الدولة المفلسة

دولة تملك ثروة مالية هائلة، وقوة عسكرية ومزاعم دينية تستمد مشروعيتها من صدورها في ديار الحرمين الشريفين..ولكنها في آخر النهار تخرج مفلسة، كيف ذلك؟ الجواب ببساطة: لأن الناس تطلب شيئاً لا يملكه الحاكم، أو لا يقدر عليه، أو لا يريده، وهذا يجعل حكمه مكشوفاً على شعار (إرحل).

في النتائج، تفيد دراسة مستقلة نشرها مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك في 9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري بأن أزمة اليورو وخطر عدم الاستقرار واهتزاز نظام الحكم في السعودية من بين المخاطر الرئيسية التي تتهدد الولايات المتحدة عام 2012.

وفي المقدّمات كلام طويل جداً..

فقد بقيت العائلة المالكة تلوك دعاوى واهنة: الحق التاريخي لآل سعود والدعوة السلفية، فصادرت حق الشعب في المشاركة السياسية في الأول، وصادرت حرية الاعتقاد والتعدّدية المذهبية في الثاني. والنتيجة تحوّلت المملكة السعودية إلى دولة أقلوية، يستفرد فيها آل سعود بالحكم، ويحتكر فيها الوهابيون الدين، فيما تحوّلت الغالبية الساحقة من السكّان في مكان آخر، خارج مجال الدولة، أي ما يطلق عليها في الأدبيات السياسية بالأغلبية المهمّشة، نتيجة الإقصاء السياسي، والتمييز الاقتصادي والاجتماعي، والتوصيم العقدي..

وكلما ظهرت حركة مطلبية تطالب بالإصلاح والمساواة والعدالة ودولة القانون استنفرت الأقلية الحاكمة قواها الدينية والاعلامية والسياسية والمالية والأمنية للدفاع عن مصالحها الفئوية، مستخدمة قائمة اتّهامات جاهزة: العمالة للخارج، الخيانة، الأجندة الخفيّة، تهديد الوحدة الوطنية، الإملاءات المشبوهة، الإرتباط بدولة معادية..

ولابد من الإذعان لحقيقة أن تلك الإتهامات تركت في أوقات سابقة مفعولاً سلبياً وحاسماً، لأسباب عديدة منها: سطوة الأجهزة الأمنية، وانخفاض مستوى الوعي السياسي لدى الأغلبية السكانية، وغياب قنوات اتصال جماهيري موازية تسمح ببّث أنباء المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على نطاق واسع، وطغيان المال النفطي ..

لقد تغيّر الحال كثيراً اليوم، ولا عودة للوراء، ولحظنا كيف انهار البناء الهش للدول البوليسية بدءاً من دولة البعث في العراق في نيسان (إبريل) 2003، وجاء الربيع العربي قبل عام من الآن ليكشف عن خواء أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا والبحرين وسورية واليمن..وليس مملكة آل سعود منها ببعيد.

وعلى خطى الدول الفاشلة، يصرّ آل سعود بأن دولتهم تختلف عن كل الدول الأخرى (هكذا قال مبارك عن تونس، وقال القذافي عن مصر، وقال علي صالح عن ليبيا، وقال نايف عن بقية العالم)، حتى نسوا بأنهم لم يعد مقبولاً بقاؤهم على النحو السابق، فثمة تاريخ جديد يكتب، وإن الهروب للإمام (باجتياح البحرين، والتدخّل عسكرياً ومالياً في ليبيا واليمن وسورية) لن ينتج حلاً حاسماً لمشكلة عميقة..

كان آل سعود بحاجة الى اختبارات متسلسلة كيما يفيقوا من غفلتهم بأن العالم تغيّر من حولهم، وامتدّت رغبة وإرادة التغيير الى أسوار قصورهم..لاشك أن الاستنفار الأمني غير المسبوق في 11 آذار (مارس) الماضي كان ينمّ عن فزغ من يوم عظيم تخشاه العائلة المالكة. وإذا كانت القيامة السياسية لم تحن بعد في مملكة آل سعود، فلا يعني ذلك أنهم نجوا من موعد حاسم في الربيع العربي. على العكس، فإن ما لا يلحظه آل سعود، أو بالأحرى ما لا يريدون تصديقه، أن كيانهم الذي بنوا ينهار (بالمفرّق) دون أن يكونوا قادرين على منع القضاء السياسي المبرم الذي ينتظرهم..

من بين تلك الاختبارات البارزة ما صدر من ردود فعل على بيان للمثقفين والاصلاحيين والناشطين الاجتماعيين والحقوقيين والسياسيين حول محاكمات ما أطلق عليهم ضباط الأمن في الصحافة المحلية بـ (خلية الاستراحة) في إشارة الى الإصلاحيين الذي حكم عليهم بعقوات سجن تتراوح مددها بين 5 ـ 30 سنة، وأيضاً استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين في احتجاجات القطيف..

بصرف النظر عن محتويات البيان، فإن ما كتب من ردود عليه في الصحف الرسمية اليومية محلياً أو خارجياً (من صحف خضراء وصفراء، وبلا لون)، يكشف عن حالة افلاس شديد تعاني منها الدولة السعودية..ولا تزال الحملة الإعلامية متواصلة بما يؤكّد أن هذا البلد يفتقر للحد الأدنى من حرية الصحافة، وإلا لما ظهر هذا التطابق المفزع والقبيح في الموقف من بيان الإصلاحيين الستين.

من يقرأ ما كتب يصاب بغثيان حيال الإجترار المقرف لعبارات منفلتة لا تكشف عن نفسيات مريضة وموتورة فحسب، بل يكشف عن جنوح فارط نحو الاسفاف واللغة الصبيانية والعصابية...

إزاء هذا المشهد البائس، يتحوّل رئيس التحرير في ديارنا الى منصب أمني، فيما يصبح بعض الكتّاب ما يشبه ضبّاط أمن..بعض افتتاحيات الصحف المحلية اليومية تقترب الى حد كبير من لغة بيانات وزارة الداخلية..هل ذكر أحد بيان سماحة المفتي وهو يستعير عبارات بيان وزارة الداخلية حول حوادث القطيف..؟

حالة الإفلاس التي تعاني منها الدولة هي ما توصل الى نهايتها، فقد نضب الخطاب الإعلامي والسياسي ولم يعد قادراً على تحقيق ابتكارات تجذب الجمهور العريض، الذي تحرر منذ زمن من أسر الإمبراطورية الاعلامية السعودية..

بإمكان المراقب لما يكتب في الصحف السعودية ويبث على قنواتها المحلية والفضائية، وقبل ذلك من يستمع للملك ووزير الداخلية وكبار الأمراء وحكّام المناطق أن يخرج بانطباع واحد: أن هؤلاء يعيشوا في زمن مضى، وينتمون الى تاريخ قد أدبر..

ماذا يعني أن كلما طالبت مجموعة بالإصلاحات ووجهت بتهمة العمالة لإيران، وتهديد الوحدة الوطنية، والتعامل مع جهة خارجية، والخضوع لإملاءات أجنبية..ثم ماذا؟ هل تحلّ المشكلة بمجرد توجيه هذه الإتهامات، فقد سبق لذلك زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وبشار الأسد، وحمد بن عيسى، وسيكررها نايف بن عبد العزيز (الملك الفعلي في البلاد حالياً)، فهل غير الإفلاس ذهب ويذهب بالطغاة..

للستين إصلاحياً تعظيم سلام..ولوطنتيكم ألف سلام..فأنتم بشارة التغيير القادم.

الصفحة السابقة