المال السعودي منقذ صناعة السلاح الأميركي

هاشم عبد الستار

يقول العارفون أنه كلما إزدادت المداخيل المالية من بيع النفط كلما ازدادت وتيرة صفقات التسلّح وبأثمان عالية، وبطبيعة الحال سيصحب ذلك ويعقبه رشاوى فلكية. ولا علاقة للصفقات العسكرية بأوضاع أمنية أو جيوسياسية في المنطقة تدفع لهذا النوع من جنون التسلّح، فالأمر يتعلق بمعادلة بات الجميع يرددها: نحن ندفع بهذه الصفقات الجنونية ثمن حماية الولايات المتحدة للعرش السعودي من أموالنا ونفطنا. فقد أنفقت السعودية في الفترة ما بين 2007 ـ 2010 ما يقرب من 13.8 مليار دولار على الأسلحة الغربية، وبذلك تتصدر قائمة زبائن شركات التصنيع العسكري في العالم لأكثر من عقد.

أكّدت وحدة البحوث في الكونغرس الأميركي على أن مجلس التعاون الخليجي كان أكبر مشترٍ للأسلحة في العام 2010. وفي تقرير أعدّه ريتشارد جريميت، جاء بأن السعودية تلقّت أسلحة تقدّر بـ 1.2 مليار دولار من مزوّدين غربيين وأجانب في العام الماضي.

(المعلومات رسمية، وغير علنية، أرقام وزارة الدفاع الأميركية رصدت من قبل وكالة تعاون الأمن الدفاعي، ما لم يكن هناك مايشير الى غير ذلك)، حسب التقرير المعنون (مبيعات الأسلحة الأميركية: إتفاقيات مع إيصالات الى الزبائن الكبار، 2003 ـ2010) حسب قوله.

وحدة البحوث ذكرت بأن السعودية وقّعت أيضاً على صفقات الأسلحة الأكبر عدداً منذ 2007 ـ 2010، بطلبات تقدّر بـ 13.8 مليار دولار. يعقب الرياض، الإمارات العربية المتحدة بقيمة 10.4 مليار دولار ومصر، بقيمة 7.8 مليار دولار.

مصر أيضاً جاءت في المرتبة الثانية في طلبات استلام الأسلحة على مستوى العالم في العام 2010، بقيمة 830 مليون دولار. جار مصر، أي الكيان الاسرائيلي، كان في المرتبة الخامسة على القائمة، بقيمة 640 مليون دولار. كلا البلدين كانا المتلقّين القياديين للمساعدة العسكرية الأميركية.

لقد تمّ إعداد التقرير، المؤرّخ في 16 ديسمبر الماضي، من قبل أعضاء لجان الكونغرس. وذكرت وحدة البحوث في الكونغرس بأن السعودية ضاعفت من طلبات الأسلحة في العام 2007 بعد أن جاءت في المرتبة الثانية بعد مصر، بقيمة 4.5 مليار دولار، من 2003 وحتى 2006. في العام 2010، وقّعت مصر إتفاقيات دفاعية بما قيمته 1.8 مليار دولار.

وفي وقت لاحق، كتب جاسون يوكمان من صحيفة (واشنطن بوست) مقالة في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعنوان أن السعودية تبرم صفقة أسلحة بقيمة 30 مليار دولار مع الولايات المتحدة (وهي بالمناسبة المرحلة الأولى وهناك مرحلة أخرى بنفس القيمة يفترض أن تتم قريباً وسيتم الأعلان عنها في حينه).

يقول يوكمان بأن إدارة أوباما أعلنت عن صفقة أسلحة مع السعودية بقيمة 30 مليار دولار تقريباً، وهي صفقة ستقضي بإرسال 84 طائرة حربية من طراز إف 15، وأسلحة متنوعة للمملكة السعودية.

وقد أخطرت الإدارة الأميركية الكونغرس العام الماضي عن نيتها بيع طائرات متقدّمة للسعودية، حليف الولايات المتحدة الرئيسي في الشرق الأوسط والحائط الاستراتيجي ضد إيران. الاتفاقية النهائية ـ التي سوف تشمل أيضاً تحديث 70 طائرة موجودة لدى السعودية وكذلك ذخائر، وقطع غيار، وتدريب وصيانة ـ تأتي في وقت التوترات المتزايدة في منطقة الخليج.

وقال أندرو شابيرو، مساعد الوزير للشؤون السياسية ـ العسكرية، للصحافيين بأن (هذه الصفقة سوف تبعث برسالة قوية الى البلدان في المنطقة التي تلتزم الولايات المتحدة بالحفاظ على استقرارها في الخليج والشرق الأوسط الكبير).

السعودية، التي لديها أغلبية سنيّة مهيمنة وإيران، الشيعية، قد نافست على النفوذ الإقليمي لعقود، وأن إدارة أوباما قد سعت لتعزيز العلاقات الأمنية مع الرياض، بالرغم من الإختلافات حيال رد الفعل إزاء الربيع العربي.

