الاصلاحات الدستورية مسألة وقت: ولكن أي وقت؟

تصريحات تكاد تكون متطابقة صدرت في السابق وتصدر حالياً عن أرفع جهة في الدولة ونزولاً الى الأمراء السفراء في واشنطن ولندن، وكلهم متّفقون على أن هناك إجماعاً عاماً على موضوع الاصلاح السياسي وأنه قد بات خياراً استراتيجياً ونهائياً لا عودة عنه، ولكن..(وبئس من كلمة) المسألة لا تعدو كونها مرتبطة بالوقت المناسب من أجل وضع الأجندة الاصلاحية حيز التنفيذ.

ونلفت هنا الى أن مسألة الوقت هذه كانت دائماً حاضرة في خطابات المسؤولين وتصريحاتهم وبخاصة حين يتعلق الأمر بالاصلاح السياسي، فمنذ أن بدأ الحديث عن إصلاحات سياسية في الستينيات والمواطن يسمع عن مسألة الوقت هذه، وكأن ثمة وقتاً لا نعرفه يمر خارج دورتنا الزمنية والتاريخية الحالية، فقد تأجلت وعود، وتباطأت خطوات، وأجهضت إرادات بفعل عامل الوقت هذا، حتى غدا وكأنه المبرر الوحيد الذي يحول دون انفاذ الإرادة السامية. أو لعل المراد عكس ذلك تماماً، هو وقت لا حراك فيه ولا تحركات شعبية، ولا أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولا اضطرابات أمنية، ولا انهيار في المداخيل، ولا زيادة في معدلات البطالة بوتائر مخيفة، ولا ارتفاع في مستوى الجريمة وحجمها، ولا فساد إداري، ولا ولا..فكل هذه مضادات للوقت المناسب للاصلاح بحسب مفهوم العائلة المالكة.

واذا كان كذلك، فلن يكون هناك إذن وقت مناسب للإصلاح، لأن وظيفة الإصلاح والغاية منه هو تصحيح الاعوجاج في كافة المجالات المذكورة، وليس الوقت هو الدليل على الاصلاح حتى ينتظر حلوله. ولأن نظرة العائلة المالكة للإصلاح قائمة على أساس التنازل جزئياً عن السلطة فحسب، دون رعاية للمكاسب الكبرى التي ستجنيها من وراء الاصلاح السياسي، كالاستقرار واختفاء مصادر التوتر، وبداية الدخول في مرحلة نهوض جديدة، وتماسك الدولة وحفظ السلطة ومركزيتها..ولذلك فإن الاصلاح سيبقى مخيفاً والقرار فيه يعني بالنسبة لهم كخروج الروح من الروح، ولذلك تخفي العائلة المالكة مبررها الحقيقي بتعليقه على الوقت لرفض مبدأ الاصلاح.

وبطبيعة الحال، فإن مفهوم الوقت تبدّل كثيراً في وعي السلطة، فالوقت في زمن الملك سعود يختلف عنه في زمن الملك فيصل والملك خالد والملك فهد، فكل وقت له معنى وهدف. فالوقت قديماً كان يفهم على أن البلد غير مؤهلة لمرحلة الاصلاح السياسي بالمعنى المشاع حينذاك، فقد كانت الحركة المطلبية داخل المملكة محصورة في نخب متقطعة الأوصال، مفصولة عن محيطها الاجتماعي، وهي أشبه ما تكون بجزر معزولة، ولذلك كان بالإمكان احتواء تأثيراتها وحتى تطويقها جزئياً أو كلياً. وقد مرّ الوقت، ونجحت العائلة المالكة بالفوز بهذا الوقت المستقطع في عملية التجاذب الداخلي، بإخماد فورة النخب الوطنية والليبرالية التي ما لبثت أن تلاشت تدريجياً بفعل ضربات قاصمة سددها الملك فيصل لها.

