الدولة المستقيلة

كل التنبّؤات تخيب في ضبط ما يمكن أن يحصل في المملكة، خصوصاً حين توضع الوقائع في سياق قوانين التاريخ والطبيعة والمنطق، فالذين يمسكون بزمام الأمر والقرار في العائلة المالكة لا يكترثون، بل بالأحرى لا يدركون ماتعنيه تلك القوانين وما تفرضه من واجبات، فهم اعتادوا أن يسيروا بطريقة محدّدة على طريقة (كلمة الرجال واحدة)..

كل من اعتقد إلى حد التمنّي بأن الجيل الثالث في العائلة المالكة سيتولى عمّا قريب إدارة الدولة، وسيصعد أحد أفراد هذا الجيل الى موقع ولاية العهد، وسيتنحى المعتّقون في وزاراتهم (الخارجية، الداخلية ، الدفاع)، لم يجدوا ما أملوا، لأن ذلك لم يحصل..

لم يحصل، ليس لغياب الأمراء الطامحين لملء تلك المواقع، ولكن لأن الإرادة تعمل بطريقة مختلفة. فثمة إتفاق على تقاسم السلطة بين فئة محدودة، وأن طريقة القسمة تفرض نوع الإنتقال للسلطة ووتيرتها، وآلياتها، وتدار أحياناً بطريقة لعبة الشطرنج بين متنافسين ماكرين.

لئن فهمنا هذه الآلية والطريقة في توزيع السلطة وليس تداولها، أدركنا حينئذ ماتعنيه الدولة المستقيلة. لأن تلك الطريقة لا تجعل الدولة خاضعة لقوانين التحوّل والتطوّر، وإنما هو قانون واحد: توازن القوى وتوزيعها.

بإمكان المرء أن يفهم عملية إدارة الدولة السعودية دون حاجة إلى تكهنّات، فالعائلة المالكة تأبى إلا أن تبقي باب المفاجئات مغلقاً، سوى في حالات استثنائية نادرة، كغياب بندر بن سلطان عن مراسيم تشييع جنازة والده، وإقالة الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز من منصبه كنائب لوزير الدفاع وتعيين خالد بن سلطان بدلاً منه دون إشارة الى الأسباب الدافعة وراء الإقالة أو الاستقالة (بناء على طلبه) كما هي العادة بالنسبة للأمراء المقالين أو المستقيلين.

التغييرات التي طالت تركة ولي العهد السابق، الأمير سلطان، وعلى وجه التحديد تركة المناصب وليس التركة المالية (التي بلغت 270 مليار دولار أميركي بحسب شبكة سي إن إن الأميركية). كان متوقّعاً أن توزّع مناصب الأمير سلطان بين الأمراء الكبار الذين يقفون في صف المنتظرين، فولاية العهد تنتقل إلى الأمير نايف، ووزارة الدفاع تذهب للأمير سلمان، وهناك مؤسسة الطيران المدني ومؤسسات أخرى أقل أهمية (مؤسسة فيصل الخيرية مثلاً)..وهذا لاجديد فيه، بل هو المتوقّع.

الحال نفسه سيتكرر مع الأمير نايف، في حال رحيله، رغم أنه أكثر أعضاء العائلة المالكة إمساكاً بالمناصب، وقد زاد إلى مناصبه المتعددة مناصب جديدة من بينها نائب رئيس مجلس الأمن الوطني، ما يشير إلى أن بندر بن سلطان سيكون هامشياً.

دلالات ما سبق، أن الدولة بكامل حمولتها قائمة على أساس تجاذب بين أشخاص أقوياء في العائلة المالكة، وإن خصائص وطباع هؤلاء الأشخاص تنعكس تلقائياً على الدولة.

رحيل الأقوياء يحرّر الدولة من جمودها واستقالتها، ولكن ليس ذلك على سبيل الجزم، فقد يرحل قوي وتتوزع مناصبه بين رجال يحملون سماته. فماذا سيغيّر الأمير سلمان في وزارة الدفاع، سوى أنه سيحثّ الخطى نحو بناء شبكة نفوذ داخل الدولة والمجتمع مستفيداً من إمكانيات الوزارة الجشعة. من المصادفات المفجعة أن سلمان سيكون رجل المفاوضات في صفقة الـ 60 مليار دولار مع الولايات المتحدة!

يدهشنا أولئك الأجانب والسفراء الذين يراهنون على الأمير سلمان في إحداث تغييرات في الدولة السعودية، والقول بأنه أكثر حداثة من إخوانه، فيما لا دلائل يمكن الوثوق بها على أن الرجل يمتلك خصائص تجعله متميّزاً عن غيره، فضلاً عن وصفه بأنه أكثر حداثة، وفي ذلك مجازفة كبيرة، فلم نقرأ أو نسمع ما يفيد بخلاف ما عليه إخوته المعارضين للإصلاح المفضي الى انتقال السلطة الى الشعب.

إعادة الهيكلة التي تحدّث عنها سايمون هندرسون في محاضرته في معهد واشنطن في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، لن تتجاوز حد إعادة التموقع بين عدد من الأفراد، ولن يقوم الأمير سلمان بثورة في وزارة الدفاع لوقف هدير الأموال، أو تنظيم هيكلي لمراقبة مصروفات الوزارة. وكون الأمر الملكي القاضي بتعيين الأمير سلمان وزيراً للدفاع تجاوز نائب وزير الدفاع الأمير عبد الرحمن الذي أقيل من منصبه لا يمكن إدراجة في سياق (إعادة الهيكلة). ببساطة، لأن الإتفاق بين الملك والجناح السديري يفضي إلى جعل التوزيع بهذه الطريقة، وهو ما أغضب الأمير عبد الرحمن الذي فضّل الإستقالة على أن يقبل بقرار تعيين شخص من خارج الوزارة وزيراً عليها، بل وأن يخضع لسلطة إبن إخيه الذي أصبح نائباً، في إطار التعهد الذي قطعه الأمير سلمان لأخيه الأمير سلطان..

مع وصول نايف الى ولاية العهد وسلمان إلى وزارة الدفاع يعني أن زمن استقالة الدولة السعودية سيكون طويلاً نسبياً، فالمرض يحدق بالثلاثة الكبار: الملك (الظهر والقلب) ونايف (سرطان الدم)، وسلمان (جلطة دماغية أدّت الى صعوبة الحركة)..في الواقع، إن المرض صار رفيقاً دائماً للعائلة المالكة، وهو أحد الأسباب الرئيسية لاستقالة الدولة السعودية.

ما يساهم أيضاً في تخليد أمد الإستقالة هو ترحيب الإدارة الأميركية بقرارات تعيين الأميرين نايف وسلمان، وكأنها تأنس باستقالة الدولة السعودية لضمان استتباب المصالح الحيوية للولايات المتحدة، ولخشيتها من تداعيات أية تغييرات في عملية توزيع السلطة.

الثابت الآن وحتى إشعار آخر، أن السعودية دولة مستقيلة، فالملك وكبار الأمراء مشغولون بترسيخ مواقعهم في الدائرة العليا للسلطة، وهذا ما يجعل أي حديث عن تغييرات يقوم بها الملك أو أي من الأمراء الكبار مثل نايف وسلمان هو مجرد آمال لا تصمد أمام حقيقة القصور الذاتي لدولة أبت إلا أن تكون مستقيلة، فيما يظل التاريخ يهتف بأولئك المستقيلين بضرورة التعجيل اللحاق به.

الصفحة السابقة