دور السلطة والمجتمع في التدافع نحو الاصلاح السياسي

حالة الجمود أو بالأحرى الترقب الحذر لدى صنّاع القرار في المملكة بانتظار ما تكشف عنه الايام وربما الشهور القادمة سيما في ظل الحالة السائلة التي تعيشها المنطقة برمتها منذ احتلال العراق، تمثل إحدى تعبيرات القلق الذي ينتاب القيادة السياسية السعودية، فالتصاعد المستمر للأصوات الراشدة في هذا البلد والمطالبة بوضع الاجندة الاصلاحية كما صاغتها عريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) والتي حظيت بتأييد ولي العهد الأمير عبد الله بوضعها حيز التنفيذ يؤكد أن الاصلاح السياسي بات خيار الضرورة والحاجة، يجمع على ذلك القطاع الواسع من السكان والدوائر العليا في الدولة.

فهناك عدد كبير من الامراء والمسؤولين الكبار في الدولة يخبرون بصورة مكررة بأن قرار الاصلاح قد صدر بانتظار الظرف المناسب، وفي الغالب يقصد به الظرف الهادىء، ولكن ثمة ما يؤخر دخول هذه القرارات حيز التنفيذ. فما هي الأسباب التي تحول دون البدء بتطبيق الاجندة الاصلاحية سواء بحسب رؤية العائلة المالكة أم برؤية التيار الوطني الاصلاحي العام؟

مخاوف العائلة المالكة

هناك ما يبرر خوف العائلة المالكة من الاصلاح السياسي، فثمة أخطار حقيقية محدقة بوحدة الدولة، فمازال خطر التقسيم قائماً، ومازالت دوامة العنف تهز بعنف أسس استقرار الدولة، وأن الدولة في الوقت الراهن تمر بحالة وهن عام، وبالتالي فإن تبني الاصلاح بصورة عملية سيفضي الى مزيد من الضعف في بنية السلطة، أو هكذا الشعور الذي ينتاب العائلة المالكة، خصوصاً وأنها تدرك تماماً خارطة إخفاقاتها وماهي المجالات التي تحتاج الى إصلاح جذري، وتدرك ايضاً حجم الأعباء التي ستقع على عاتق الدولة حال البدء بتنفيذ خطط اصلاحية جوهرية وشاملة. فالعائلة المالكة باتت على يقين بأن المجتمع لا ترضيه إصلاحات هامشية تطال أطراف القضايا دون المساس بجوهر المشاكل الحقيقية ذات العلاقة بحياة السكان، ولأن الدولة تعجز الآن عن تلبية الحد الأدنى مما كانت تقدر عليه قبل عقد من الزمن، ولذلك فإنها تخشى أن جرعات الاصلاح التي ستقدمها غير كافية لتخفيف الأزمة بل قد تفتح عليها باباً جديداً من النقد والمساءلة العامة، أو قد تشجّع هذه الجرعات السكان للمطالبة بالمزيد وإستثمار ما هو موجود لتحقيق ما هو أكبر. بكلمات أخرى، فإن ما ستقدّمه العائلة المالكة للسكان لن يكون مقبولاً ومرضياً في كل الأحوال، لأنها لا تملك الآن حلولاً جذرية لقضايا تراكمت لعقود حتى فاقت قدرتها على الحل والعلاج، فهي ملامة في كل حال.

هناك عامل آخر يكبح نوايا العائلة المالكة للإسراع بتنفيذ برنامج اصلاحي شامل، وهو الظروف الداخلية، الأمنية منها بدرجة أساسية، فلأول مرة تشعر العائلة المالكة بالعجز حيال ظاهرة عنف غير مسبوقة، وكانت حتى وقت قريب من انفجارات الرياض المتزامنة في الثاني عشر من مايو الماضي تنظر الى حوادث العنف في مناطق مختلفة من المملكة بوصفها حوادث منفصلة وليس فيها ما يشير الى تقنية عسكرية متقدمة أو الى شبكات تنظيمية معقّدة، فضلاً عن القدرة التدميرية الهائلة التي ظهرت في تفجيرات الرياض، فهي ـ أي حوادث العنف السابقة ـ تجري أمثالها في مناطق عديدة من المملكة ويتم القبض على الضالعين فيها بسهولة، ولكن العائلة المالكة لحظت هذه المرة بأنها تتعامل مع جماعات منظّمة لديها من الخبرة القتالية وحرب الشوارع والمتفجرات ما أصاب قوات الأمن الداخلي بالدهشة والفشل، بل في بعض الأحيان استطاعت هذه الجماعات تحييد القدرة الأمنية للدولة وتمكنت من تحقيق أهدافها رغم ما يتعرض له بعض خلاياها من تمزّق.

هذا التطور الأمني الخطير خلق حالة ذعر شديدة وسط النخبة الحاكمة، ووضع هذا التطور في سياق تحديات أخرى لا تقل خطورة مثل مخطط تقسيم المملكة الذي ظل يتفاعل لفترة طويلة نسبياً داخل دوائر قريبة من الإدارة الأميركية، وهو امر أثار قلقاً جدياً داخل الحكومة، ومازال تحدي التقسيم قائماً وتالياً القلق الناجم عنه.