وعاود الوقت يطرح كعامل أساسي في الاصلاح السياسي في زمن الملك فيصل، رغم أن النبرة الدينية المصعّدة كانت كفيلة بإفراغ المضامين السياسية للاصلاح، ولعل في هذا الزمن جرى استعمال مفرط للدين لمواجهة المطالب السياسية، فقد ظهرت خلال هذه الفترة تصريحات من قبيل (دستورنا القرآن) إحباطاً لمطلب وضع دستور ينص بدقة ووضوح على حقوق المواطنين وواجباتهم، وهكذا تحديد صلاحيات العائلة المالكة. فهذا الوقت قد جرى تغييبه تحت وطأة الاستعمالات المفرطة للغة الدينية التي لم تبق مضموناً سياسياً للوقت في أن يلعب دوراً سلبياً في العملية الاصلاحية، وتم التأكيد عوضاً عن ذلك على دينية الدولة، وأنها النموذج الفريد في الدنيا الذي لا يجب أن يستعير من غيره ـ وبخاصة دول الكفر والضلال في العالم ـ لأنها دولة العقيدة والسلف الصالح التي تطبق أحكام الشرع ولا تقبل بأن يملي عليها أحد رأيه. ورغم أن قوانين وضعية عديدة عبرت تحت الغطاء الديني للدولة الا أن تغييرات جوهرية في بنية السلطة لم تتم، بل على العكس تعززت شمولية الدولة واحتكارية السلطة من قبل الملك أولاً ثم باقي أفراد الاسرة المالكة.

في عهد الملك خالد والذي شهد في الثلث الأخير منه ظواهر إحتجاجية شعبية في المنطقتين الغربية والشرقية عادت الى وسائل الاعلام المحلية تصريحات رسمية محمّلة بوعود الاصلاح السياسي، وكان الوقت دائماً شرطاً نهائياً ووحيداً لتنفيذها، فتلك التصريحات كانت توحي بأن الأجندة الاصلاحية جاهزة للتنفيذ بانتظار الوقت المناسب. وما إن شعرت الدولة بالاطمئنان الى أن تلك الظواهر الاحتجاجية قد خمدت أو جرى تطويقها وتحييد آثارها التدميرية على السلطة حتى تناست الاجندة الاصلاحية والوقت معاً، ولم يبق سوى التعامل مع أسئلة الصحافيين الأجانب ووسائل الإعلام غير المحلية حول توقيت الاصلاح السياسي. فهناك برع المسؤولون الكبار في تصوير الدولة السعودية للإعلام الخارجي بلغة المنتصر الواثق، بأنها قامت على مبدأ الشورى وأن المواطن بخير ويتمتع بكافة حقوقه ويمارس حرياته بتمامها دون نقصان، وأن المؤسس هو الذي وضع لبنات الديمقراطية في هذا البلد، وحذا حذوه الخلف.

ومنذ احتلال قوات النظام العراقي البائد للكويت في الثاني من أغسطس 1990 لحظ الجميع بأن أول قضية محلية برزت على السطح هو الاصلاح السياسي، فقد بات الجميع سلطة وشعباً يدرك بأن ليس هناك قضية مركزية تحكم علاقة الدولة بالمجتمع غير قضية الاصلاح السياسي، فقد عبّر الطيف السياسي والاجتماعي والديني في المملكة وكل بطريقته عن هذه القضية، ولعل الدولة كانت تعلم سلفاً بأن هذه القضية ستكون أول ما يثار على الساحة المحلية بعد غزو الكويت، وقدوم القوات الأميركية بأعداد هائلة الى الاراضي السعودية. وحيال هذا الوضع، اشتغلت ماكينة التصريحات الرسمية بأقصى طاقتها، مؤكدة على تلك الاجندة الاصلاحية القديمة التي مازال التصميم منعقداً على إنفاذها بانتظار اللحظة المناسبة.

