آل سعود في لبنان

رهانات التحالف الخاسرة

جوني عبدو مدير المخابرات اللبنانية السابق ينتقد السعودية

وأداءها في لبنان ومعاملتها للحريري كـ (طفل)!


عمر المالكي

في لبنان، حيث التنوّع السياسي والطائفي ولعبة المحاور بأحجام صغيرة ومتوسطة وكبيرة، يتقاسم الأفرقاء السياسيون نظرات متباينة حول السعودية ودورها في الشأن اللبناني..خارطة العائلة المالكة تبدو كما لو كانت شبه محسومة لبعض القادة السياسيين اللبنانيين، حتى أنهم صاروا يميّزون بين المعتدل والمتطرّف، وبين الصقر والحمامة، والأهم بين السخي والبخيل..

معرفة آل سعود بلبنان لا تقلّ عن معرفة بعض الساسة اللبنانيين بهم، مع لفت النظر إلى أن التدخّل السعودي في الشأن اللبناني منحهم مساحة أكبر للتعرّف على خبايا السياسة اللبنانية وخارطة القوى المتنافسة، والطوائف المتنازعة، وساعدهم في نهاية المطاف على امتلاك أدوات التفجير والتهدئة والتسويّة والمساومة..

لكن الأهم هنا، هو كيف ينظر اللبنانيون الى آل سعود، الحلفاء والخصوم على السواء. لدى الإنسان اللبناني العادي إنطباع نمطي أن السعودي العادي هو (شيخ) يمتلك المال وينفقه كيف يشاء، ولدى السياسي اللبناني، الحليف حصرياً، إنطباع آخر ودور أيضاً آخر، فهو وإن لم يختلف عن اللبناني العادي في انطباعه حول الوفرة الماليّة السعودية التي تفتح شهيّة ما، فإنّه في الوقت نفسه يدرك بأن شق قنوات مع جناح أو أكثر في العائلة المالكة كفيل بإقامة بنية تحتية حزبية قويّة، واستدراج أنصار ومحازبين، وتالياً مشروع سياسي. كثر من السياسيين في لبنان تعاطوا مع آل سعود، ولكن قلّة منهم حازوا على نصيب وافر من الدعم المالي. ولا علاقة لذلك بالإنتماء الطائفي والديني، فقد يحصل شخص مثل سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية أو حتى أمين الجميل، رئيس حزب الكتائب على ميزانية تفوق ما يحصل عليه زعيم سنّي، مثل نجيب ميقاتي، ومحمد الصفدي، وسليم الحص، دع عنك عمر كرامي المحسوب على فريق 8 آذار.

الحريري: دمية سعودية

يعتنق فريق من السياسيين اللبنانيين المقرّبين من فريق 14 آذار تصوّرات حول العائلة المالكة، وعلى وجه الخصوص إزاء الأمراء المعنيين بالملف اللبناني، أو حتى بالملف اللبناني ـ السوري. وبحسب هذه التصوّرات يبني هذا الفريق مواقفه وعلاقاته والأهم من ذلك كله طبيعة الأدوار التي تفرضها هذه التصورات لجهة الإفادة من الدعم السعودي السياسي والمالي في خدمة قضايا خاصة، فئوية، طائفية، حزبية.

نسمع كثيراً عن ساسة لبنانيين يطلقون تصريحات إعلامية، مشحونة غالباً بحشوة دعائية وتواري حقائق جبل السياسي اللبناني على إخفائها بغية التماشي مع الجو العام، وللحيلولة دون إغضاب (الشيخ)، ولكن نادراً ما نسمع عن سياسي لبناني يبوح بمواقف صريحة عن آل سعود. نعم، قد تعني الصراحة لدى بعض السياسيين اللبنانيين المحسوبين على السعودية المطالبة بإلحاح وربما بغضب لدور سعودي فاعل في الملفات وعدم السماح لقوى أخرى، مثل إيران وسورية وحركات المقاومة، بالإستفراد بالساحة. وهذه الصراحة تتغيا عروضاً معروفة التكتيكات والأهداف، وليس من شأنها تقديم قراءة نقدية للسياسة السعودية في لبنان أو في الشرق الأوسط عموماً.

واحدة من التصوّرات التي كشفت عنها وثائق ويكيليكس مؤخراً، تعود إلى تاريخ 2 نيسان (إبريل) 2007، حيث جرى لقاء في باريس بحسب الوثيقة رقم: 07PARIS1307، بين جوسيا روزنبلات، المستشار السياسي في السفارة الأميركية في باريس، وجوني عبدو، مدير المخابرات اللبنانية السابق. للمعلومية فحسب، أن جوسيا روزنبلات كان الممثل الأميركي في موضوع (أسلحة الدمار الشامل) في العراق زمن الرئيس صدام حسين، وهو من شارك في خداع الرأي العام الأميركي والعالمي، حين زعم بأن تقرير ديفيد كاي حول المنشآت النووية العراقية يتضمن أسراراً خطيرة، وسوف تكشف الولايات المتحدة عنها في الوقت المناسب، وتبيّن لاحقاً كذب مثل هذه المزاعم.

