القطيف تشتعل، والشهداء يتساقطون

رهان العنف، قد يشعل آبار النفط في السعودية

فؤاد المشاط

خلال أقل من أربعة أسابيع، استشهد 3 مواطنين برصاص رجال الأمن في القطيف والعوامية، شرقي السعودية. الأول عصام ابو عبدالله (21 عاماً) اصيب بطلق ناري في موقع قاتل في 13 يناير الماضي؛ ثم وفي 9 فبراير استشهد في القطيف الشاب منير الميداني (21 عاماً) بطلق ناري في القلب تماماً، واستشهد شاب ثالث في 10 من فبراير الجاري وهو زهير السعيد (22 عاماً) من العوامية، بطلق ناري أسفل الصدر. وإضافة الى هؤلاء جرح نحو 20 مواطناً بإطلاق النار من قبل قوات الأمن السعودية، عددٌ منهم جراحاته خطيرة، وظهرت معلومات لم تتأكد باستشهاد شابين آخرين.

تبدو القطيف بمدنها وقراها أنها بعيدة عن الهدوء، فقد بدأت المظاهرات والمسيرات في تلك المنطقة في أواخر فبراير من العام الماضي 2011، ولا تزال مستمرة بعد ما يقرب من عام على بدايتها، تأثراً بالربيع العربي، حيث المشتركات واضحة من جهة المشاركين، ومن جهة الأهداف، كما من جهة الوسائل.

وبالرغم من ان السلطة السعودية تحاول أن تصنّف الحراك السياسي في المنطقة الشرقية السعودية على أنه حراك معزول عما يجري في المملكة نفسها، وكأنه ليس تمظهراً لاحتجاج ضد سياسات النظام السعودي، فإن ذلك النظام حريص أكثر الحرص على عدم ربطه ليس فقط بالمشكل الداخلي السياسي والإجتماعي الذي يتحمل هو مسؤوليته، بل وأيضاً عدم ربطه بالربيع العربي، ومن ثمّ إعطاءه صفة طائفية معزولة ومحدودة، وعزله عن النسق العام حتى لا يلقى التأييد الداخلي والخارجي.

الحكومة السعودية تصنف الحراك على أنه حراك موجه من الخارج، وتريد ربطه تعسّفاً لا بالربيع العربي، بل بالصراع السياسي الإقليمي بين الرياض وأميركا وحلفائهما من جهة، وبين إيران وحلفائها من جهة أخرى. لقد اتهم النظام السعودي المتظاهرين بأنهم مجرد أدوات عميلة في يد إيران؛ وأن حراك المتظاهرين في القطيف ـ المدينة وما يحيط بها من مدن وقرى ـ جاء في سياق الأدوات الإيرانية، حتى أن وسائل الإعلام السعودية تحدثت عن أن تلك المسيرات والمظاهرات المتواصلة إنما جاءت للتخفيف عن (نظام الأسد)!

هذا مع العلم أن الحراك القطيفي الأخير بدأ قبل التحرك السوري على الأرض؛ بل وأكثر من ذلك، فإنه يمكن القول بأن ما يجري في القطيف وتوابعها إنما هو استمرار متراكم لحراك سياسي متطور منذ عقود. وإلاّ، ماذا عن مظاهرات نفس المنطقة عام 2001، و2003 تضامناً مع فلسطين وانتفاضتها؟ وماذا عن تظاهرات نفس المنطقة عام 2008 احتجاجاً على ضرب غزّة؟ بل وماذا عن مظاهرات 1979 حيث ووجهت بالرصاص الغاشم ما أدّى الى استشهاد نحو 40 مواطناً وجرح مائتين، واعتقال الآلاف، مع أن بعضهم أصيب برصاص قذف به من طائرات الهيلوكبتر. بهذا يكون النظام السعودي سابقاً سوريا حتى فيما يتعلق بما جرى في حماة عام 1982.

