(القاعدة) و(الداخلية).. والربيع العربي!

تأميم القاعدة سعودياً

معارض سوري بارز ينقل عن محام لقيادات القاعدة في السجون السعودية، بأن الأمير محمد نايف
عقد صفقة مشروطة معهم بأن يتم الإفراج عنهم مقابل ذهابهم للقتال في سورية

توفيق العباد

نادراً ما تنعقد جلسة محاكمة علنية لعناصر تنظيم القاعدة في السعودية، ومن المستحيل أن تكون الأخيرة شهدت محاكمة علنية لأي من قيادات القاعدة الميدانيين، أو حتى المنظّرين للتنظيم. فملف القاعدة في الجزيرة العربية يعتبر قضية سيادية ومن الأسرار الكبرى التي لا يجوز للجمهور الإطّلاع عليها.

يذكّر خبر صفقة نايف مع قيادات القاعدة، بما نقله معتقل سابق في سجون المباحث مدة سبعة أشهر، وكان قد حبس مع أحد قيادات القاعدة، بأنه سمع فجأة بأنه أصبح أمير الجهاد في كردستان! ذلك القائد كان سهيل بن جاسم السهلي المعروف بإسم (ياسين البحر)، وكان من المقاتلين مع جماعة أنصار الاسلام، وقد قاتل في طاجيكستان والشيشان مع خطاب.

السهلي أو ما يعرّف بإسم (أبو الشهيد الشرقي)، تدرّب في أفغانستان وذهب مع خطاب الى طاجيكستان ثم عاد الى الديار عن طريق الكويت، وأوقف في الحدود أيام تفجير الخبر سنة 1996، وأدخل سجن المباحث بالدمام لمدة شهر ثم أفرج عنه وعمل في المحكمة المستعجلة بالدمام، وبعد أشهر دخل سجن الرويس في جدّة، وحكم عليه بالسجن ست سنوات قضى منها سنتين في جدة، وسنتين ونصف في الدمام، ثم أطلق سراحه في تموز (يوليو) 2002. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، ظهر السهلي فجأة في كردستان وأصبح (أمير المجاهدين العرب).

ينقل فارس بن حزام، الصحافي المعني بقصص قيادات القاعدة، في مقالة له عن سهيل السهلي، نشرت في صحيفة الرياض بتاريخ 27 آذار (مارس) 2006) بأن (لكل سعودي قتل خارج البلاد قصة، لكل منهم حكاية دفعته ليترك أسرته وبيته ووطنه، ولأن أبناء بلادنا سجلوا رقماً متقدماً في المشاركة الخارجية؛ فالكثير منا على معرفة شخصية بأحد هؤلاء). المثير في قصة السهلي أنه قتل بعد يومين من الحرب الأميركية على العراق، وكأن هناك من أوعز له بأن ثمة مرحلة جديدة وشيكة سوف تبدأ في العراق ولا بد من حضور المقاتلين، وما العلاقة الزمنية بين خروجه من السجن وبدء الحرب الأميركية على العراق، ومن ثم هجرته الفورية الى هناك؟

اللافت في مقالة بن حزام أنه يتحدث عن دفعة من الطلاّب يسمها بأنها (خليط متباعد)، فمن بينها من سجن على خلفية تفجير السفارة الأميركية في كينيا عام 1998، ومن بينها أيضاً ستة ضباط برتبة نقيب، وإثنان منهم في المباحث العامة.. هل يلمح ذلك الى عنصر ما في بناء رواية العلاقة بين القاعدة والداخلية؟ ربما، دون الجزم، وإن كان بن حزام استدرك بعد نقل هذه المعلومة الى أنها (مهداة لعشّاق ربط المناهج بالتطرف)، والحال أن الأهم هو العلاقة بين رجال المباحث العامة في الدفعة والسهلي. والمساوي له في الأهمية هو ما ذكره بن حزام، صديق السهلي وزميله في صفوف الدراسة، عن أن من قتل في خندق وادي دلمر لم يكن السهلي فحسب، بل كان هناك ستون قتيلاً (بعضهم من رفاقه الذين غادر معهم من المنطقة الشرقية)! فكيف خرج هؤلاء من الديار، وكيف تجمّعوا في مكان واحد وزمان واحد؟

سهيل السهلي: من السجن الى إمارة كردستان!

قصة أخرى من المنطقة الشرقية تعود الى المقاتل عبدالهادي الشهري الملقّب بـ (أبو محمد الأسدي)، وكان من قرية دارين على أطراف مدينة القطيف. وكما في قصة اختفاء السهلي، فإن عائلة الشهري فقدت الاتصال به بعد أن ذهب لقضاء فريضة الحج، وجاءهم فيما بعد خبر مقتله. قبل ذلك، كان يعمل في مكتب دعوة الجاليات في الجبيل، ورغم ما يقال عن أن احتفاء عوائلهم بشهادتهم، فإن ردود فعل الآباء توحي بأنهم لم يكونوا على علم بهجرة أبنائهم، وفي مثل حالة والد الشهري أنه في اليوم التالي من تلقيه خبر مقتل إبنه (كان شبه منهار). المثير أن رؤية والدته أيضاً لإبنها احتوت على عنصر سلبي، تروي بأنها رأته يحمل رشاشاً (وحاولت أن تدركه ففاتها واختفى).