كافة التصريحات كانت توحي بأن الأجل الذي أجّله الملوك السابقون في موضوع الاصلاح السياسي سيستدرك بعد ثلاثين عاماً، فهذا الوقت بلاشك كان مختلفاً عن سابقه، فالحركة المطلبية الشعبية واسعة الى حد الزعم بأنها تمثل إجماعاً وطنياً على قضية لم يختلف عليها أحد من حيث المبدأ. وجاءت العرائض طبقاً للحظتها التاريخية، وتعبيراً صادقاً عنها، فقد حملت مطالب متوازنة وواضحة ودقيقة في مشروع الاصلاح، أضف الى ذلك أن الموقعين عليها كانوا شديدي الاخلاص للثوابت الوطنية والدينية وشديدي الاحتشام ايضاً تجاه مكانة العائلة المالكة. ولكن نقول وبصدق أن العائلة المالكة كانت دون مستوى ذلك، فهي لم تقدّر تلك القوى الوطنية والدينية حق قدرها ولم تضعها في موضع يتناسب واخلاصها الشديد، فقد جاء إعلان الانظمة الثلاثة في مارس 1992 خارج الوقت المناسب واللحظة التاريخية المعاشة آنذاك، بل يكاد المرء ينحو بالقول الى حد إتهام من صاغوا الانظمة بالسخرية من عقول الناس والاستخفاف بمداركهم، والا فإن مقارنة عاجلة بين الاصلاحات المقترحة في عهد الملك سعود والتي صاغها الأمير طلال في كتابه (رسالة الى مواطن) تفوق في تقدّمها وصياغاتها القانونية والحقوقية بمرات عديدة مضامين الانظمة الثلاثة وكأن الوقت المزعوم يسير بنا القهقرى.

فهل عنى لهم الوقت شيئاً حين جعلوها شورى مفصولة عن المشورين، وهل عنى لهم الوقت شيئاً حين اختاروا من هو شديد الولاء للسلطة كي يكون عضواً في مجلس الشورى أو مجلس المناطق وإن لم يحظَ بثقة الناس وتأييدهم، وهل عنى لهم الوقت شيئاً حين جاءت قائمة حقوق وإمتيازات الملك والعائلة المالكة أكبر بكثيراً جداً من قائمة حقوق المواطنين وحرياتهم، وكأن المدعي صار مدعى عليه، وكأن الضحية صار جلاداً.

الا نفهم من كل ذلك أن الوقت المقصود به هو الوقت الذي يعزز سلطان العائلة المالكة ويخفّض حقوق المواطن، فهو وقت ليس مجرد من متعلقاته وأغراضه الخاصة، فالوقت هنا يعني وقتاً منحازاً لصالح العائلة المالكة تكون فيه قادرة على إدارة دفة الاصلاح السياسي، رغم أن هذا المعنى مخيفاً وكأن فيه رسالة إحباط إخرى لأن هذا الوقت سينجب جنيناً اصلاحياً مشوّهاً هكذا نفهم من هذا الوقت، لأنه لو كان الاصلاح جوهرياً وشاملاً لما كانت العائلة المالكة بحاجة الى وقت، فهكذا عودتنا السيرة الملكية في قضية الاصلاح على وجه التحديد.

منذ نحو عام تقريباً وقّعت ثلة من هذا البلد على وثيقة أطلقوا عليها إسم (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) وقد حظيت الوثيقة بتأييد شعبي واسع النطاق، حتى أمكن القول بأنها تمثل نموذجاً في الاصلاح السياسي، وقد إلتقى ولي العهد الامير عبد الله آنذاك بعدد من الموقّعين على الوثيقة، ووعدهم بان الاصلاح السياسي وشيك جداً وأن قراراً بهذا سيصدر في الوقت المناسب. إن التأكيد على الوقت المناسب يبعث رسالة إحباط من أن الاصلاحات السياسية ستكون ضئيلة المعنى، وها نحن نكمل السنة بكل أثقالها دون أن يحدث شيء، شهدنا معها مسلسل الانهيارات في الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية ومازال الوقت ملكاً يحكمنا.