على أية حال، ما يعنينا في اللقاء بين روزنبلات وعبدو بتاريخ 30 آذار(مارس) 2007 هو ما دار فيه حول الشأن السعودي، حيث تحدّث عبدو بسلبية عن السياسة السعودية. الوثيقة التي حملت عنوان (ارتياب جوني عبدو حيال النشاط الدبلوماسي السعودي)، جاء في ملخّص الوثيقة بأن جوني عبدو لم يعد يثق بالتحوّل الحاد مؤخراً في النشاط الدبلوماسي السعودي في لبنان، وخطّأ السعوديين لكونهم لم يحملوا سعد الحريري على محمل الجد. لكن عبدو، أحد كبار داعمي 14 آذار، إنتقد قيادة 14 آذار، أي سعد الحريري، لـ (افتقاره لرؤية إستراتيجية)، وقال بأن الغالبية كانت (تستسلم تدريجاً) لقوى 8 آذار المعارضة.

مدير المخابرات اللبنانية السابق، جوني عبدو، نقل وجهات نظره حول الأزمة السياسية اللبنانية خلال لقاء في بيته الباريسي في 30 آذار (مارس) مع بولوف. وبدأ عبدو بالسخرية من القمة العربية الأخيرة في الرياض كونها لم تنتج (شيئاً جديراً بالملاحظة). (السعوديون مهتمّون بدرجة أكبر بالشكل أكثر من المضمون)، حسب ما يقول عبدو باحتقار، مضيفاً بأن البيان الختامي للقمة تجاوز الإنشقاقات العميقة بين أفراد آل سعود حول موضوع لبنان.

تضيف الوثيقة، بأنه بالعودة الى الجولة الأخيرة للنشاط الدبلوماسي السعودي في لبنان، يعبّر عبدو (الداعم زعماً لتحالف 14 آذار)، عن ارتيابه العام في السعوديين. ويقيّم بأن الأمير السعودي بندر بن سلطان ووزير الخارجية سعود الفيصل، ليسا على وفاق في ملف السياسة اللبنانية ـ السورية، حيث أن بندر يلّح في دعم 14 آذار وحكومة السنيورة، فيما يلّح سعود الفيصل على التوافق مع سورية، وأن الملك عبد الله يقف في الوسط بينهما، ولكنّه يخضع بسهولة تحت تأثير أي شخص يستطيع أن يهمس بإذنه أخيراً. (وسواء يقرر السعوديون أن يكرهوا بشّار مئة بالمئة، أو يحبّوه مئة بالمئة، فإن ذلك سيء للبنان) حسب قوله. وأن المشكلة الأكبر بالنسبة للسعوديين، حسب عبدو، هو أنهم لا يأخذوا سعد الحريري على محمل الجد. وفيما كان رفيق الحريري شريك فاعل في صنع القرار السعودي، وكان ينصح القيادة السعودية كيف تطوّر مصالح لبنان وكذلك السبيل الأفضل لتحقيق مصالح المملكة في لبنان، فإن السعوديين يتعاملون مع سعد (مثل طفل). إن عدم التوازن المترتب في العلاقة جعلت من الصعب على سعد الحريري تغيير الإنطباع بأنه مجرد دمية سعودية، الذي سوف يعمل كل ما تأمره به الرياض، وهو انبطاع، في المقابل، قوّض قدرته على مهاجمة حسن نصر الله وآخرين كونهم عملاء أجانب.

جوني عبدو: ارتياب من النشاط الدبلوماسي السعودي

تواصل الوثيقة تسجيلاتها لملاحظات جوني عبدو حول السعودية وحلفائها في لبنان، ويقول بأن 14 آذار كان في موقف أضعف اليوم منه قبل عام مضى، وأنه يضعف في كل وقت. وأن ذلك، حسب قوله، عائد الى الإفتقار لرؤيّة إستراتيجية من جانب قيادة 14 آذار، وكذلك الإلتزامات الشخصيّة المتنوّعة لسعد الحريري، وسمير جعجع، ووليد جنبلاد. الحريري، كرّر عبدو، ينظر إليه على أنه مدين كثيراً للسعوديين، أما سمير جعجع فيقول الأشياء الصحيحة ومن المحتمل أن يؤمن بها، ولكنه بحاجة إلى تحسين صورته العامة (نقل عبدو عجز جعجع عن استقطاب أصوات المسيحيين الذين تركوا ميشال عون، وتنبأ بأنه في حال خاض عون الترشيح للرئاسة، فإن معظم مؤيّديه السابقين سوف يعودون الى معسكره)، وجنبلاط ينظر إليه من قبل كثيرين بأنه غير جدير بالثقة (بالرغم من أن عبدو مقتنع بأن جنبلاط (تجاوز نقطة اللاعودة)، وليس هناك من خطر على انحيازه للمعارضة).. وتطرّقت الوثيقة الى تقييمات عبدو في جوانب أخرى لبنانية وسورية لا تعنينا هنا بصورة مباشرة، ولكن ما يعنينا في حقيقة الأمر هو ما ذكره عبدو حول إخفاق السياسة السعودية في لبنان منذ العام 2007، وتقييم الأمراء لحليفهم سعد الحريري، الذي فرّط في حكومته ونال غضب الأمراء والإعلاميين السعوديين، لأنه أساء إدارة الحكومة، وقدّم كل مبررات فشله.

