ماوراء تغوّل الوهابية وتحالف نايف معها

فؤاد المشاط

قد يكون من سخرية القدر أن يأتي هلاك الدولة السعودية على يد الوهابية، أو أن تصبح أداة من أدوات إنهائها، أو الممهّد لنهايتها. وتكمن السخرية في حقيقة أن الوهابية ورموزها كانوا عنصراً أساسياً في بناء الدولة السعودية الحالية، وفي تشكيل هويتها، وفي إدارتها، وفي شرعنة الحكم القائم فيها؛ وفي الدفاع والحماية عن النظام السعودي ومصالح أهل نجد الذين ينتسب اليهم الوهابيون في السعودية.

عبثاً حاول حماة النظام الأميركيون، بعيد أحداث سبتمبر 2001، الفات نظر العائلة المالكة، بل والضغط عليها بقدر ما، أن تفك عرى ارتباطها بالوهابية. وعبثاً يحاول كثير من الكتاب السعوديين إفهام العائلة المالكة بأن الوهابية لم تعد معوّقاً لنمو الدولة الطبيعي فحسب، بل أداة فعّالة في تقويض نظام الحكم؛ وأنها ليست فقط حاضنة للعنف ضد النظام، ومنها ظهرت القاعدة وعلى أفكارها تربت قياداتها، بل أن طغيان الوهابية ومشايخها جلب لنظام الحكم الكره والمعارضة من قبل المواطنين الآخرين والذين يمثلون الأكثرية في السعودية، باعتباره حامياً وراعياً لها.

لأن نظام العائلة المالكة لا يبحث عن شرعية موسّعة، فإنه اكتفى بشرعنة دينية/ وهابية ناقصة ومحصورة بالوهابيين في محيط نجد، وهي شرعية دينية منتقصة من الأطراف الأخرى التي تمثل أكثرية البلاد، والتي لا ترى في آل سعود، حكاماً شرعيين وفق الموازين الدينية/ الإسلامية، ولا ترى في سياساتهم ما له علاقة بنهج الإسلام وحكمه وعدالته، كما لا ترى في مسلكهم الشخصي مسلك المسلم العادي، بل هم الى مسلك الفراعنة والمفسدين والمجاهرين بالفسق والفجور والخيلاء والإثرة والبطر أقرب.

ولأن نظام العائلة المالكة لا يبحث عن إصلاح سياسي يمنع احتكار السلطة، ولا إلى إصلاح ديني يخفف من غلواء الوهابية في الداخل والخارج، فلا بد والحال هذه أن ترفض العائلة المالكة إعلان حالة الفكاك عن الوهابية.

بعد أن تزايد العنف ذو المنشأ الوهابي، ليس هناك ما يشير الى تغيير في تفكير العائلة المالكة. فالأخيرة لاتزال بحاجة الى مشايخ الوهابية لتغطية سوءتها وأفعالها وشرعنة نظام حكمها؛ وهي بحاجة اليها كأداة وميليشيا قامعة على الصعيد الإجتماعي؛ كما أنها بحاجة الى الوهابية في معاركها الخارجية، وهناك آمال من الأمراء لاتزال معلّقة عليها لتنجز شيئاً، في وقت تخسر فيه العائلة المالكة كل يوم أرضاً ونفوذاً لصالح دول إقليمية.

بين الحاجة للوهابية والخوف منها، تكمن مشكلة العائلة المالكة.

كيف يمكن لنظام لازال يعتقد ويعمل على الإفادة من عنف الوهابية في الخارج أن يتخلّى عنها في الداخل؟! بل كيف يضمن أن لا يتحول عنفها الى الداخل وهو يرى شررها قد استطال؟ وكيف يمكن لنايف وهو يستخدم الوهابية في مواجهة دعوات الإصلاح وخصوم العائلة المالكة المحليين، أن يزهد فيها؟

إن الزهد في الوهابية، من منظار ولي العهد نايف، يعني أموراً كثيرة:

1 ـ إنه يعني إعادة هيكلة السلطة، وهيكلة مشروعية نظام حكم العائلة المالكة. فإذا ما ابتعدت الوهابية عن النظام، فإنه بحاجة الى شيء آخر غير السيف ليبرر بقاء العائلة على رأس السلطة. وهذا يعني أن لا بديل عن القيام بإصلاحات سياسية ليست واردة في الوقت الحالي في أذهان أمراء آل سعود، خاصة نايف. ويعني الزهد في الوهابية الحدّ من حالات الفساد المستشرية في كل جوانب الحياة السياسية والإجتماعية، وهذا أمرٌ لا يستطيع الأمراء أو لا يريدون القيام به. ثم، في حال غابت الوهابية، أو أُضعفت، هل سيمنح الشعب للعائلة المالكة شرعية الحكم، وعلى أيّ أساس؟