التأكيد السعودي على أن الحراك في المنطقة الشرقية مرتبط بأجندات أقليمية، يتوازى معه تصنيفه الطائفي، فالطائفية التي يشعلها النظام على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي هدفها أمران:

ـ الأول تحصين النظام من جهة اشغال المواطنين بمعارك طائفية في الخارج كي لا يلتفتوا الى الداخل، بحيث لا تنتقل اشعاعات الربيع العربي الى الداخل، ويكون النظام بذلك محصّناً أولاً. وثانياً بحيث يستطيع النظام استثمار المناخ الطائفي في محاصرة الخصوم والمنافسين في معركة لا تعرف أخلاقاً ولا مبادئ، ونقصد بها المعركة مع ايران، أي تحويل صراع السعودية مع ايران من صراع سياسي الى صراع ديني طائفي وعنصري أيضاً.

ـ الثاني، ويتعلق بتحصين النظام داخلياً، ومنع الحراك السياسي في القطيف من أن يحتذى في المناطق الأخرى، ذلك ان التأكيد على أن المظاهرات في القطيف والإحتجاجات ضد النظام هناك، إنما هي لتخريب الأمن، وتقوم بها عناصر عميلة، وأن من يقوم بذلك هم (مجرد أقليّة) وأن (الأكثرية) لم تتحرك.. كل هذا، يستهدف تحجيم ذلك الحراك غير المسبوق في حجمه واستمراره، ومنع التعاطف معه، وعزله، وبالتالي ضربه بالعنف والقسوة، برضا أكثر الفئات تطيّفاً. ليست القضية مجرد تصغير أهمية المواطنين الشيعة وتحركهم، بل المهم أكثر هو اعطاء الإنطباع للعالم بأن ما يجري مجرد أمر محدود، لا أثر له ولا أهمية، ولا يجب أن تسلّط الأضواء عليه، خاصة وأنه ـ من وجهة النظر الرسمية ـ تحرك مدسوس من الخارج.

السلطات السعودية تحاول أن تلقي باللائمة على الخارج، وعلى المواطنين المحتجين، وهي بهذا لا تريد الإعتراف بالمسؤولية عما يجري، وأن سياساتها وقمعها وفشلها في إدارة شؤون البلاد لها الدور الأول والأخير في اعتراض المواطنين على سلطة الأمراء. إننا بإزاء نظام لا يريد أن يعترف بمسؤولية أخطائه وجرائمه، ويريد من العالم أن يصدق بأن الخارج مسؤول عما يجري، ليظهر وكأن نظام آل سعود مجرد ضحيّة لمؤامرة خارجية تستدعي التعاطف الداخلي كما تعاطف الحلفاء الأميركيين والغربيين.

قلنا ان سمات الحراك السياسي المعارض في المنطقة الشرقية لا تختلف عما شاهدناه في بلدان الربيع العربي الأخرى. فمن جهة التوقيت قام الحراك الجديد بتأثير مما جرى في مصر وتونس والبحرين واليمن وغيرها. لماذا لم يحدث مثل هذا الحراك قبل الربيع العربي؟! واضحٌ هنا التأثير والتوقيت.

من جهة المشاركين، يمكننا ملاحظة أن الشباب (معظمهم في العشرينيات من العمر) هم من يقف وراء التظاهرات المعارضة لنظام آل سعود. كل من سقط من الشهداء بالرصاص (8 أشخاص) أو داخل المعتقلات (الشهيد العوجان) هم في العشرينيات من أعمارهم، بل في بداية العشرينيات. أيضاً فإن قائمة المطلوبين الـ 23 في هذا الحراك والتي أعلنت عنها الحكومة السعودية لتوحي للعالم بأن من يتظاهرون هم إرهابيون.. هم في العشرينيات من أعمارهم أيضاً. وقد انعكس دور الشباب الطاغي في الحراك السياسي، شأنه في شأن البلدان العربية الأخرى، على نوعية الأساليب النضالية، فيما يتعلق باستخدام تكنولوجيا التواصل الإجتماعي؛ حيث نلاحظ استخدام لقطات الفيديو على الفيس بوك واليوتيوب، إضافة الى استخدام تويتر الذي بدا وكأنه أخذ له مكانة أكبر مما أخذه في الثورات العربية الأخرى.

تكتيكات المواجهات مع قوات الأمن، استخدام المتوفر من وسائل الإعلام، الوسائل الأمنية للمتظاهرين، كلها تكاد تكون متشابهة بل ومستوحاة مما جرى في بلدان الربيع العربي الأخرى. في حين ان النظام لم يغير من تكتيكاته، إنه الرصاص فحسب. هو لم يكلف نفسه حتى باستخدام المياه الحارة أو قنابل الغاز، أو حتى الرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين، حتى أن شيئاً من السخرية ظهر بينهم يفيد بأن المواطنين يجب أن يجمعوا تبرعات مالية للحكومة حتى تشتري قنابل غاز!

