الدولة الفارطة

كل ما كان يقال عن سمات الدولة السعودية سابقاً بات اليوم موضع ريب، لأن كل شيء فيها يتحوّل، بل من يراقب أوضاعها الداخلية عن كثب يجد بأنها تشبه الى حد كبير ماكينة ضخمة تتفكك أجزاؤها قطعة قطعة، وأن السيطرة على التفكك بات مستحيلاً، وأن ثمة حارساً على الماكينة يدير ظهره لهذه الحقيقة ويوزّع ابتساماته تارة ليوهم الآخرين بأن الوضع مستّتب ومريح وليس هناك ما يدعو للقلق، وتارة يكشّر عن أنيابه ليخيّل للآخرين بأنه مازال في كامل عافيته الأمنية والعسكرية ولا يأبه بكل ما يحيط به من أخطار أو تهديدات، وتارة ثالثة ينسب ما يحدث في الماكينة إلى عوامل خارجية، أي ليست بنيوية، أو بسبب خضوع بعض أجزاء الماكينة لإملاءات أجنبية..والحال أن الماكينة أصبحت أسيرة حالين: قصورها، حيث لم تعد صالحة لأن تحرّك هذا الجسم الضخم، أو بسبب العطب الجوهري فيه بحيث حتى لو تحرّكت فإنها تتحرّك ولكن بكفاءة متدنية للغاية، ما يجعل استبدالها ضرورة لا بدّ منها.

حاول الملك وكبار الأمراء أن يعطّلوا حركة التاريخ، منذ انطلاقة الربيع العربي كأحد الاستجابات الطبيعية والموضوعية لها، عبر شراء صمت الناس بـ (تقديمات إجتماعية) بقيمة 36 مليار دولار، مشفوعة بالتلويح باستعمال القمع ضد أي تحرّكات احتجاجية، وعبر فتاوى وخطب دينية للتهويل على الناس والحيلولة دون الخروج في تظاهرات شعبية تطيح في نهاية المطاف بالنظام..

في حقيقة الأمر، أن التدابير كافة لم تترك تأثيرات حاسمة، فقد انطلقت حركة الإحتجاج الشعبي من كل المكوّنات السكانية ولكن بأشكال شتى: تظاهرات، اعتصامات، حملات الكترونية، تجمهرات..

الدولة لم تعد متماسكة سياسياً وليس جيوسياسياً، لأن التفكّك المقصود هنا سياسي رغم أن مثل هذا التفكّك يحمل في طيّاته أخطار تفكّك أخرى، خصوصاً في الدول التي لم تقم على أسس وطنية، أو التي فشلت فيها السلطة في الانتقال بالدولة من مجرد إطار كبير لمزاولة السلطة الى دولة وطنية تجمع بداخلها كل المكوّنات السكانية التي ألحقت اليها عن طريق القوة أو عن طريق التعاهد.. اليوم هناك حالة من التصدّع في صورة الدولة، لارتباطها بصورة السلطة التي تديرها، فالناس تعبّر في مناطق لم تألف التظاهرات واحتجاجات الشارع على طريقة القطيف والعوامية عن احتجاجاتها ضد سياسات، مؤسسات، ورموز مرتبطة بالدولة في عملية تشبه بدحرجة البراميل باتجاه الوصول الى المحظور السياسي..

ماهو موضع احترام وتقدير المواطنين سواء كان قانوناً، مؤسسة، شخصية، بات قليلاً وإن وجد فهو في طريقه لأن يكون عكس ذلك، فالمواطن الذي قطع النظام السعودي كل قنوات التعبير أمامه، وسدّ كل منافذ الكلام في وجهه كيما يسمع صوته ورأيه، يلجأ اليوم الى وسائل أخرى متاحة خارج الحدود أو يتولى بنفسه ابتكارها مثل البرامج التي يقوم بها الشباب لعرض مشاكل الناس على اليوتيوب، وهذا يعني إنفصال كثير من الناس عن مجال تأثير خطاب الدولة ودعايتها، وحتى رموزها السياسيين والدينيين..

الذين هوّلوا على المواطنين بأن التظاهر حرام، ولا يجوز (الخروج على ولاة الأمر) يفقدون هم أيضاً تأثيرهم بصورة تدريجية، لا ننسى أن هناك مشايخ كثر كفّوا عن ترديد هذه العبارات، على أساس أنهم إما باتوا من المتطلّعين نحو دولة ديمقراطية، أي الاصطفاف مع مطالب الناس العادلة، أو أنهم لم يعد قادرين على تمرير خطاب أيديولوجي شمولي في زمن الربيع العربي الذي لا يحتمل هذا النوع من الأفكار الظلامية..

ماهو لافت أيضاً، أن العائلة المالكة تفقد اليوم حلفاء أكثر فيما تزداد مساحة الخصوم، وحديثنا ليس عن الداخل الذي بدأت مساحة الخصوم تتّسع على مستوى الشعوب والدول، خصوصاً بعد تساقط رؤوس كانت مصنّفة في خانة الحلفاء مثل رئيس تونس السابق زين العابدين بن علي أو رئيس مصر السابق حسني مبارك، ولاشك أن العراق ليس حليفاً لا شعباً ولا حكومة، وأن اليمن مازال في حالة غير محسومة على أساس أن ثورة الشعب اليمني متواصلة وهناك قطاع كبير منه يرفض المبادرة الخليجية ويتمسك بشعارته في الدولة الديمقراطية الكاملة..

الدولة تصنع خصوماً، رغم أن الأمراء ضالعون في أكثر من بلد بصورة مباشرة (ليبيا، اليمن، البحرين، سورية..)، وأخرى غير مباشرة عن طريق أيديولوجيتها الدينية مثل (تونس، مصر، العراق..) الى جانب الأربع الدول سالفة الذكر..مجرد التدخّل في الشؤون الداخلية لهذه الدول لايعني أنها دولة قوية أو متماسكة، أو أن أوضاعها مستقرة، فهي تقوم بذلك كمن يهرب للأمام خوفاً من النتائج التي تقترب مفاعيلها منه، فهو يحاول استباق وقوعها لعلّه ينجو من آثارها..

من يراقب تصريحات وسلوك الطبقة الحاكمة في هذا البلد بدءاً من الملك ونزولاً الى الأمير نايف ووزير الخارجية سعود الفيصل يشعر بأن هناك شعوراً متضخّماً بالخطر إزاء ما يجري ولابد من فعل كل ما من شأنه للحيلولة دون وقوع ما هو أكبر وأخطر..الأمراء يدركون بأن بلدهم لم تعد استثناءً من الربيع العربي، وهم يخافون الوصول الى مرحلة يقرر فيها الأميركيون رفع يدهم عنهم، والوقوف مع مصالحهم، أي في اللحظة التي ينفصل فيها غالبية الشعب عن العائلة المالكة، وهو ما يحصل تدريجاً الآن..

الصفحة السابقة