احتجاجات القطيف.. هل تشعل النفط؟!

محمد السباعي

ليس هو بجديد أن المواطنين في المنطقة الشرقية تظاهروا، او احتجوا. فطالما اعتادوا على التظاهر، تنديداً بالنظام، أو دعماً للفلسطينيين أثناء الإنتفاضة، أو احتجاجاً على سياسة التمييز المنهجي الرسمي الذي يجري بحقهم. او مطالبة بالإصلاحات المدنية والسياسية.

الشيخ نمر النمر بعد اطلاق النار عليه واعتقاله وتخديره

وليس جديداً أيضاً، أن الحكومة بفرق أمنها كانت ولازالت تتعاطى مع تلك الإحتجاجات بالعضلة الأمنية: رصاصاً يقتل ويجرح؛ ومعتقلات وزنازين تفتح لضيوف جدد، كباراً وصغاراً، وحتى للنساء، يواجهون محن التحقيق والتعذيب.

منذ فبراير 2011 والمنطقة الشرقية لم تستقر. مظاهرات تكاد تكون اسبوعية، في أكثر من بلدة ومدينة. 7 شبان سقطوا بالرصاص والقنص من الأعلى، بينهم 4 شبان كانوا يحملون كاميرات تصوير؛ وهناك شاب توفي تحت التعذيب، اضافة الى نحو 45 جريحاً بالرصاص، وقائمة أظهرتها الحكومة حوت 22 إسماً اعتبرتهم مطلوبين، وهي قائمة تماثل قوائم المتهمين بالإرهاب، حمّلتهم الحكومة مسؤولية الأحداث!

ومع ان السلطات الأمنية اتهمت الحراك الشبابي المعارض بالعمالة للخارج (إيران على الأرجح) واتهمت الشباب بقتل بعضهم بعضاً أثناء التظاهر!، كما روجت لعنفية التظاهرات، وان سلطات الأمن اعتدي عليها وأنها كانت في حالة دفاع عن النفس. إلا أنه وفي المحصلة النهائية لم يقتل أي رجل أمن! وجميع الضحايا هم في صفوف المواطنين المتظاهرين.

كان ذلك يوم..

أما اليوم، وتحديداً منذ 8 يوليو الماضي فإن المشهد تغيّر من جهة التفاصيل، وقد يتغيّر من جهة الإستراتيجيا ايضاً.

الحدث

يوم 8 يوليو كان يوم إطلاق النار على الشيخ نمر النمر في العوامية بغية قتله أو اعتقاله. من حسن الحظ أنه لم تصبه رصاصة في مكان قاتل، وإنما أصابته في فخذه. طريقة الإعتقال العنيفة تبيّن مدى احتقان السلطات الأمنية وغضبها من مواقف الشيخ النمر، الذي اعتاد على التعبير عن رأيه ضد آل سعود، داعياً الى إنهاء حكمهم، وبطشهم واستبدادهم. واضح ان أجهزة الأمن كانت تريد اعتقال النمر، طيلة الأشهر الماضية، ولكنها كانت بإزاء مشكلتين:

الأولى ـ أن الشيخ النمر، يدعو الى تحرك سلمي معارض. كل خطاباته العلنية والمنشورة تحضّ على سلمية التحرك، وكل خطاباته تدعو الى التوحد بين المواطنين ضد الظالم المستبدّ. لا تستطيع العائلة المالكة أن تدين النمر بأنه داعية عنف؛ ولا أحد يمكنه ان يقبل بمزاعمها بأن إيران تحرّكه. فالرجل ـ كما هو معروف ـ ينتمي الى مرجعية دينية غير إيرانية. بمعنى، أن كل المبررات التي تضعها السلطة لاعتقال نمر النمر غير كافية إن لم تكن غير مقنعة من أساسها. فعدا الإتهامات المبهمة والعامة، كترويج الفتنة، ودعوة التشدد، لا يوجد شيء حقيقة! كل ما يؤخذ على النمر هو أنه يعارض آل سعود، ولا يقيم لهم وزناً الى حد اسقاط مكانتهم من أعين المواطنين. أي أن كل ما فعله هو التنديد بأفعالهم علانية، وهذا في أقلّ الأحوال يجعله سجين رأي.

