الدولة الضائعة

تحاول أن توحي لمن هم في الداخل والخارج بأنها تسير على هدى، وأن خطواتها محسوبة بدقة متناهية، ولا قلق إزاء ما يجري في البلدان المجاورة، فضلاً عن الخضّات المتنقّلة في مناطق متفرّقة من هذا البلد المترامي الأطراف..

تتبنى المشروع تلو الآخر، في تخريب ثورة هنا، والتخطيط لإسقاط نظام هناك، ولا تتردد في أن تقوم بكل ما من شأنه إظهار القوة المفتعلة، حتى وإن كان على حساب استقرارها الداخلي..

أطلق وزير الخارجية سعود الفيصل وعداً لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قبل شهور بأن بإمكان بلاده إسقاط النظام السوري في غضون ثلاثة شهور، فراح يدعو الى عسكرة الثورة وتسليح المعارضة السورية، بالاستعانة ليس فقط بالمنشّقين من الجيش السوري، ولكن أيضاً بجماعات القاعدة الذين لبّوا نداء الهجرة الى أرض الرباط الجديدة في بلاد الشام، على أساس أن الأموال والسلاح سينهمر عليهم من كل الجبهات (التركية واللبنانية والأردنية والعراقية)، وستبدأ ساعة الجهاد لاسقاط النظام في سورية، بحسب الوعد الذي قطعه سعود الفيصل للوزيرة الأميركية.

مشكلة آل سعود أنهم يعتقدون بأن الطائفية تعمل باتجاه واحد، وأنهم وحدهم الرابحون منها، ونسوا أنها سلاح ذو حدّين، وبدلاً من أن تكسب الثورة السورية بسلميتها وشعاراتها الوطنية، جاءت العسكرة والتطييف لتضيّع فرصة تاريخية لقيام دولة ديمقراطية تمثيلية، وأن تمنح النظام السوري مسوّغات مقبولة داخلياً ودولياً لتسديد ضربة قاصمة للجماعات المسلّحة، بمن فيهم من استمع لكلام سعود الفيصل ومعه بن جاسم، وزير الخارجية القطري، باللجوء الى عسكرة الثورة، حتى بدا الإنكسار والتراجع في المواقف الأميركية والأوروبية وخصوصاً الفرنسية الغائبة عن السمع والبصر هذه الأيام.

خطّة كوفي أنان كانت مخرجاً مثالياً ليس للنظام السوري فحسب، بل وحتى لمن خسروا الرهان على العسكرة والتطييف، فقد بدا النظام أشدّ إصراراً وعزماً على مجابهة الجماعات المسلّحة، وكانت زيارة هيلاري كلينتون الى الرياض في 31 مارس الماضي واجتماعها مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي لإبلاغهم بالموقف الأميركي الجديد.. مفصلية في موضوع تغيير استراتيجية التعاطي مع الأزمة السورية. فبينما قبل وزراء الكويت وقطر والإمارات وعمان بخطة كوفي أنان، بحسب ما طلبت السيدة كلينتون، فإن سعود الفيصل وحده الذي صعّد من موقفه وتمسّك بالخيار العسكري، حين قال بأن (تسليح المعارضة السورية واجب)، وذلك عشية انعقاد مؤتمر (أصدقاء سورية) في اسطنبول، الذي بدت فيه المواقف العربية والخليجية متباينة بصورة حادة.

في ملف الثورة البحرينية كان الضياع السعودي أيضاً واضحاً، فقد أبلغت الإدارة الأميركية حليفها السعودي بأن من غير الممكن استمرار الوضع المتأزم في الجزيرة الخليجية التي لم تعد حكومته قادرة على إخماد الانتفاضة، وإن ثمة إصراراً لدى قادة المعارضة على المضي في التظاهرات الشعبية والمقاومة المدنية حتى تحقيق المطالب المشروعة والعادلة. السعودية، كما هي عادتها غير الكريمة، تمسّكت بعنتها وعنادها بإمكانية حسم الموقف البحريني عبر الخيار الأمني/ القمعي.

وفي لحظة ما شعر النظام السعودي بأنّ من غير الممكن خوض الحرب على جبهات عدّة، خصوصاً في ظل أوضاع جيوسياسية شديدة الإضطراب والتحوّل، فلا يمكن المحاربة في اليمن وسوريا والبحرين ومخاصمة ايران والعراق، والتدخّل في مصر وتونس، ودرء إندلاع انتفاضات أخرى في المناطق المجاورة (الأردن، دول مجلس التعاون الخليجي)، فكل ذلك يفوق قدرة وطاقة النظام السعودي.

بكل الحسابات السياسية، لا يبدو النظام السعودي في وضع يسمح له بمعالجة الملفات بصورة حاسمة وعقلانية، فكل ما يقوم به لا يعدو: المشاغبة والمشاغلة من جهة، أو التخريب ودرء الأخطار من جهة ثانية، ويجد نفسه اليوم محاطاً بأعداء كثر، وإن من يعتقده حليفاً، يكتشف في لحظة ما بأنه يضمر له عداءً شديداً.

لا ريب، أن هناك كثيرين ينتظرون سقوط النظام السعودي، ويأملون في رؤية هذا اليوم قريباً، كرد فعل على ما اقترفه من جرائم ضد حرية الشعوب وكرامتها، وكذلك تواطؤه ضد القضية الفلسطينية التي تعرّضت لأكبر عملية ابتذال وإهانة من خلال مبادرات السلام السعودية من جهة، وعبر فرض حظر على وصول المساعدات الأهلية الى أهالي قطاع غزّة من جهة ثانية.

اليوم، حيث يعيش النظام السعودي أسوأ أيامه، بفعل ضياعه السياسي والاستراتيجي، يفتّش عن حلفاء لخوض خصومات النيابة، من خلال تفجير خطاب طائفي مقيت إعتاد إنتاجه كلما تعرّض النظام للخطر. بيد أن ما يخشى منه هو أن يقلب الزمن ظهر المجن لهذا النظام الذي لم يعتد العيش الا في ظروف استثنائية.

حالة الضياع التي يعاني منها النظام السعودي قد تطول، وتنذر بنتائج كارثية على النظام، بل هناك من يقدّم تحليلات متشائمة إزاء مستقبل النظام في المدى القريب والمنظور، لأن الضياع الذي يعيشه النظام يؤثّر بنيوياً على وحدة الدولة وتماسكها، فليس هناك ما يحول دون انفراط العقد، بعد أن أوصلت سياسات العائلة المالكة الغالبية السكانية الى حد تمني زوال الكيان، وإذا أريد لدولة وطنية أن تنشأ فلا بد أن تقوم على التراضي والتوافق وعقد إجتماعي جديد ليس فيه احتكار فئوي للسلطة والثروة، بل تكون المواطنة أساساً راسخاً للدولة ومبدأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

الصفحة السابقة