صراع على السلطة لم ينته بين آل سعود

إزاحة مستمرة للإنفراد بالمجد

فريد أيهم

الطريقة التي تمت فيها عملية اختيار نايف ولياً للعهد لا تعني انتقالاً سلساً للسلطة، بقدر ما تعني انتصاراً وغلبة للجناح الممسك بالقوة العسكرية والأمنية وما يتبعها على الأرض. لم يكن اختيار نايف ولياً للعهد، عملية سادت فيها مواصفات البيعة (صفقة اليد؛ وثمرة القلب). ذلك أنه حين جدّ الجدّ، لم يستطع الأمراء المنافسون والمعارضون لنايف أن يقولوا لا. لكن الـ (لا) محبوسة في داخلهم، وقد تظهر في يوم ما، لأن ما قدّم مجرد بيعة ظاهرية من الأمراء حوت ما يمكن وصفه بصفقة اليد، أما القلب فهو ينطوي على الكثير من الغضب والألم والإعتراض.

من الناحية الظاهرية، فان انتقالاً للسلطة مبكراً قد تمّ. الملك عبدالله من مواليد عام 1924 (87 عاماً بالتقويم الميلادي، و90 عاماً بالتقويم الهجري)، وهو يعاني من أمراض القلب، كما أمراض الظهر، وغيرها، ما يجعله غير قادر على القيام بمهامه إلا في أدنى المستويات، ما يعني أن الأمير نايف ـ عملياً ـ يدير السلطة كاملة تقريباً، ويرأس مجلس الوزراء حتى مع وجود الملك في الرياض. وإذا كان هناك من معين ومساعد، فسيكون شقيقه سلمان، الذي تم تعيينه وزيراً للدفاع.

أن القبض على وزارتي الداخلية والدفاع، هو الذي ضمن انحصاراً للسلطة في يد السديريين، ولذا كما كان متوقعاً، استحال أن يخرج المنصبان منهما. وهو أمرٌ يدركه الملك، لذلك عمد هو الآخر الى إبقاء رئاسة الحرس الوطني برئاسة ابنه متعب بمرتبه وزير. من يمسك بالقوة على الأرض سيكون له حصة أساس في السلطة. ولذا فإن نجوم الجيل الثالث المتوقعين لإدارة الدولة بعد وفاة الملوك الثلاثة (عبدالله، ونايف، وسلمان) هم: محمد بن نايف المسيطر على وزارة الداخلية بمسمى نائب أبيه نايف؛ وخالد بن سلطان الذي يدير وزارة الدفاع كنائب لعمّه سلمان؛ ومتعب الذي يدير الحرس الوطني إسماً ومسمّى.

تركي وعبدالرحمن شقيقا نايف: نهاية الصراع أم بدايته؟

إن تحوّل السلطة في كتلتها الكبيرة الى يد الأمير نايف، عنى أول ما عنى استمرار تفرّد الجناح السديري بالسلطة تقريباً. وهذا يعني أن الإنفراد بالسلطة بشكل شبه كامل، وتهميش عائلة ضخمة العدد مثل آل سعود (22 ألفاً تقريباً) يعني إضعافاً للقاعدة الإجتماعية للنظام حتى داخل الأسرة المالكة، التي يشعر الكثير من أعضائها بالحنق على غمطهم حقوقهم وعدم مشاركتهم في إدارة الدولة. هذا يعني أن الإنفراد بالمجد ـ حسب التعبير الخلدوني ـ يفسح المجال لانشقاقات داخل العائلة، لصعوبة إرضاء جميع أفرادها بالمناصب، وبالتالي فإن جلّ ما أدّى اليه تعيين نايف ولياً للعهد، هو تأجيل انفجار المعارضة من داخل الأسرة نفسها على الوضع القائم. وفي ذات الوقت، قد لا يطول الأمر، حتى تظهر أصوات معارضة للنظام من داخل العائلة المالكة، وقد تتخذ تعبيرات مختلفة، بما فيها الدعوة لإصلاحات سياسية، كوسيلة للضغط على محتكري السلطة بأن يتنازلوا لإخوانهم وأبناء عمومتهم عن شيء منها.