اغلاق الشوارع أمام تقدّم مدرعات النظام في القطيف

الثانية ـ عدا عن عدم توفر مبررات اعتقال الشيخ النمر، من منظار المعايير العالمية، وليس المعايير السعودية، خاصة اذا ما أتخذت الطريقة وسيلة عنفية بالرصاص.. عدا عن ذلك، فإن اجهزة الأمن تعلم أن المنطقة الشرقية هي الأكثر احتقاناً بين مناطق المملكة، وأن العوامية هي الأكثر توتراً بين مدن المنطقة الشرقية، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية. تدرك الأجهزة الأمنية، وبعيداً عن مزاعم: الأمن والأمان، أن الشعور بعدم الأمن طاغ في كل المناطق، وأن أول وأهم دلالاته هو انتشار السلاح وبيعه وتهريبه من اليمن وحتى من مخازن الجيش والحرس الوطني. خشيت الأجهزة الأمنية، أن يؤدي اعتقال الشيخ النمر الى انفجار مواجهة عنفية ووقوع خسائر في صفوفها وصفوف المواطنين بما يزيد المشكلة دون حلّها.

بيد أن القشّة التي قصمت ظهر البعير ـ كما يقال ـ هو تعليق النمر على وفاة ولي العهد نايف. فمع أن الكثيرين ابتهجوا بوفاة الطاغية، وفي مختلف المناطق، وبعضهم سجد لله شكراً، إلا أن فرحة عامة في الشوراع لم تظهر إلا في شوراع القطيف والعوامية، حيث وزع الحلويات على المارّة، وكان بعضهم يهنيء الآخر، بوفاة (من قتل أولادنا، وسجن أحبّتنا وأعزتنا) على حد قولهم. الشيخ النمر أعطى تعليقاً مسجلاً علنياً قال فيه: أين جنود وقوات نايف، دعها تفيده في قبره، جسده يأكله الدود!

هناك أمرٌ أخير له علاقة باعتقال النمر بتلك الوحشية والعنف، وهو التحريض من قبل التيار الوهابي المعارض، وفي مقدمتهم سعد الفقيه المعارض في لندن. فلسنوات عديدة تبنّى أمثال هؤلاء خطاباً تحريضياً للشارع والسلطات معاً. للشارع يقولون فيه: كيف يتظاهر الروافض ويحتجون ويقومون بأفعال وهم على باطل؛ وأنتم يا أحفاد الصحابة لا تفعلون شيئاً وأنتم أهل الحق؟!! وللسلطات كان دائماً يقال: لماذا تعتقلون مشايخنا وتتركون نمر النمر؟ هل تخافون من ايران، أم من السلاح؟.

ثلاثة شهداء جدد سقطوا برصاص السلطة السعودية

قررت السلطات الأمنية القيام بخطوتها في وقت بدا لها مناسباً للغاية: فمن جهة كان الحراك الشعبي المتأثر بالربيع العربي قد ضعف في الأشهر الثلاثة الماضية، وكانت فترة الصيف والعطلات وقبلها الإختبارات قد أثرت على التحرك في الشارع، وبالتالي كان التوقع أن لا ينهض الشباب ويواجهوا السلطات على خلفية اعتقال القيادي النمر. ورأت الأجهزة الأمنية ـ من جهة أخرى ـ أن نخبة المجتمع الشيعي، من مثقفين ومشايخ، لا يميلون الى طريقة الشيخ النمر في المواجهة العلنية مع ال سعود، او على الأقل لا يستطيعون مجاراتها. وزيادة على ذلك، فإن التحركات في المناطق الأخرى أخذت تتغذّى على ما يجري في القطيف، وكان لا بدّ من إيقاف الجميع بتسديد ضربة الى العوامية والشيخ النمر، لتخرس السنّة والشيعة معاً.