اعتماد السلطات الأمنية على الرصاص وحده في مواجهة المظاهرات، دون النظر الى جذور المشكلة السياسية والإجتماعية أمرٌ يمكن إداركه بسهولة. فآل سعود لا يريدون أن يؤسسوا لبقية المناطق السعودية بأنهم خضعوا وتنازلوا تحت تأثير المظاهرات والضغط الشعبي. ومن هنا يبدو الخيار الأمني هو الخيار الوحيد لدى النظام؛ وما يعزز ذلك هو وجود سلطة عليا في الدولة تؤكد هذا الخيار، ونعني بها سلطة ولي العهد، وزير الداخلية نايف، حيث لوحظ أن التشدد الداخلي كما في السياسة الخارجية، وبمستويات أعلى مما سبق، هما العنصر الأبرز في ملامح عهد نايف.

وإذا كان هذا التحليل صحيحاً؛ فإن بانتظار المواطنين المزيد من القمع والعنف والدم، ولكن الى أي حد يمكن الإيغال في ذلك، وقد قدّمت نصائح لمحمد بن فهد، أمير الشرقية ـ الذي يكرهه مواطنوها ويطالبون بتنحيته ـ من قبل بعض وجهاء الشيعة بأن لا يسرف في الدم، وإلا انقلب الأمر ضدّه. ولكن نظاماً استعلائياً مثل نظام آل سعود، لا يمكنه إلا الإعتماد على العضلة وحدها.

هناك أمران يمنعان من وصول العنف الرسمي الى حدوده القصوى، فرغم رغبة آل سعود وتدريب قواتهم وحشدها على أسس طائفية وسياسية بغيضة تبيح قتل المواطنين، إلا أن الحكومة السعودية، ومن ورائها أمريكا، تدرك حقيقة أن المواطنين الشيعة يعيشون على بحيرات النفط، وأن أنابيبه وخطوط الإتصال مع منشآته هي في متناول المواطنين المهمّشين والمحرومين، وإن زيادة القتل قد تؤدي الى تفجير الوضع وجرّ العناصر غير قابلة للضبط باتجاه تفجير بعض تلك الأنابيب، ما يحول الموضوع المحلي السياسي الى مشكلة دولية، حين تتأثر إمدادات النفط حتى ولو بالإشاعات، فضلاً عن وقوع أحداث مؤثرة تؤدي الى خفض الإنتاج، أو حتى مجرد القلق بشأن الإمدادات.

هذه أمر، أما الأمر الآخر فيتعلق بدور الإعلام البديل في فضح الممارسات الحكومية. فلقد قام النظام من قبل بقتل العشرات بالرصاص الحي في مظاهرات سلمية؛ ولكن العالم لم يتنبه لها في حينه، ولم تكن وسائل الإتصال متوافرة. اليوم كل مواطن لديه كاميرا تصوّر؛ ولديه حساب في تويتر أو فيس بوك أو يوتيوب يستطيع من خلاله إبلاغ العالم بما يحدث؛ ثم إن هناك قنوات إعلامية فضائية تنشر الأخبار، حتى تلك التي تمتلكها دول حليفة (وإن كان بحدود). الإعلام يحدّ من اندفاعة الأمراء نحو العنف الأعمى. أو هكذا هو التحليل اليوم، ولكن قد يحدث العكس، فهذا النظام لديه مخزون من العنف والإستعلاء لم ينفذ بعد، وهو لم يقرر أن يترجل وينظر الى الأزمة بعيون واقعية. الأزمة التي نقصدها هي أزمة النظام السياسي، واحتكار السلطة والثروة، وانتشار الفساد والقمع، وغياب القانون.

ما يريده المواطنون جميعاً هو دولة حرّة، ومشاركة في صناعة القرار السياسي، وقدراً من الحياة الكريمة لم تتوفر لمعظمهم حتى الآن رغم التريليونات من الريالات التي ينهبها الأمراء وحاشيتهم.

الصفحة السابقة