في ظل ظروف سياسية وأمنية مقلقة تجد العائلة المالكة نفسها أكثر ميلاً لتأجيل الحديث عن إصلاح سياسي الى أمد غير معلن، لأن الاصلاح قد يخلق معه شروطاً إضافية تتلاءم وتزخم التحديات الاخرى ولا سيما تحدي الأمن الوطني وتحدي وحدة الدولة بصورة عامة.

خيار العائلة المالكة كما هو واضح الآن ينحصر في سياسة خلق الهياكل بمضامين فارغة، فكثير من المؤسسات التي ظهرت خلال السنوات القيلة الماضية وخصوصاً المجالس المتصلة بالتعليم والاقتصاد وغيرها وانتهاءً بمركز الحوار الوطني تفتقر الى مضامين حقيقية، فقد بقيت هياكل بلا روح ولا دور ولا صلاحية، بل سقطت احياناً تحت رحمة البيروقراطية والطبقة المنتفعة، التي تجد في هذه الهياكل مشاريع استثمارية تموّلها خزينة الدولة.

اللجوء الى سياسة الهياكل هي أشبه ما يكون بالسمكة البلاستيكية المستعملة في صنارة صيد الاسماك، فهي تغري بلونها وشكلها المميز ولكنها تفتقر الى روح حيّة. وقد نجحت الدولة حتى الآن في إشغال تيار عريض في البلد عن طريق الدعوة للقاء الفكري واعلان مركز للحوار الوطني، حتى ظل هذا التيار منغمساً في التنظير له وتحليل مضامينه وسبر آفاقه المستقبلية والوظائف المعلنة وغير المعلنة التي يمكن لمركز كهذا القيام بها، حتى أصبح المركز الوطني بديلاً عن الاصلاح السياسي نفسه.

وطالما حقق الاعلان عن مركز الحوار الوطني هذا الاقبال الواسع، فلماذا لا يكون هناك مراكز ولقاءات فكرية واسعة ومتعددة تشغل الناس حيناً من الزمن عن الدولة، ريثما تعثر الاخيرة على حلول أخرى لمشكلات لا يبدو أنها جاهزة لتحمل تبعاتها.

ولكن يبقى، كما يرى فريق المتفائلين، أن مركز الحوار الوطني واللقاء الفكري يمثلان خطوة صحيحة في إتجاه هو الآخر صحيح، وإن مزيداً من المراكز واللقاءات سينقل المجتمع والدولة الى مناخ حواري جديد سيملي على الدولة في نهاية المطاف الاستجابة لشروط التحوّل ومطلب التغيير. فالدولة لم تعد تحتفظ بكثير من الحلفاء المحليين الذين هم على استعداد لتولي مهمة الدعاية وتبرير سياسات العائلة المالكة، فالساخطون على الاوضاع كثر، وأن عصا الدولة كما جزرتها ليست طويلة بما يكفي للنيل منهم، فقد تمدد السخط الى طبقة التجار، والمثقفين، ورجال الاعلام، والدكاترة، نزولاً الى الطبقات الدنيا من السكان، ولم يعد نقد الحكومة ومعارضتها شيئاً ناشزاً أو حدثاً طارئاً، فالتيار الاحتجاجي يتمدد أفقياً وعمودياً ويخترق حتى الغرف القريبة من مصادر القرار، وبالتالي فإن نشوء قنوات تعبير على مستوى وطني سيسهّل مهمة التيار الاصلاحي العام في البلد، وستتحول هذه المراكز بمرور الوقت الى مكثّف صوتي يوصل مطالب الناس الى أسماع العائلة المالكة. صحيح ان تطلعاً يحدو بالعائلة المالكة في أن يتحول مركز الحوار الوطني الى درع يحمي مركز السلطة من سهام المتدافعين عليه، ولكن هذا التطلع يتضاءل تدريجياً لأن الصوت الاحتجاجي يتعالى بوتائر سريعة وسيغطي على الاصوات المتملقة التي يدفعها بؤسها الى الاستئكال بلسان حذق أضر العائلة المالكة ولم ينقذها من السير نحو الخيار الاصلاحي وتبنيه عاجلاً أم آجلاً.

المجتمع والدور المنتظر

ثمة قرارات سياسية مؤجلة تنتظر دفعاً مجتمعياً كيما تدخل حيز التنفيذ، فثمة مقولة شائعة على الالسن هذه الايام بأن (هذه العائلة لا يطلع منها خير) إشارة الى أن ليس هناك أمل في أن تنبري العائلة المالكة لمهمة الاصلاح السياسي في البلد، وهذه المقولة تبطن استسلاماً ويأساً، ولكن لا تخلي مسئولية دعاة الاصلاح والنخبة المثقفة والقوى السياسية والاجتماعية في هذا البلد. فالتغييرات التي شهدتها مؤسسات الدولة كانت تتم دائماً بدفع من الناس، واذا كانت العائلة المالكة ضد التغيير والاصلاح فهل يعني ذلك إنتظار القادم من رحم الغيب؟ فليس هناك تغيير بلا ثمن، وليس هناك تغيير بدون قوى تغيير حاضرة وفاعلة في الميدان السياسي.