معلوم أن القوات الأمنية الخاصة طاردت سيارة الشيخ النمر وكان وحده يقودها، وقد اطلق عليه النار، وأصيب واصطدم بحائط. في خطابات النمر كان يؤكد أمرين: أنه لن يقبل بتسليم نفسه لسلطة طاغية وهو حيّ. والثاني: أنه لا يقبل بأن يتحول الحراك السلمي الى عنفي حتى وإن استشهد هو. البيان الرسمي الذي تلاه المتحدث باسم وزارة الداخلية مساء ذلك اليوم 8/7/2012 حوى أكاذيب وتناقضات، حيث قال بأن النمر كان معه آخرون، وهو غير صحيح ولم يظهر ذلك فيما بعد، وقال بأن النمر اطلق النار على رجال الأمن من مسدس، وهو غير صحيح ايضاً ولم تظهر السلطة الأمنية أية أدلة على اشخاص اصيبوا بالرصاص أو حتى سيارات رسمية.

بالطبع اتهم البيان الشيخ النمر بإثارة الفتنة والفوضى وأنه مرتبط بأجندات خارجية وما أشبه من الاتهامات التي تعود المواطنون سماعها. لكن قمة الإثارة في قضية الاعتقال كانت في تسريب لقطة فيديو من جوال أحد مهاجمي النمر، حيث صور الحادثة وتلفظ بألفاظ طائفية كريهة، وقال أنه تم دعس الرافضي ... الخ. ثم واصلت السلطات الأمنية في حملة اعلامية ترعب بها المواطنين في الشرقية حيث سرّبت العديد من صور النمر وهو مخدّر وينزف دماً ويؤخذ الى المعتقل. تلك الصور التي استفزّت أنصار النمر، بل ووسّعت مؤيديه، هي ذاتها التي أفرحت أعوان آل سعود، حيث سجد العديد منهم لله شكراً لإلقاء القبض على النمر، وبينهم مشايخ أصحاب لحى، وجدوا أن عدو ال سعود هو عدوهم وعدو الإسلام بنسخته الوهابية!

النظام السعودي الذي فقد ركنين مهمين له بوفاة سلطان ونايف، أراد من خلال عملية اعتقال او محاولة قتل الشيخ نمر النمر إرسال رسائل متنوعة للجمهور المسعود الساخط من الأوضاع بشكل غير مسبوق. أراد آل سعود بضربة النمر أن يقول أنه قويّ، وأن دليل قوته: هو بطشه؛ وأن من خلف نايف وسلطان، لا يقلّون عنهم شكيمة وعناداً وبطشاً، وأنهم سيواصلون ذات المسيرة الخشنة واستعمال ذات الحلول الأمنية لمواجهة كل المشاكل السياسية والإجتماعية. ومن الرسائل: تخفيف احتقان الوهابيين المعارضين في نجد، والقول لهم: بأن أحداً لا يستطيع أن يكسر هيبة آل سعود، وأن من يفعل ـ كما النمر ـ يلقى جزاءه. رسالته كانت لهم: ان كان رأس التحريض والعداء لآل سعود قد اعتقل، فانتم يا أهل نجد ومشايخها أولى بالصمت وإلا .. فالسيف الأملح!

موجٌ شعبي يفاجأ آل سعود

لم تكن السلطات السعودية الأمنيّة غبيّة بحيث يمكن القول انها لم تكن تتوقع ردّ فعل من الجمهور. نعم كانت تتوقع ذلك، ولكن ضمن حدود معيّنة، فصور الإعتقال التي تم تسريبها قد ترعب الناس بنظر أجهزتها الأمنية؛ وصمت النخب الشيعية قد يحدث وقد يساهم في لملمة الوضع، وإعلان الانتصار الحكومي بأقل كلفة. لكن ما جرى غيّر المعادلة الى الآن، ليس في المنطقة الشرقية وحدها فحسب، بل وفي كل المناطق الأخرى، التي بدأت تتعلّم دروس التحدي والمواجهة من القطيف والتي كشفت ضعف النظام وخيبته.