في غضون ذلك، فإن طهران قد انخرطت بصورة متزايدة في استعراض القوة العسكرية مع واشنطن. فقد هدّدت إيران بإغلاق مضيق هرمز الحيوي إستراتيجياً في حال فرض الغرب حظراً نفطياً على إيران. الأسطول الخامس للبحرية الأميركية، الذي يقع بالقرب من البحرين، ردّ بالتحذير ضد أي تشويش على حركة البواخر على طول الخط الملاحي الدولي.

وقال شابيرو (من الواضح، فإن واحدة من التهديدات التي تواجه السعوديين، وكذلك بلدان أخرى في المنطقة ـ هي إيران)، وأضاف (ولكن..ليس ذلك موجّه بمفرده إلى إيران. وإنما موجّه مباشرة الى تلبية الحاجات الدفاعية لشريكنا، السعودية).

إن الملاحظة الأولية لبيع الأسلحة الى السعودية، في العام 2010، أثارت قلقاً حول الدلالات الأمنية بالنسبة لإسرائيل. وقد سعى مسؤولون أميركيون لتهدئة تلك المخاوف، وقالوا بأن الصفقة لن تخفّض من التفوّق العسكري لإسرائيل.

في الإعلان عن استكمال الصفقة، فإن البيت الأبيض يراعي المنافع المحلية، بالقول في بيان، بناء على خبراء الصناعة العسكرية، إنها (سوف تقدّم الدعم لأكثر من 50 ألف وظيفة أميركية).

لفتت بوينغ، التي تنتج طائرات إف 15، الى أن لها تاريخاً طويلاً مع السعوديين، وقد أهدت طائرة دي سي ـ3 داكوتا الى الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة، في العام 1945.

ويبقى السؤال الدائم، مالهدف من جنون التسلح، ولماذا يصبح الإعلان عن صفقات التسلّح مادة إثارة إعلامية، بحيث يتساءل المراقبون من غير المستفيدين من بيع أو شراء تلك الأسلحة، لمن يشتري آل سعود السلاح، وأين يتم تخزينه، ومتى سيصبح قابلاً للاستعمال، وضد من، وماهي قدرة المؤسسة العسكرية على هضم هذه الأسلحة. والأخطر من ذلك، لماذا يتم شراء أسلحة غير متطورة، بخلاف ما يشاع عن كونها متقدّمة إن لم يكن الإدّعاء بأنها الأحدث في الصناعة العسكرية الأميركية. فقد أعلن الرئيس جورج بوش الأب في 11 سبتمبر 1991 (ياللمفارقة؟) عن صفقة طائرات إف ـ15 مع السعودية بقيمة 9 مليارات دولارات.

ليست الصفقات بأحجام صغيرة، فهي بالمليارات، وأن ما يشتريه آل سعود من سلاح، بما في ذلك الطائرات الحربية، هو نفسه ما اشتروه قبل عشرين عاماً، حين تم توقيع صفقة بقيمة 9 مليارات دولارات، أي سنة 1992، وكانت الفضيحة آنذاك أن القيمة الحقيقية للصفقة 5 مليارات دولار بينما حجم العمولات قارب 4 مليار دولار تحت عناوين مختلفة بما فيها الخدمات الأرضية. وقد كشف أحد موظفي الشركات الأميركية في مجال الصناعة العسكرية يدعى دولي عن أسرار خطيرة عبر دعوى قضائية قدّمت لمحكمة كولومبيا بولاية كولومبيا الأميركية في الرابع من أكتوبر سنة 1991. وشملت الدعوة أسراراً ومعلومات معقّدة عن الشركات الضالعة في فضائح الرشاوى والعمولات من بينها شركة سيكورسكي ايركرافت، وهي واحدة من صانعي طائرات الهليوكبتر التجارية والعسكرية في العالم (وقد نشرت مجلة الجزيرة العربية الناطقة باسم المعارضة السعودية في التسعينيات في عددها 23 لشهر ديسمبر 1992، نص الدعوى تحت عنوان (القصة الكاملة لعمولات صفقات التسلّح). ونسأل الآن: ماهو مصير الدعوى؟

ما يدهش حقاً أن ضخامة الأرقام في أثمان الأسلحة لا ينعكس عسكرياً في الداخل ولا في المنطقة، فمازالت مملكة آل سعود رهينة في أمنها واستقرارها ووجودها الى الحماية الأميركية، وأن صفقات التسلح الفلكية لا تعني في الميزان العسكري أي شيء، فقد بلغ حجم المشتريات العسكرية على مدى عقود ثلاثة ما يقرب من 700 مليار دولار، ولكن ليس هناك ما يشير الى أن المملكة السعودية أصبحت قادرة بمفردها على حماية أمنها وحدودها، وإن السؤال الذي طرح عشية دخول قوات صدام حسين الى الكويت في الثاني من آب (أغسطس) 1990 حيال مصير الأسلحة المكدّسة في مخازن الجيش السعودي، يعاد طرحه مجدداً وقت الإعلان عن صفقة جديدة.

