القومي لدى آل سعود حاضر بقوة في كل المداولات التي تجري في المنطقة، بل إن إبرام صفقة بين النظام السعودية وشركة أميركية لبناء سياج الكتروني على الحدود السعودية مع العراق يعبّر بحد ذاته عن حالة قلق كبيرة لدى الحكّام السعوديين.

منذ 5 كانون الثاني (ديسمبر) 2010 أصبح الشرق الأوسط عموماً والعالم العربي على وجه الخصوص على عتبة تحوّلات كبرى لم يكن للعالم بأسره أن يتنبأ بوقوعها. (ربيع العرب)، ذاك هو الوصف الذي أسبغ على الثورات العربية التي اندلعت بمقتل بوعزيزي، الشاب التونسي الفقير الذي مثّل رمز الإنسان العربي المقهور، والذي أشعل ثورة في تونس أطاحت بحليف سعودي عتيد، زين العابدين بن علي، الذي آوى الى جدة، هرباً من العدالة الشعبية، ثم انتقلت الثورة الى مصر، أودت بطاغية مصر، واشتعلت الثورات بعد ذلك في اليمن وليبيا والبحرين وسورية.

إن أهم ما نتج عن ربيع العرب، أنه جرّد الكيان السعودي من محيط آمن، وسقطت على إثره نظرية الأمن القومي السعودي، فبعد ذهاب العراق على حدوده الشمالية، ذهبت مصر من الغرب، فيما يشهد اليمن في الجنوب والبحرين في الشرق ثورة شعبية تضع الأمن الوطني والقومي السعودي على محك خطير.

فبعد سقوط الامن الاستراتيجي السعودي، واشتعال الثورات العربية التي هدّمت أجزاء جوهرية من نظرية الأمن القومي السعودي، بات الحديث يدور حول الأمن الوطني، الذي قد يخضع تحت تأثيرات متغيّرات إقليمية كبرى تنعكس حكماً على الداخل، بما يجعل النظام السعودي محاصراً بين قلق الوجود وخيار التغيير.

الصفحة السابقة