التظاهرات متواصلة

ما حدث هو أن طوفاناً من المشاعر المتألمة والغاضبة عبّرت عن نفسها بالنزول الى الشارع في تظاهرات في العوامية والقطيف، وما أن حلّ المساء (8/7/2012) حتى كان الآلاف من الشباب بمن فيهم النساء يجوبون الشوارع هاتفين بحياة الشيخ النمر، ومنددين باعتقاله ومطالبين باطلاق سراحه، ومستنكرين لاستفزاز المشاعر عبر تسريبات الصور والفيديو. في ذلك المساء، استشهد شابان برصاص المدرّعات التي كانت تسدّ الطرقات الرئيسية، وهما: محمد الفلفل (وهو ابن عم الشهيد السيد علي الفلفل الذي قتل بالرصاص الحكومي في 21/11/2011) والسيد أكبر الشاخوري.

استمرت المظاهرات في كل مساء في مناطق متعددة، وفي بعض الأحيان تتجمع التظاهرات في مدينة القطيف نفسها. وفي تشييع الشهداء الجدد، وجدنا ـ كما في أشرطة الفيديو الموجودة على اليوتيوب ـ عشرات الألوف من المتظاهرين، نساء ورجالاً، يصدحون بشعارات صاخبة: (الشعب يريد اسقاط النظام) و (الموت لآل سعود) و (هذا الشعب ما تنداس كرامته) اضافة الى شعارات اخرى تندد بوزير الداخلية وبمحمد بن فهد أمير المنطقة الشرقية.

أذهلت تلك التظاهرات الضخمة النظام، وهو كان يتوقع رد فعل أقلّ. ومظاهرات على خجل. النظام استخدم رصيده في العنف كالعادة، الرصاص مقابل المتظاهرين، وليس الرصاص المطاطي ولم يستخدم الغاز المسيل للدموع، أو خراطيم المياه. لكن ما تغيّر هذه المرة عن الأشهر الماضية، وحتى عن السنين الماضية، أن حماسة الجمهور للتظاهر بدت واضحة أكبر، وأن قضية الحريات التي حملها على عاتقه النمر والتي كانت بنظر النظام لا تحوز رضا سوى أقليّة صغيرة، وجد أنها وصلت الى كل منزل تقريباً، وإذا بطريقة النظام السيئة في التعاطي العنفي مع النمر ومع المتظاهرين تطلق الغضب في كل شاب وشابة وتحفّزه للقيام بعمل ما.

اكتشف النظام أن الجيل الجديد لا تسيطر عليه النخبة التي يعرفها هو، والذي توقع منها أن تقف الى جانبه، فلم تفعل، وإن لم تقف الى جانب النمر. النخبة وجدت نفسها معزولة عن الشارع، ولم تكن لتجازف بأن تخسر جمهورها أكثر فأكثر، ثم جاء بيان وقع عليه مشايخ ومثقفون (نحو 37 شخصاً) أدانوا فيه النظام وقمعه واستخدامه الرصاص للمتظاهرين السلميين.

المشاركة النسائية كثيفة جداً

ليس هنا فقط كانت حسابات النظام خاطئة. لقد اكتشف أكثر من أي وقت مضى سلاح الكاميرا، التي يمتلكها كل شاب وشابة بيده وهو يتظاهر: إنه (الجوال المحمول). لقد وصلت صور التظاهرات الى كل العالم، الى الصحف والقنوات الفضائية التي غطّت اخبار تلك المنطقة الملتهبة. هذا حدّ من اندفاعة عنف النظام بعض الشيء. والأهم، أنه اكتشف بأن الدم يجلب الدم، وأن الجيل الجديد لا يوجد لديه شيء كثير ليخسره، أو يخاف منه. رأى النظام بعينه أن التظاهرات في القطيف ـ ولأول مرة ـ تمضي في الشوارع الرئيسية الكبرى حيث تعسكر مدرعات النظام غير مبالٍ برصاصها، وايضاً ولأول مرّة، يبادر المتظاهرون الى قطع الطرقات أمام تلك المدرعات بحرق الإطارات وغيرها، في صورة تتكرر كل مساء. وزيادة على ذلك، بدا ولأول مرة أن انفلات الأوضاع قد يهدد إمدادات النفط، فالعوامية وصفوى وبقية مدن المنطقة ليس فقط تعيش على بحيرات نفط، بل وتمر أنابيبه بالقرب من منازلهم، مجرد بضعة مئات من الأمتار في أقصى الحدود. وقد أُطلقت بعض التهديدات بالتعرّض لها، إن استمر الرصاص ينهمر على المتظاهرين.