الجديد في الصفقات الجديدة مع الولايات المتحدة أو مع بريطانيا أو ألمانيا هو غياب الإعتراض الإسرائيلي، وكأنما بات محسوماً الآن بالنسبة للإسرائيليين أن الأسلحة التي تشتريها السعودية ليست موجّهة ولن توجّه إلى الكيان الإسرائيلي في أي يوم. ورغم ذلك، فإن طبيعة الأسلحة التي تباع إلى المملكة السعودية من النوع القديم الذي فقد قدرته على (التخويف)، فطائرات إف 15 التي بيعت للسعودية في بداية التسعينيات نفسها تباع بعد عقدين إليها..فماذا ستشكّل من خطر في مقابل باقي الـ (F’s)، وكذا الحال بالنسبة لباقي الأسلحة (الخردة). وحتى الصفقة التي أعلن عنها العام 2008، بين الولايات المتحدة والسعودية بقيمة 20 مليار دولار، واشتملت على طائرات مقاتلة متطوّرة وقنابل ذكية وسفن حربية وصواريخ من مختلف الأنواع، ولكنها في الحقيقة ضجّة أكثر من واقع. من اللافت، أن صفقة مع روسيّة بقيمة 2.2 مليار دولار جرى تمريرها وتشمل دبابات ومدرّعات وصواريخ أرض جو، ولكن ما كشف لاحقاً يلفت إلى جانب خفي وهي أن الصفقة لم تكن بهدف تعزيز القدرات العسكرية السعودية وإنما هي “رشوة” سعودية لروسيا لتبني سياسة متشدّدة مع طهران. وقد فعلت الرياض الشيء ذاته ولكن بأشكال مختلفة مع بكين وتفعل اليوم مع طوكيو لمواجهة المشروع النووي الإيراني.

نعم، جرى الحديث في فترة سابقة عن صفقة تاريخة بقيمة 90 مليار دولار بين الرياض وواشنطن، وتستهدف تطوير الأسطول البحري السعودي، بعد أن كانت واشنطن قد تركت هذا الجانب من البناء العسكري السعودي للفرنسيين كإرضاء لهم في مقابل التعاون في ملفات المنطقة، في ظل تراجع الدور البريطاني، ولكن عادت واشنطن لتستأثر مجدداً بكل الكعة العسكرية السعودية، وبإمكانها الإدعاء أن المناورات البحرية الإيرانية في الخليج وعلى مقربة من مضيق هرمز وفي ظل تهديدات إيرانية بإغلاقه أن الوقت بات مناسباً لتسريع وتيرة بناء الإسطول البحري السعودي.

ثمة جوانب مغفولة دون ريب في ظل حمى التسلّح، والسباق العسكري في المنطقة التي تجني الولايات المتحدة ثمارها من خلال إبقاء حالة التوتر في المنطقة. إن الاقبال غير المسبوق من قبل آل سعود على التسلّح المفرط، بينما تقاسي الغالبية العظمى من الشعب ويلات الفقر، والبطالة، وتردي الخدمات، فضلاً عن الإحساس المتعاظم بالخوف على الحاضر والمستقبل، في المقابل تتصرف العائلة المالكة وكأنها معنية بكسب رضا الحلفاء الكبار، الموكولين بحماية العرش، وبالتالي (شراء) مواقف سياسية مطلوبة في ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة، وإن تطلب ذلك إبرام صفقات بأثمان خيالية.

إن هذه المعادلة القائمة على أساس شراء الحماية مقابل الصفقات العسكرية باتت تثير سخط الشعب، لأنها تتم على حساب رفاههم، واحتياجاتهم الأساسية. ومن المفارقات المدهشة، أن كل المليارات التي تدفعها السعودية وغيرها من بلدان الخليج للولايات المتحدة وغيرها من بلدان الغرب إنما تستهدف في أحد أهم جوانبها مساعدة هذه البلدان على تجاوز أزماتها الاقتصادية الخانقة التي تهدد حالياً بانهيارها الكامل، وبالتالي بانهيار ما يرتبط بها من أنظمة حليفة كالسعودية.

بطبيعة الحال، تبقى الذريعة الدائمة بالنسبة للسعودية في جنونها نحو عقد صفقات التسلّح الفلكية هي (الخطر الإيراني)، وهي نفس الذريعة التي تستخدمها الولايات المتحدة لإقناع الكونغرس والرأي العام الأميركي والعالمي، ولكن ما لا يراد البوح به هو حجم العمولات الهائلة التي يتقضاها أصحاب القرار في البلدان المستوردة على ما يبرمونه من صفقات السلاح.

الصفحة السابقة