دولـة الـنـكـد

قد نفهم، ولا نعذر، هلع آل سعود من الربيع العربي، ومن التحوّلات التي يشهدها عدد من البلدان العربية منذ تسعة شهور حتى الآن لناحية (إسقاط النظام)، وإقامة آخر يختاره الشعب، ويقرر بملء إرادته شكل الحكم الذي يراه مناسباً، وهو ما لا يحتمله من أدمن إلى حد التماهي مع الشيطان كيما يبقى في السلطة إلى أن يصيبه العفن..

ولكن ما لا نريد أن نفهمه، مهما بلغت الحجج المنطقية لدى آل سعود، أن يقوموا بـ (التنكيد) على الشعوب العربية التي فتح الله عزّ وجل باب رحمته عليها وأكرمها بزوال طواغيتها، فصاروا أحراراً في دنياهم، يقرروا ما يشاؤون لأنفسهم، طالما أنهم يفعلون ذلك هذه المرة دون تدخّل من أحد، ولا بقوة مفروضة من جهة عليا داخلية أو خارجية..

آل سعود، وبئس ما أنجبت النساء، قرّروا منذ سقوط طاغية مصر، المخلوع حسني مبارك، أن يقودوا الثورة المضادة، وأن (ينكّدوا عيشة) كل الشعوب التي ثارت على طغاتها، بل قرروا معاقبة الشعوب لأنها فعلت ذلك (ما جرى لآلاف مؤلّفة من المعتمرين المصريين في المشاعر المقدّسة ومطار جدّة مثالاً على ذلك).

طريقة (تنكيد) آل سعود على الشعوب العربية التي ثارت على طغاتها تكاد هذه المرة تكون واحدة. فقد دفعت بأموال طائلة لنشر الوهابية في مصر (وبدأوا بأريافها وأحياءها الفقيرة)، وتجهيز جماعات وهابية في ليبيا لفعل الشيء نفسه، وفي تونس هناك خطة تبشيرية في المناطق التي تضعف فيها العلمانية ويرتفع فيها صوت التشدد الديني، أو حتى المناطق التي فيها تيار إسلامي معتدل، بحيث يتيح لها التسلل إليه ونشر عقيدة التكفير والتطرف الديني. وفي سورية، ينفق آل سعود مبالغ كبيرة جداً على مجموعات سلفية من أجل الإنخراط في الإحتجاجات السلمية والمسلّحة على السواء، وتحويل مناطق بأكملها الى الوهابية في محافظات حمص وحماة ودير الزور والقامشلي ودرعا وحتى ريف دمشق. وبحسب تقارير أميركية مسرّبة الى مسؤولين عراقيين أن السعودية تعمل بالتنسيق مع جماعات القاعدة عبر مشايخ الصحوة السابقين من أجل تنشئة حركة وهابية متطرّفة يتم من خلالها زعزعة النظام السوري وتتيح لتدخلات خارجية، حتى وإن أدى ذلك إلى تعريض أمن السوريين إلى أخطار كبيرة.

في اليمن، حيث غالبية الشعب اليمني تقترب من الهدف الكبير برحيل طاغية اليمن (أو شاويش صنعاء كما ينادونه اليمنيون)، وإقامة نظام ديمقراطي تتمثّل فيه كل القوى السياسية والاجتماعية، ويؤسس لوحدة وطنية حقيقية تقوم على الرضا والعقد الاجتماعي الحقيقي، ولكن نكد آل سعود يحول دون بلوغ الشعب الثائر هدفه، ولذلك هم يمدّون علي عبد الله صالح وحاشيته وأقربائه بكل أشكال الدعم حتى لا تطيح به الثورة الشعبية.

وفي البحرين، التي كان النكد السعودي فيها عسكرياً ومباشراً، فقد قرّر آل سعود، هكذا، إرسال قواتهم في 17 آذار (مارس) الماضي الى البحرين لقمع الثورة الشعبية. إختلف الناس في توصيف التدخل السعودي في البحرين، إن كان اجتياحاً، أم استضافة رسمية، أم نزهة مؤقتة، ولكن ما هو ثابت أنه (نكدٌ) وماجاء إلا لـ (تنكيد عيشة) غالبية الشعب البحريني بشيعته وسنّته قبل أن يدخل عليهم المارد الوهابي بخطابه التقسمي.

كل شعب فكّر في الثورة وخرج في مظاهرات تمهيدية طاله النكد السعودي، ففي الأردن خرجت تظاهرات وكادت أن تتطوّر إلى حد إطاحة النظام، ولكن تدخّل المال السعودي لـ (تنكيد) حياة الأردنيين، فاشتروا للنظام الملكي الأردني حصة زمنية، بل ومكافأة له، وامتثالاً للقول الشائع (الطيور على أشكالها تقع)، تمّت دعوة الأردن للإنضمام الى مجلس التعاون الخليجي (ولا ندري لماذا يبقى المجلس خليجياً حتى اللحظة)، بل وقدّمت دعوة أخرى للمغرب للإنضمام للمجلس، وتوالت الدعوات بعد ذلك، إلى حد دعوة مصر للإنضمام أيضاً للمجلس.

لا ندري هل من خطط لمثل هذه التوسعة يستحضر الكلام السابق حول (نادي المستبدّين) المؤلّف من الملوك وأشباه الملوك، وكل حكّام الخليج ملوكاً وإن لم يسموّا بهذه الصفة. ولماذا يدعى الأردن، والمغرب، ولا ندري من سيأتي في الطريق ويستثنى اليمن من نكد آل سعود.

وإذا كانت هناك نيّة لتعميم النكد، لماذا لا يتحوّل مجلس التعاون الخليجي الى مجلس التعاون العربي، وإلغاء الجامعة العربية، وبالتالي يصبح للعرب مؤسسة نكد واحدة بدلاً من تكثير مصادر النكد (فكرة حلوة أليس كذلك؟).

كل الكلام السابق مقدّمة لخبر قرأته للأمير الليبرالي جداً تركي بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود، رئيس الاستخبارات العامة سابقاً، وسفير عاهله في لندن وواشنطن أيضاً سابقاً. يقول الأمير في كلمة له بمعهد الكانو الملكي في مدريد في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي، بأن (موجة الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي هذا العام وأطاحت بحكومات في المنطقة خلقت بيئة خصبة للجماعات الارهابية). كيف يا سمو الأمير ذلك، وكل العالم يعرف بأن الثورات الشعبية في تونس ومصر أزاحت عن المشهد القاعدة التي كنت أنت أحد صنّاعها، فلم يعد هناك حينذاك من يتذكّر القاعدة أو غيرها التي أصبحت كما يقول المثل المصري (فص ملح وداب) في غمرة موجات الإحتجاج العالية والواسعة في ميادين ومدن تونس، ومصر، واليمن، والبحرين. نعم في ليبيا جرت المصالحة بين القاعدة والناتو، لحاجة الطرفين إلى بعضهما، ولكن الثورات العربية ما كانت تكترث بالقاعدة ولا بغيرها، وإن دخول العنصر القاعدي عليها ما كان إلا بتدخّل النكد السعودي عن طريق نشر الوهابية المتطرفة في البلدان التي انتصرت فيها الثورات مستغلّة الأوضاع الجديدة ومحاولة لركوب موجة الثورات وتخريبها.

الصفحة السابقة