شكلت هذه كلها رسائل واضحة للنظام وقواه الأمنية التي تراقب الأمور عن قرب. في تشييع الشهداء الجدد، تراجعت قوات النظام ومدرعاته ودورياته الأمنية، على أملٍ أن يتظاهر المتظاهرون والمشيعون للشهداء دونما خسائر تؤجج الوضع أكثر بشكل يخشى منه فقدان السيطرة الرسمية على الأرض. قيل أن الخبراء الأمنيين الأميركيين نصحوا الرياض بأن تبتعد عن مواقع التظاهر، على أمل ان ينفّس الجمهور مشاعر غضبه ويهدأ شيئاً فشيئاً.

ما حدث في التشييع كان واضحاً. كان انسحاباً شبه كلّي من قوى الأمن، اللهم إلا بعض المدرعات بقيت بالقرب من الأبنية الرسمية، خاصة مقرات الشرطة. لكن هذا لم يمنع من التعرّض للمحكمة الشرعية في القطيف، التي تضم قضاة وهابيين فحسب، وكتاب عدل وهابيين أيضاً، وغالباً ما يعاملون المواطنين بالإهانة والإشمئزاز، باعتبارهم مشركين الى حد عدم ردّ السلام عليهم وإهانتهم لأتفه الأسباب. بعد أيام تحدثت صحيفة عكاظ الرسمية، وهي تعكس السياسة الرسمية عن مؤامرة أجنبية، وتفصيلها المضحك كان كالتالي: هناك من يحرض الشباب على التظاهر، حتى تقوم قوى الأمن بضربهم بالرصاص، فتشتعل الأوضاع! يا لها من مؤامرة، وحلها الوحيد ان لا تطلق قوى الأمن الرصاص على المتظاهرين، فهل تفعل؟.

بدا النظام غير قادر على ضبط عناصره، ففي مساء 13/7/2012، أطلقت القوى الأمنية في العوامية النار على شاب لا يتجاوز عمره 17 عاماً فأردته قتيلاً. وظهر تصريح رسمي يقول بأن هناك 4 شبان كانوا ينوون مهاجمة مخفر شرطة العوامية بزجاجات المولوتوف، وأن أحدهم قُتل وهو عبدالله جعفر الآجامي، فيما جرح آخرون. المخفر محصن من كل الجوانب، وبه كاميرات، ولم يقدم النظام أية دليل على أن ما يزعمه صحيح. بل أنه قدّم شيئاً مضادّاً له. أولاً قام جنوده بعمل استفزازي جديد، حين وضعوا جثة الشهيد الآجامي في المرحاض لينزف، ووزعوا شريط فيديو بذلك بعد أقل من نصف ساعة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال جيش المباحث التابع للداخلية. كان ذلك اهانة للكرامة البشرية قبل كل شيء. ولما كان الفعل مستهجناً، كما أدرك النظام، عاد وسرّب صورة للشاب الشهيد وهو يلبس حذاء عسكرياً، ولكن الغباء الرسمي أظهر رجل أمن وهو يلبس النعل الذي كان الشاب يلبسه! أي أنه جرى استبدال الحذاء بالنعل! لكي يتهم الشاب بأنه مدرّب وعسكري!

نحو خمسين ألف متظاهر ومتظاهرة خرجوا في تشييع الشهيد الآجامي بألم وغضب.

لازال الوضع متوتراً، وفي كل مساء هناك أنشطة وفعاليات وتظاهرات ومواجهات أيضاً بما فيها قطع طرقات. تتحدث الوسائل الإعلامية المحلية عن أن الوجود الحكومي داخل المدن الشيعية العديدة بدا شبه معدوم. وأن المواطنين المتطوعين هم من يوجه المركبات (بعد إغلاق الإشارات الضوئية) من قبل النظام إمعاناً في الفوضى.