2 ـ إنه يعني انفراجاً اجتماعياً، وتنفساً للهواء الطلق بعد اختناق، ويعني انطلاق الحياة على طبيعتها، بدون سلطة دينية تدعم الإستبداد السياسي لآل سعود. إذ لا مبرر للإستبداد حينها والتحجج بالوهابية وشيوخها. وحينها ستخرج الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني الى حيث النور والحريّة. وستتوسع حرية التعبير، وحالات الإنتقاد، والمطالب والدعوات الى العدالة الإجتماعية. فهل العائلة المالكة مهيّئة لمثل هذا؟!

3 ـ وإنه يعني بأن العائلة المالكة وبعد أن تفقد عصفورها الوهابي الذي هو في اليد، أن عليها أن تبحث عن عصافير أخرى تنتظر على الشجرة، ليحلّوا محلّها. وهذه العصافير لن تمنح النظام ولاءً بلا مقابل ولا تنازلات منه على الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية، خاصة من تلك الفئات التي حرمت لعقود من حقوقها الأولية.

4 ـ وإنه يعني بأن العائلة المالكة بحاجة الى إعادة إنتاج لسياستها الخارجية، بلا مؤامرات أو هدر للأموال على دول او جماعات او مقابل أسلحة وما أشبه. الوهابية لن تكون حينها أداة داعمة للسياسة الخارجية السعودية. ونفوذ الوهابية اذا ما تقلّص في الداخل، أو انتهى أو أُضعف فإن مثيله سيحصل للدولة على الصعيد الخارجي، وهذا يعني أن تغييراً في الأدوات والإستراتيجيات لا بدّ أن يتم حتى يمكن تفادي الأضرار والبناء بشكل صحيح لسياسة خارجية مستقلّة.

بكلمة أخرى، فإن غياب الوهابية، أو انفكاك النظام عنها، ولو قليلاً، يعني تغييراً استراتيجياً في بنية الدولة وسياساتها المحليّة والخارجية.

هذا التغيير الراديكالي محفوف بالمخاطر، وغير مقبول حتى ولو كان غير خطير، كونه يبعثر سلطة العائلة المالكة، ويحدّ من استبدادها وفسادها واحتكارها. والأمراء ما تعودوا إلا أن يكونوا كالآلهة، يجري التسبيح بحمدهم ليل نهار. لا يقبل الأمراء اليوم أن يكونوا كأي حكام آخرين ـ حتى بالمقارنة مع حكام الخليج ـ فهم إن لم يكونوا آلهة فأنصاف آلهة تريد من الشعب أن يعبدها من دون الله.

وبناءً على حقيقة أن العائلة المالكة لن تفكر في الإنفكاك عن الوهابية، ولا في إضعافها الى حد إضعاف (الذات الأميرية او الملكية).. إذن كيف ستتعامل مخرجات العنف الوهابي مع النظام، وكيف سيكون وضع العائلة المالكة؟.

حسب التجربة التاريخية للعائلة المالكة، فإن العنف والخروج على النظام من قبل مخرجات الوهابية، آخذ بالإزدياد والحدّة معاً.

الفاصلة الزمنية بين ثورة الإخوان على مؤسس الدولة (1928-1930م) وبين ما تلاها من مخرج عنفي، كان أكثر من ثلاثة عقود. ففي منتصف الستينيات، ظهر منتج الوهابية العنفية من جديد، على شكل اشتباك بين قوى النظام الأمنية والمتشددين بشأن افتتاح اول محطة تلفزيون أسفرت عن جرحى واعتقالات وقتل لأحد الأمراء، وهو خالد بن مساعد بن عبدالعزيز آل سعود، ما ولّد بعد عشر سنوات، اغتيالاً للملك فيصل نفسه.

وبين حادثة الستينات وحادثة جهيمان، تقلّص الفرق في السنوات، الى أقل من عقدين من الزمن. حيث اضطرت العائلة المالكة الى تقليم أظافر المنتج الوهابي العنفي من جديد ونزع مخالبها، وجعلها سلسة الطاعة والإنقياد.

لكن ما لبث أن تقلّص الفارق الزمني مرّة أخرى في الحوادث التالية التي بدأت بعد احتلال الكويت عام 1991، على يد من سمّوا بالصحويين، أو شيوخ الصحوة، والتي بلغت الذروة فيها ما سمي بثورة بريدة، والإعتقالات التي سبقت وتلت تلك الحادثة.