الحريري اليوم يعود الى الساحة اللبنانية من العالم الإفتراضي، حيث فتح حساباً له على موقع (تويتر)، وصار يقدّم تغريدات استفزازية وضحلة، وكأنه لم يتعلّم شيئاً في غيابه كما لم يدرس هزيمته السياسية وأسباب سقوط حكومته.

الحريري بنى على وهم بأن آل سعود لن يتخلوا عنه مهما حصل، وأنه خيارهم الوحيد في لبنان، لمجرد أنه من حملة الجنسية السعودية أو لكونه إبن رفيق الحريري. مراسيم العزاء انتهت ولا يزال الحريري ـ الإبن يفتح مجلسه لاستقبال المعزّين، والداعمين. وانتهى زمن حصاد الجثث السياسية وبقي الإبن يتمسّك بالمحكمة الدولية كباب خلفي للعودة الى الحكومة عبر مساومات، وقد تحصل مثل تلك الصفقات ولكن ليس لأن الحريري خيار دائم لآل سعود. في الواقع، فقد الحريري الإبن رصيده السياسي والشعبي قبل فترة من سقوطه، حين قرّر الإمتثال لأوامر ما يوصف بـ (الأمن الخارجي) الممثل في الأمير مقرن بن عبد العزيز والأمير بندر بن سلطان، فيما كان يرفض الإصغاء إلى نصائح الأمراء الآخرين سواء المقرّبين من الملك عبد الله أو الأمير نايف، وجاءت وثيقة ويكيليكس التي وصف فيها الحريري الأمير محمد بن نايف، مستشار وزارة الداخلية للشؤون الأمنية، بأنه سفّاح، ليكسر الجرّة في العلاقة بين الحريري بين جناحي الملك ووزير الداخلية. نشير إلى أن الأمير عبد العزيز نجل الملك عبد الله قد دخل في حوار صاخب مع الحريري لأنّه تجاوز حدوده في التعامل مع الأوامر.

لاشك أن سعد الحريري أقدر من غيره من السياسيين اللبنانيين السنّة، فضلاً عن غيرهم، على فهم آل سعود، وهو يدرك متى يرضون ومتى يغضبون. فالرجل لم يكن بعيداً عن تربية القصور وتقاليد العائلة المالكة في الخضوع للكبير، والتزّلف للقوي، ومداهنة المنافسين، وإطراء الحلفاء المحتملين، ولذلك فهو يداوم على حضور مجالس كبار الأمراء، وحين يأتي الى المملكة يتخلى عن كل مناصبه، وحتى حين كان يتولى منصب رئيس الحكومة اللبنانية، فإنها يزور الرياض بوصفه من حملة التابعية السعودية، ومن رعيّة الملك والأسرة المالكة، فهو من بين رؤوساء كل حكومات العالم الذي يزور المملكة دون أن تقام له مراسيم استقبال ووداع.

حتى وقت قريب، كان سعد الحريري ينظر إلى الغضب السعودي على أنّه مجرّد فركة إذن، وأن (الأعمام) سيعوّضونه عن كل خسائره، خصوصاً وأنه يواجه أزمة مالية غير مسبوقة، إضطرته لبيع عدد من مؤسساته الحلوب، لسداد ديونه، ودفع رواتب موظفيه وتخديم بعض المشاريع العالقة. بطبيعة الحال، لا ينسى الحريري وأفراد عائلته من تذكير إبنهم بما حلّ بثروة آل الحريري من غضب وعقاب بسبب كثرة المترّبصين بها، والحاسدين، والطامعين، والسارقين! مع أن التحقيقات في الفساد المالي في (سعودي أوجيه) تشير بأصابع الإتهام إلى الأنساب، وهو ما دفع به لطلب العون من الملك وكبار الأمراء للحصول على الدعم.

مهما حاول سعد الحريري أن يخفي السخط الشديد لدى أوساط الأمير نايف المقرّبين، فإن الحقيقة هي أن سعد لم يكن في يوم ما خياراً لدى الأمير نايف، بل هناك ميل الى اختيار شخصية موضع تقدير في خصائصها الذاتية والثقافية والروحيّة وتحظى بشعبية واسعة، وهو ما أثبت الشيخ سعد بأنه عاجز عن توفيره خصوصاً مع عودة شخصيات سنيّة مثل الصفدي وميقاتي وكرامي جرى إقصاؤها في عهد الحريري الأب إلى الواجهة.

الصفحة السابقة