العائلة المالكة منشقّة على نفسها اليوم، وإن لم نجد التعبيرات العمليّة لذلك على سطح الأرض. لا أحد ينكر وجود سخط. لأنه قد تم التعبير عنه بالممارسة وبالقول، كما يحدث دائماً من الأمير طلال وأبنائه، أو كما يحدث مع الأمير متعب وغيره.

الإنفراد بالمجد، أي احتكار السلطة بيد بضعة أمراء، يتطلب إزاحة متواصلة لأعداد كبيرة منهم، حتى ضمن البيت السديري نفسه. هذه تجربة تكررت مراراً في التاريخ السعودي، وفي مسيرة عوائل مالكة أخرى. في السعودية، تنتقل الخلافة من الأخ الى أخيه؛ وفي غيرها تنتقل من الأب الى ابنه الأكبر. وحتى الآن، وبسبب غياب الوضوح في مسألة انتقال الخلافة، خاصة فيما يتعلق بأسسها: هل هي الى الأكبر من الأخوة، أم الى الأصلح، ومن يحدد الأصلح؛ فضلاً عن تبدّد الدور المفترض لهيئة البيعة في اختيار المرشح ببقاء ترشيح ولاية العهد بيد الملك عملياً، خلافاً للقانون.. كل هذا يفتح الباب لعملية استبعاد مستمرة للمنافسين في غياب التنظيم، يقوم بها الجناح الأكثر قوة، وفي داخل الجناح الأقوى يقوم الرجل الأقوى بإزاحة منافسيه.

لا غرو مثلاً أن نرى أن الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز، نائب وزير الدفاع قد أزيح من منصبه ليتولاه ابن اخيه خالد بن سلطان، وليتولى وزارة الدفاع الأمير سلمان، وهو شقيقه الذي يصغره سنّاً. عبدالرحمن كان يعتقد بأنه الأحق بولاية العهد كونه أكبر سنّاً من شقيقه نايف، ويقال أنه لم يحضر جلسة هيئة البيعة احتجاجاً. ولكن لو جرى التحاكم الى السنّ حتى ضمن الجناح السديري، فإن الأمير تركي بن عبدالعزيز، وهو أيضاً نائب وزير دفاع سابق حتى عام 1978، هو أكبر الأمراء السديريين الأحياء. وتركي هذا، لا يحبّذ وصول نايف الى العرش، ومع هذا جرى تجاوزه، وتجاوز أبنائه أيضاً، شأنه في ذلك شأن عبدالرحمن.

بمعنى آخر، فإن عملية الإزاحة والإبعاد لا تقتصر على الإخوة غير الأشقاء، الذين يكبرون نايف سنّاً، كما هو الحال مع متعب وطلال وبدر ونواف، بل تتجاوزهم الى الدائرة الأصغر.

هذا يفضي بصورة تلقائية الى زيادة التوتر داخل العائلة المالكة، وتصاعد نسبة السخط فيها، ومن ثمّ يمكن توقّع حدوث انشقاق حادّ وعلني فيها بأكثر مما رأينا. وإذا كان جيل الآباء (الجيل الثاني ابناء الملك المؤسس عبدالعزيز) لا يميل الآن الى المشاكسة أو غير قادر عليها بالنظر الى الناحية العمرية المرتفعة والضعف الجسدي وغيرهما.. فإن الأبناء (الجيل الثالث، حفدة الملك عبدالعزيز) لديهم الإستعداد للصراع والشجار والمواجهة، ويعتبرون أنفسهم ورثة حقوق آبائهم المضاعة، وبالتالي فهم مسلّحون ـ في غياب نظام واضح وشفاف للخلافة ـ بمدعيات غير قابلة للنقض في الجدل الداخلي بين الأمراء، ولا يمكن حسمها إلا بالقوة والإخضاع البدني، وحتى القتل المعنوي كما حدث لعدد من الأمراء: مساعد مثلاً؛ وطلال منذ انشقاقه عام 1962؛ وحتى بندر بن سلطان الذي قُضي عليه لمحاولة تجاوزه ترتيبات عائلته في الخلافة ليصبح ملكاً، حيث أصبح مغيّباً منذ مدّة طويلة، ويرجح أنه معتقل.