المثير للغرابة أن كلمة الوقت أصبحت جزءا من لغة التعامل اليومي بين السلطة والناس، فكلما أرادت السلطة تخدير دعاة الاصلاح غرزت في أذهانهم إبرة الوقت، بمضمون مفاده أن قرار الاصلاح جاهز ولكن الوقت لم يحن. ويتذكر البعض كيف أن الذكاء المفتعل يفعل فعلته المشؤومة، حين يسبق الأمير ـ المسؤول زوّاره للقول بأن ثمة قرارات للتو قد صدرت وأنها في طريقها الى التنفيذ الا أن هذا الفعل حال بينها وذاك الحدث أعاقها، ويزيد في الذكاء حين يلقي باللوم على زائريه لأنهم لم يساعدوا الحكومة في تنفيذ ما فيه مصلحتهم ورغبتهم.

اليوم، كل من يزور مجالس الأمراء يجابهونه بكلمة (الوقت المناسب) فهذه الكلمة المحببة للنفس باتت المهرب الوحيد من السؤال عن مصير الاصلاح السياسي في المملكة، فالكل في انتظار الوقت الذي لا يعلم أحد الا الله سبحانه وتعالى متى يحل.

الا أن الجديد في الأمر هذه المرة، أن الوقت لا يقصد به عدم آهلية السكان للإصلاح، ولا أن الدولة دينية وتطبّق تعاليم الاسلام وأحكام الشريعة، ولا لأن الإصلاح السياسي يجب أن يبدأ خطوة خطوة على طريقة السلحفاه، بل الوقت هذه المرة يعني إن ثمة انسداداً في أفق السلطة نفسها ولا تعرف كيفية الخروج من مآزق الأوقات الفائتة. بمعنى أن ثمة خوفاً حقيقياً من أن يأتي الاصلاح السياسي بزوال الدولة نفسها، وهذا ما تخشى العائلة المالكة منه، فالوقت هنا يعني بكلمة صريحة الخوف من المجهول، أو الخوف من المصير، فقد تفاقمت الأوضاع الى حد لم يعد الترقيع منقذاً للثوب. فقد بات الوضع الآن حسب تعبير الزميلة (شؤون سعودية) جاهزاً للتغيير ولكنه في ذات الوقت ناضجٌ للتفجير والانفلات، وهذا ما يقلق.

فثمة أخطار جديّة تحيق بالدولة نفسها بدءا من التقسيم والتدخل الاجنبي والحرب الأهلية وانتهاءً بالعنف الدموي وهذه، لا تترك مجالاً للسلطة كيما تتوسل بإصلاحات هامشية وجزئية، فالإصلاح إما أن يكون جوهرياً وشاملاً والا فإن المخاطر ستظل قائمة بل هي مرشحة للتفاقم.

فلأول مرة يفقد الوقت مفعوله السياسي، فالحكومة تستعمله في وقت ضائع وتدرك بأن لا سبيل الى اللجوء إليه الآن، فالزمام يوشك أن ينفلت، ولابد من تسوية عاجلة للصراع على السلطة من أجل الانتقال الى مرحلة الاصلاح السياسي بدون هواجس. يلزم القول هنا، بأن الصراع المحتدم داخل العائلة المالكة على الحصص يجعل الارادة السياسية العليا هزيلة في موضوع الاصلاح السياسي، فقد كثر المتصارعون والطامحون والطامعون داخل العائلة المالكة، فالأمراء الكبار يريدون ضمان حصصهم وحصص أبنائهم في السلطة قبل أن يتم التفكير في الانتقال الى الديمقراطية، رغم أن هذه المحاصصة ستخضع على أية حال للفحص والمساءلة الشعبية، وأن مقتضى الاصلاح السياسي هو نقل جزء كبير من السلطة الى الناس، والا فإن لا شيء تغير إذن.

الصفحة السابقة