ولم تمض سوى بضع سنوات حتى جاءت انفجارات العليا في الرياض المشهورة عام 1995م.

وبعدها بعام جاء انفجار الخبر عام 1996م، الذي حاولت العائلة المالكة ان تنسبه الى مواطنيها الشيعة ولازالت تعتقل عدداً منهم، في حين ان من وقف وراء ذلك هم منتجات الوهابية بعد حرب أفغانستان.

واستمر التدهور الأمني والخروج على النظام حتى قفز قفزة كبيرة بعد أحداث سبتمبر 2001م، وتزايدت حدّة العنف داخل السعودية على شكل تفجيرات واغتيالات ـ كما للأمير محمد بن نايف، تقول الحكومة أنها حصدت نحو 600 شخص، ولازال مسلسل العنف قائماً لم ينته بعد.

حاول النظام أن لا يقطع شعرة معاوية مع منتجات العنف الوهابي، وراح يفرّق ـ كما كانت طريقته القديمة ـ بين الوهابية التقليدية التي تنظر للتكفير والعنف ولكنها لا تستخدمه ضد النظام، وبين تلك التي تمارسه ضد الأمراء عبر القاعدة وغيرها.

ابتدع الأمير نايف هذه الطريقة معتقداً بصحّتها حتى الآن. فهو وإن رأى الضرب بيد من حديد على منتجات العنف الوهابية، فإنه زاد من تحالفه مع المصنع الفكري الذي خرّج جموع القتلة والإنتحاريين والمفتين بالعنف. حتى بات واضحاً وبصورة مضحكة، كيف أن وزير الداخلية، وولي العهد، والذي قتل وقبض على آلاف من البشر بدون محاكمات، هو نفسه الشخص الذي يحبّه الوهابيون التقليديون، ويرون فيه النموذج للحاكم الصالح، حتى أنهم أطلقوا عليه لقب (محيي السنّة)!

ولأن نايف لا يريد أن يضرب قاعدته الإجتماعية النجدية، صاغ برنامج المناصحة للمعتقلين العنفيين، وأطلق سراح الكثير منهم بعد أن أعلنوا توبتهم! وإذا ببعضهم على الأقل يعود الى العنف مرة أخرى، وبعضهم هاجر الى اليمن ليعلن عن تشكيل اتحاد تحت اسم قاعدة جزيرة العرب. وما عبدالله العسيري الذي حاول اغتيال نايف إلا منتجاً من منتجات برنامج المناصحة.

لقد ثبت أن العنف والوهابية لا ينفصمان. الفكر الوهابي يولّد العنف ويحضّ عليه. المشكلة أنه كان ـ ولصالح النظام ـ يطبّق على اعداء آل سعود، في معظم الحالات. إن تزايد حوادث العنف وتنوعها، واستمرارها لسنوات طويلة، يعني أن الوهابية تنطوي على عناصر عنف وخروج على النظام، وهذا الخروج أضعف بلا شك آل سعود، وهزّ أركانهم، بل أنه أفاد في توهينهم وتسقيطهم في أعين الناس.

وإذا لم تستطع مخرجات الوهابية من إسقاط النظام، فهي على الأقل قادرة على إضعافه، عبر الإغتيالات، والمصادمات، والتفجيرات. بهذا المعنى يمكن القول بأن الوهابية ـ وخلافاً لما يعتقده آل سعود ـ لا يمكن السيطرة عليها وعلى مخاطرها. ولم يبق إلا مراجعة ما إذا كانت مصلحة آل سعود تكمن في بقائها واستمرارها قوية، بأكثر من الخطر المحتمل منها، أم لا.

نحن نعتقد بأن الوهابية لا تخدم اليوم شرعية النظام، بل هي تشرعن العنف ضدّه. ونعتقد بأن الوهابية تحولت منذ زمن الى حاضنة للعنف والتشدد ضد المواطنين بحيث أن عداءهم لها تحوّل الى عداء للنظام السعودي نفسه.

وجود الوهابية قوية كما يفعل نايف الان، يعني توتيراً للداخل الإجتماعي، وزيادة في جرعات الكراهية والتكفير، وتفريخاً للعنف، وإضعافاً لهوية وطنيّة بالكاد لا تتمظهر إلا على خجل. ومن يدري، فقد تكون نهاية نظام آل سعود على يد الوهابيين أنفسهم، الذين سمّنهم آل سعود، وأغرقوهم بالفساد كما بالمال والإمتيازات.

الصفحة السابقة