منصور، فيصل، سعود: حكاية الصراع الأولى على السلطة

ما نودّ التأكيد عليه هنا، أن سلاسة انتقال ولاية العهد من الأمير المتوفى سلطان الى شقيقه نايف، والتي شهدناها جميعاً، دون حدوث انفجار علني للخلاف، تخفي احتقاناً متراكماً قابلاً للإنفجار في أية لحظة بين أمراء وأميرات يتزايد عددهم، كما تتزايد طموحاتهم للسلطة والثروة.

كان الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة قد عانى من المنافسة هو الآخر، حيث ظهر اليه أبناء عمه سعود بن فيصل بن تركي الذين سموا بالعرائف، ورأوا أنهم أحقّ بالسلطة منه. كانت ثورتهم مسلحة، ودعمها الأشراف في الحجاز قبل زوال ملكهم. ثم وجد مرة أخرى، أن هناك أجنحة من ذات البيت السعودي تريد المنافسة أيضاً، مثل عبدالله بن جلوي آل سعود امير الأحساء، حيث كان يرشح ابنه فهد لتولي منصب كبير في الدولة التي شارك في تأسيسها قبل ان يقتل على يد العجمان. وتصاعدت الطلبات من أفرع أخرى من آل ثنيان، ما أدّى الى طرد عبدالله بن ثنيان أحد رجاله المعتمدين، وكذلك من فرع آل فرحان. وأخيراً بقي عدد من اخوة الملك عبدالعزيز الأشقاء ـ خاصة عبدالله ـ يريدون ولاية العهد لهم أو لأبنائهم خاصة، وكانوا يبحثون عن حصّة كبيرة في السلطة. وتشير وثائق بريطانية أن عمليات اغتيال حدثت لأبناء أخي الملك عبدالعزيز دبرها هذه الأخير.

أيضاً، فإنه حين بدا أن الملك عبدالعزيز قد استفرد بالملك وهمش بقية أفرع العائلة المالكة، وحصر الخلافة في أبنائه، وجد مشكلة حاضرة لديه، وهي الخلاف بين أبنائه وهو حيّ يرزق. وبالذات كان هناك الخلاف بين منصور وزير الدفاع، وسعود ولي العهد، وفيصل نائب الملك على الحجاز. لكن منصور توفي في حادث سيارة، قيل أنه مدبر، حسب الوثائق البريطانية، وبقي الأخوان الآخران يتصارعان في حياة أبيهما وبعد وفاته الى أن استطاع فيصل تجريد سعود من الحكم وطرده الى اليونان ليموت منفياً فيها عام 1968.

وهكذا، فنحن نتحدث عن صراع مستمر، مع أن الأمراء يقسمون في هيئة البيعة على (الحفاظ على وحدة الأسرة المالكة) وذلك قبل القسم بالحفاظ على الدولة موحدة!

لقد اصبحت السلطة سديرية كاملة ولن تخرج من هذا الجناح في المدى المنظور، بقدر ما هو مقدّر للعائلة أن تحكم. كانت هناك فرصة لإبعاد هذا القدر التاريخي، لكن الملك عبدالله أضعف من أن يغير الأمر.

بتحول المملكة السعودية الى مملكة سديرية، يتقلص الإجماع بين الأمراء، وبمقدار ما يكون خلافهم وانشقاقهم سيكون هناك في المقابل انشقاق في نجد الحاضنة اجتماعياً والتي ينتمي اليها الأمراء. كما سيكون هناك انشقاق في المجتمع في أية بادرة صراع داخلي، على النحو الذي شهدناه في الدولة السعودية الثانية، حين انشقّ ابناء فيصل بن تركي على أنفسهم (سعود وعبدالرحمن من جهة، وعبدالله ومحمد من جهة اخرى)، فتشظت الدولة، وانقسم المجتمع النجدي بالذات، وقامت الحروب الأهلية، والتي انتهت بسقوط الحكم السعودي على يد آل الرشيد.

قد لا يكرر التاريخ نفسه بهذا الشكل الحرفي. لكن من المؤكد أن الدولة السعودية تعيش حالة من الإنحدار والتردّي، حيث تضعف المشروعية للحكم، وحيث تجديد الدولة أمرٌ يستحيل حدوثه مع جيل من العجزة يحكمها، وبالتالي فإن الهرم كما الفساد، كما الجشع والطمع والإستئثار والصراع على السلطة، كلها تلعب دوراً أساسياً في رسم نهايتها.

الصفحة السابقة