نضج الوضع الداخلي وبلوغه درجة تأهيلية لولوج مرحلة التغيير لا يكفي وحده من أجل الانتقال السلمي الى الديمقراطية، فهناك عنصر الفعل شبه الغائب حالياً من المجتمع، كما أن البعثرة والاضطراب في نشاطات الاصلاحيين وأحياناً البلادة التي تصيبهم والتي تحول دون تبلوّر حركة إصلاحية وطنية تفقد تأثيرها السياسي في الضغط على السلطة لجهة الاسراع بتطبيق أجندة اصلاحية شاملة وجذرية.

فالفورانات المتقطعة والانطفاءات السريعة في النشاط الاصلاحي يمنح السلطة إطمئناناً الى أن هذه الفورانات لا تعدو أكثر من (سحابة صيف وتعدي) حسب التعبير المصري، سيما وأنها تجمَّعت على مدارة فترة زمنية طويلة ولكنها كانت سريعة التبدد والتلاشي، وهذا ما يجعل النشاط الاصلاحي فقيراً الى عنصر الضغط. هذا ما حصل مع كل العرائض الاصلاحية التي رفعت الى الجهات العليا في الدولة، فغاية الأمر أن لقاءً يعقد مع ولي العهد أو غيره من الأمراء الكبار مع أصحاب العرائض، يتخللها تطمين وتأكيد على الرغبة السامية بأن الاصلاح هو منهج وعقيدة الدولة وأن ثمة تطابقاً في وجهات النظر حول محتويات هذه العرائض بين السلطة والمجتمع، وأن هناك قرارات صادرة تنتظر الظرف المناسب كيما تدخل حيز التنفيذ. ولكن..وبعد إنفضاض المجلس، يعود أصحاب العرائض الى بيوتهم محمّلين بقائمة وعود ولا يمر زمن طويل عليها حتى تتحول الى أوهام، وحتى مع فرضية المتابعة بين أصحاب العرائض والسلطة فإن الشعار المشهور في وجه هؤلاء هو أن قرار الاصلاح قد صدر وينتظر الظرف المناسب. هذه مجمل الطريقة المعمول بها حالياً، ولا يبدو أن هناك عنصراً آخر سينضاف اليها، فعريضة وموعد ولقاء ووعد ووهم وإنتظار جديد والحبل على الجرار.

هذا الاسلوب المفروض من الدولة على السكان في ايصال مطالبهم لم يثمر حتى الآن عن نتائج حقيقية منظورة، وأن الاصرار على الالتزام به كوسيلة وحيدة للضغط على السلطة سيجعل التيار الاصلاحي العام رهيناً لإرادة السلطة وحدها التي لا يبدو أنها على إستعداد لتعديل سلوكها ونظرتها الى مطالب السكان، فهناك إرادة غائبة أو غير فاعلة، وهي إرادة المجتمع ممثلاً في قواه السياسية والاجتماعية ودعاة الاصلاح المنتشرين في أرجاء المملكة. فهذه الارادة ستصبح مضاهية لارادة السلطة فيما إذا تبلورت وتجمّعت في تيار اصلاحي وطني يمثل الطيف السياسي والاجتماعي العام في البلد.

ينتظر من هذا التيار بكل رموزه وفئاته أن يستأنف نشاطه الاصلاحي، وأن يبتكر وسائل جديدة، وليست بالضرورة غير سلمية، للدفع باتجاه تبلوّر تكتل إصلاحي وطني عريض يضطلع بمهمة تحرير السلطة من عقدة الخوف من الاصلاح، والضغط عليها باتجاه وضع برنامج إنقاذ وطني شامل يتضمن طمأنة السلطة ازاء ما تعتبره مخاوف من التقسيم وتفكك السلطة وتبدد الملك، ولكن في ذات الوقت إلزامها بوضع أجندة إصلاحية دقيقة تعالج مشكلات الدولة الحقيقية، الاقتصادية والسياسية والامنية والثقافية والتعليمية، أي بكلمة إصلاح شامل للدولة.

لاشك أن وجود نوايا لدى العائلة المالكة، سواء صدقت هذه النوايا أم لا، ووجود إحساس عام لدى المواطنين بضرورة الاصلاح يعد تطوّراً إيجابياً وهذا يتطلب إستثمار صحيحاً وعاجلاً في عملية التدافع نحو تحويل النوايا الى أفعال، وهذا لن يتم ما لم ينبري دعاة الاصلاح وبخاصة الموقعين على وثيقة الرؤية لكي يعيدوا ما بدأوه أول مرة.

الصفحة السابقة