الدولة العاقر

جفَّت الأقلام، وبُحَّت الأصوات، وبلغت القلوب الحناجر للمطالبة بما يصطلح عليه العراقيون هذه الأيام (ترشيق) الحكومة، بسبب حالة الترهّل التي أعاقت حركة الدولة، ومواكبة التطوّرات المتسارعة من قبل الطبقة الحاكمة المعلولة..

كان يقال لنا بأن الحكمة تقترن بتقدّم السن، ولكن ما نشاهده الآن أن عامل السن أطاح الحكمة، وذهب بالعقل، وعطّل المصالح العمومية، ومن سوء حظ الناس العيش على نبض الملك أو كبار الأمراء الممسكين بمفاصل الدولة. واليوم بتنا أمام ظاهرة خطيرة تتمثل في أن التنافس على السلطة يقوم على مبدأ تعطيل الفعل وليس الفعل المغاير، فقد تواطؤا جميعاً وبفعل الأمراض المستعصية التي يعانوا منها على أن يمارسوا لعبتهم المفضّلة في التنافس ولكن بطريقة تتناسب وأمراضهم..

ذلك كله يعرفه الناس، وقد سئموا من طريقة الملك والأمراء الكبار في تعطيل مصالح البلاد والعباد، ولكن السؤال الذي لابد من طرحه: هل يعقل أن بلداً بهذا الحجم ليس فيها الا من هم أقرب الى فصيلة الديناصورات؟ كان مشهداً مفجعاً بحق أن الملك السابق، فهد يحكم البلاد قرابة العقد الكامل وهو (خارج التغطية)، ومن على كرسي متحرّك، حتى بلغ استخفاف أحد الشعراء المتزلّفين بعقول الناس بأن خفّض الجلطة الدماغية التي أقعدت بالملك جسدياً وعقلياً الى مجرد فحوصات، ومن بؤسنا أن تصبح قصيدة التزّلف أغنية لأحد مشاهير الغناء في هذا البلد، فيقول:

الله أكبر يا غالي يا مليك البلاد..عسى نتائج فحوصاتك حسب الأمل والمراد

هل يعقل ذلك؟ ونحمد الله رب العزّة والجلالة أن تلك القصيدة لم تتحوّل الى معلّقة، والأغنية الى نشيد وطني..

عاشت البلاد مدة عقد كامل حالة جمود لأن هناك في الجناح السديري من رفض أن يعزل الملك لعدم قدرته على القيام بولاية الأمر، فثّبتوا بذلك قاعدة بأن العقل ليس من شروط الحكم، فقد يفقد الملك كل شروط القوامة ويبقى على العرش..وهاهو الملك عبد الله يحكم البلاد بطريقة مماثلة كتلك التي حكم بها من سبقه. لماذا كل ذلك يا.. أستغفر الله وأتوب إليه.

مسؤولون عرب وأجانب جاءوا الى البلاد مؤخراً، فأبلغهم الأمراء بأن زيارة الملك غير ممكنة بسبب أوضاعه الصحية وهناك آخرون يمكن اللقاء بهم، ويتوقف أيضاً على أوضاعهم الصحية..هل نحن في دولة أم مستشفى الأمراض المستعصية؟

تسمع في الأخبار أن الملك سيخضع لعملية جراحية في ظهره، وما إن يخرج، وإذا بالخبر التالي هو خضوع وزير الدفاع الجديد الأمير سلمان الى عملية في القلب، وبعدها نقرأ عن الأمير نايف، ولي العهد ووزير الداخلية، وقد دخل مستشفى لإجراء عملية فتح شرايين..حتى باتت حال الدولة على هذا النحو، فبعد أن كانت تصمّ آذاننا أخبار : (إستقبل، وودّع، وبعث ببرقية تهنئة)، تبدّل الحال اليوم الى (إجراء فحوصات، خضع لعملية جراحية، رحلة استجمام)..

تسأل عن السبب الذي يمنع من نقل السلطة الى من هو قادر على الإضطلاع بمهامها، فيأتي الجواب: إن تقاليد انتقال السلطة تستوجب توافقاً عائلياً يمنع من حدوث تشويش ويضمن اللحمة الداخلية. يا أبناء..إلى متى وهذه الاجابات المعلولة تقدّم لنا لتبرير هذا الجمود الفاحش، فقد تعاظم الفساد، ونهبت الأموال العامة، وتعطّلت مصالح العباد، حتى باتت مشاهد الفقر، والعاطلين عن العمل، والمتسوّلين في بلد أكبر دولة نفطية تجوب العالم الافتراضي (خشوا الفضيحة فأصدروا تعميماً للصحف المحلية بعدم الحديث عن التسوّل بعد أن عرض شخص إبنه للبيع لتلبية حاجات إسرته)..إف لكم ولما تقترفون من نهب وفساد..و(تشبيك)!

صارت أمراض الملك وكبار الأمراء حديث الناس في الداخل والخارج، وكأن هذا البلد لم يعد فيه سوى من عقمت النساء عن أن تلد مثله. فهل هذا الشعب عاجز عن أن ينجب رجالاً أكفّاء يضطلعون بمهمة إدارة دفة الدولة، وهل لا بد أن يكون ممن يسطو على السلطة قهراً، ويحكمها بالسيف، ولابد لمن يريد أن يحكم أن يستعمل ذات الوسيلة القهرية. هل هي دولة أم مزرعة، وهل هو إسلام أم جاهلية وحروب قبائل وسيوف وسبي..و..و؟!

لماذا نحتاج الى عشرات السنين بانتظار موت ملك وقدوم آخر..مع أنهم في النهب، والسلب، والتنكيل، والإقصاء سواء، بل لماذا الإصرار على أن يتم تصوير هذا الشعب وكأنه كالمرأة العاقر التي لا تلد من لديه قدرة على مزاولة الحكم، ولماذا يدير هؤلاء المعاقون شؤون العامة من كراسٍ متحرّكة، أو غرف العناية المكثّفة..

ولابد من كلمة الى الناس أيضاً: إن استمراء أو حتى الإذعان لنمط الحكم السائد، بانتظار أن يتغيّر الحال برحيل ملك وقدوم آخر لن يتحقق، بل يزيد العائلة المالكة إصراراً على المضي على هذا النهج المشين، وقد يأتي يوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أن يوكل أمر هذا البلد الى طفل لم يبلغ الحلم، وقد حاول الملك فهد ذات لقاء مع لجنة تابعة للخارجية الأميركية وأخرى تابعة للكونغرس، حين طلب منهم دعم قراره بتعيين إبنه الطفل المدلل عبد العزيز ولياً للعهد، ولولا أن الأميركيين أبلغوه بأن هذا الأمر يجب تداوله داخل العائلة المالكة وحصول توافق بشأنه لكنا اليوم تحت حكم الطفل الفاجعة.. ولاشك أن من قرأ التغريدات المفجعة لهذا الطفل المدلّل يدرك شكل الدولة تحت حكمه.

أمام هذا الشعب خياران: إما أن يقبل بمصادرة إرادته عبر توارث المرضى من ديناصورات العائلة المالكة أو التمرّد على هذا النهج و(ترشيق) الدولة عبر اختيار حكومة من الشعب وإلى الشعب، وليس للعائلة المالكة!

الصفحة السابقة