ثم قصة ثالثة في هذا السياق تحمل دلالات خاصة، ففي 29 آب (أغسطس) 2007، نشرت وكالة أنباء الأسوشيتدبرس بأن السعودية تعاقب صحيفة (الحياة) لكشفها هوية أحد قادة تنظيم القاعدة السعوديين في العراق. وكانت الصحيفة قد نشرت تقريراً عن مواطن سعودي قالت بأنه من كبار المسؤولين في تنظيم القاعدة في العراق. وقالت الوكالة بأنه لم تظهر النسخة السعودية من جريدة (الحياة الدولية) في أكشاك بيع الصحف في جميع مدن المملكة يومي الإثنين والثلاثاء، كما أفاد دبلوماسيون عرب في اتصال هاتفي من الرياض مع مكتب اسوشيتدبرس في القاهرة مُطالبين بعدم الكشف عن أسمائهم.

ولم يدل أي مسؤول سعودي بتعليق حول أمر منع توزيع الصحيفة أو أي مسؤول في مكاتب الصحيفة في لندن، ولكن صحفياً سعودياً أشار إلى أن وزارة الثقافة والإعلام فرضت حظراً على توزيع الصحيفة، إثر نشرها تقريراً حول سعودي يُدعى محمد الثبيتي، باعتباره من كبار المسؤولين في جماعة (دولة العراق الإسلامية) المرتبطة بتنظيم القاعدة.

وقال عضو جمعية الصحفيين السعوديين طلب عدم ذكر إسمه، إن السلطات قامت بمصادرة العدد قبل توزيعه في الأسواق ومنعت توزيع الصحيفة نهائيا فيما بعد. وقد أكدت قرار حظر توزيع صحيفة (الحياة) داخل السعودية الشركة الوطنية للتوزيع وهي شركة تابعة للقطاع الخاص ومسؤولة عن توزيع الصحف والمجلات العربية والأجنبية داخل المملكة.

ورغم زعم البعض بأن السهلي والشهري وغيرهما ليس من قيادات القاعدة رغم عشرات الأدلة، فإن خروجهما المفاجىء بصحبة مجموعة من المقاتلين في المنطقة الشرقية كانوا في سجون المباحث العامة يثير أسئلة جمّة، تماماً كما هي الهجرة الجماعية التي جرت منذ إيلول (سبتمبر) 2006 الى مخيم نهر البارد في شمال لبنان، حيث ودّع مقاتلون قاعديون من مناطق متعددة أهاليهم بصورة مفاجئة للاستعداد لحرب داخلية في لبنان وضع سيناريواتها الأمير بندر بن سلطان، وخصّصت لها أموال طائلة بهدف اشعال حرب أهلية في لبنان ضد الجيش اللبناني وحزب الله، وأدّت الى مقتل عشرات العناصر القاعدية السعودية واعتقال آخرين منهم.

ناصر العمر: خارطة أعداء للقاعدة (طائفياً)

روايات عديدة ظهرت حينذاك عن علاقات خفيّة بين الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية وكذلك أمراء آخرين مثل الأمير بندر بن سلطان والأمير مقرن بن عبد العزيز، رئيس جهاز الاستخبارات العامة والقاعدة قيادات وعناصر، ليست بالضرورة على صلة بالقيادة العليا للتنظيم ممثلة بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، اللذين جرى تهميش دورهما منذ أن تولى أبو مصعب الزرقاوي قيادة القاعدة في العراق، وراح يدير التنظيمات الفرعية في المناطق المجاورة للعراق، دون الرجوع الى بن لادن والظواهري.

ومن هنا بدأ الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية بالتواصل مع القيادات الجديدة التي لم ترتبط بتجربة أفغانستان، ولم تكن على صلة بأسامة بن لادن والظواهري، حيث خرجت تنظيمات قاعدية جديدة ذات توجّهات طائفية واضحة، وتوجّه عملياتها لأنظمة وتنظيمات على خصومة مع النظام السعودي.

كيف خرج مئات المقاتلين من المنطقة الشرقية الى العراق؟ هل يعقل بأنّ أجهزة الأمن لم ترصد حركتهم ونشاطهم، خصوصاً وأن أغلب هؤلاء كانوا في أفغانستان، بل ما هو أخطر أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد فرضت نفسها على طريقة تفكير وأداء أي جهاز أمني يحاول تصحيح الصورة الطاغية عن الدولة التي ينتمي إليها، لا سيما إذا كانت توصف في الإعلام الدولي بأنها (بؤرة الشر)، فكيف تمكّن هؤلاء المئات من الهجرة الى العراق في أوقات متقاربة؟

ما يلفت أن حركة الهجرة الى ساحات القتال لم تتوقف الى اليوم، وما يزيد حيرة أن أغلب المقاتلين كانوا في سجون المباحث العامة وخرجوا منه ليس للإندماج في المجتمع أو الاقلاع عن فكرة الجهاد، بل يخرجون بأفكار جديدة في الجهاد، تضع فكرة الخروج على الحاكم جانباً، وتدخل عناصر جديدة من بينها استهداف الأنظمة المصنّفة بأنها على خصومة مع آل سعود، حيث يسبغ عليها عناوين أخرى طائفية (عدو أهل السنة والجماعة) مثل العراق، وسورية، ولبنان، وايران.

وهذه النزعة لم تكن ورادة في أدبيات قيادات القاعدة الأصلية، بل هي في حقيقة الأمر مستمدة من كتابات مشايخ الوهابية الموجودين في الداخلية مثل الشيخ ناصر العمر وغيره من المشايخ الجدد، الذين أعادوا رسم خارطة الأعداء، وترتيب قائمة الخصوم، بل هناك من يردد اليوم بأن (الشيعة أخطر علينا من اليهود والنصارى)، ما يلمح الى أن خطاباً وهابياً طرأ على أداء وسلوك التنظيمات القاعدية.

فالطائفية اليوم هي امتياز سعودي وهابي خاص، جرى تصنيعها في غرف وزارة الداخلية، من أجل تحقيق اصطفاف سياسي، وشد العصّب الطائفي نحو النظام السعودي الذي يخسر سياسياً ولا يملك من أدوات التعبئة سوى الخطاب الطائفي الذي يمكن عبره محاربة خصومه، وتنظيم المجموعات المسلّحة في عمليات عسكرية ضد الأنظمة الأخرى..

في الأزمة السورية، بدا واضحاً اليوم بأن العلاقة بين القاعدة ووزارة الداخلية حميمية أكثر من أي وقت مضى. فقد كشفت أدبيات القاعدة في بلاد الشام، وكتائب عبد الله عزام، عن أن التنسيق لم يعد مقتصراً على الخطاب فحسب، بل إن التسليح والتمويل يجري بصورة منتظمة، وإن احتشاد المقاتلين في الشمال اللبناني يجري بتمويل سعودي محض، وهناك من عناصر القاعدة من يضطلع بدور (مسؤول مالي) يقوم بإيصال الأموال الى الداخل السوري للمقاتلين القاعديين وأفراد الجيش السوري الحر.

منذ إعلان الأمير سعود الفيصل في لقاء (أصدقاء سورية)، الذي جرى في تونس وخروجه غاضباً بأن اعتبر تسليح المعارضة السورية فكرة ممتازة، تزايدت وتيرة التمويل والتسليح، خصوصاً وأن الأمير تعهّد للأميركيين بأن اسقاط النظام السوري سيتم في غضون ثلاثة أشهر، ولكن ما جرى لاحقاً كشف عن أن النظام السعودي لم يختبر مقاتليه بصورة جيدة، ولم يملك معرفة كاملة وكافية عن قدرات النظام السوري العسكرية.

في ظل الربيع العربي، وضعت وزارة الداخلية خططاً لاستثمار تنظيمات القاعدة كأسلحة في الثورة المضادة، والتي شهدنا بعض فصولها في اليمن حيث قامت جماعات قاعدية بالمشاغبة في مأرب وتعز وسيطرت على دراع الجنوبية، كما دخلت في مناوشات عسكرية مع الحوثيين في الشمال حيث تقطن الأغلبية الزيدية. ويتكرر المشهد اليوم في سورية عبر العمليات الإنتحارية والتفجيرات المتنقّلة، التي تقودها جماعات قاعدية تضمّ عناصر سعودية مسلّحة.

من اللافت اليوم، أن العناصر القاعدية المسلّحة متواجدة بكثافة عالية في الدول التي تصنّف على أنها غير وديّة مع النظام السعودي مثل العراق وسوريا ولبنان، وقد يطوّر النظام من دور العناصر القاعدية السعودية لجهة الدخول في مواجهات مسلّحة ضد الجماعات الأخرى على خلفية طائفية ومذهبية، تحت ذرائع واهية.

توقفت عمليات القاعدة في الداخل، وضد المنشآت الحيوية في الدولة السعودية، ولكن ضاعفت من كثافة حضورها وعملياتها العسكرية في المناطق الأخرى، وإن استعمال العنوان الطائفي دليل على أن القاعدة التي كانت تحارب الولايات المتحدة والنظام السلولي كما تصفه لم تعد هي نفسها الحاضرة بكثافة في ساحات متعدّدة، فقد دخلت هي الأخرى في نطاق السعودة والتأميم الشامل لإرهاب الدولة.

الصفحة السابقة