المستقبل

من تظاهرات الإحتجاج في القطيف على اعتقال النمر

الى متى سيستمر هذا الوضع؟ هذا امر غير معلوم.

هل يمكن ان يتصاعد الوضع أكثر فأكثر؟ ربما، فذلك يعتمد على سياسات النظام نفسه بدرجة أساس.

المملكة السعودية بحاجة الى تغيير هيكلي لتجاوز محنها ومشكلاتها. هي بحاجة الى إصلاح لم يأتِ بعد. ودون الإصلاح تتجه الأنظار الى تغيير راديكالي، يطيح بالنظام نفسه. فما أكثر الأصوات التي تتعالى بإسقاط حكم آل سعود. المواطنون لا يأملون تغييراً يقوم به النظام بنفسه. المستبد لا يصلح نفسه إلا بضغوط. وحين لا يستجيب الى معطيات الشارع تتجه المطالب لتتخذ مطلب التغيير الراديكالي.

النظام السعودي يلقي بكل مشاكله على الخارج. فكلما اعترض فرد أو جماعة، اتهم بالخيانة والعمالة للأجنبي، في حين أن آل سعود انفسهم ومنذ نشأة دولتهم في حضن الأجنبي، لازالوا يتنقلون من حضن غربي الى آخر. النظام لا يريد أن يعالج المشكلات التي صنعها بنفسه. هو يصور الأمور على أن القضية مجرد بضعة اشخاص تحركهم ايدي أجنبية، وهذا يعطي الإنطباع بأن الإصلاح بعيد المنال. وحين تبقى المشاكل قائمة، فهذا يعني أن الحل الأمني هو السبيل الوحيد لمواجهة المعترضين: السجن والإعتقال، وقبل ذلك القتل، وبعده الطرد من الوظيفة، والمنع من السفر، والتهديد المستمر والإزعاج بالتحقيق وغيره.

لا حلول في الأفق. في أقصى الحالات هناك بعض التنفيس، حيث أقدم النظام على اطلاق سراح عشرات من المعتقلين في مناطق مختلفة من المملكة. هذا لا يكفي حتى للتنفيس! بوجود عشرات الألوف من المعتقلين، وبوجود سخط عارم يلف كل المناطق والفئات.

يبدو النظام أعجز من أن يصلح نفسه، وهو أكثر عجزاً للقبول بتحدّي الشارع. قد يحاول تهدئة الوضع ولكن دون تنازل حقيقي. ودون معالجة للمشكلات. وبمجرد أن يميل الوضع الى الهدوء سيعيد الكرّة اعتقالاً وقمعاً. هذه السياسة تم تجريبها مراراً وتكراراً خلال العامين الماضيين.

الى أين تتجه المنطقة الشرقية؟

ربما الى التصعيد أكثر فأكثر. لا يرجح أن يطلق سراح الشيخ النمر، ولا السجناء المنسيين، ولا إيقاف التمييز الطائفي، بل على العكس ازداد التمييز، وازدادت لغة التحريض في كل وسائل اعلام النظام، ومنابره الدينية، ومباحثه التي تكتب في الصحافة ومواقع التواصل الإجتماعي. إنه يهدد بقتل الملايين من الشيعة وطردهم بصورة علنية. ترى ماذا تبقى من وحدة وطنية؟ ولماذا ينزعج إن طالب المواطنون المهددون بالإنفصال عن مملكة آل سعود؟

من الواضح ان الأزمة ستستمر في المنطقة الشرقية وغيرها من المناطق. والخوف لدى الغرب هو من أن تتفجر الأوضاع فتصيب إمدادات النفط بعاهة في هذا الوقت العصيب الذي يشهد فيه الإقتصاد العالمي أزمة حقيقية. فما لا يعتقد أنه سيحدث، ربما حدث، إن استمر القتل، واستمر التمييز الطائفي والمناطقي، واستمرت المعالجات الأمنية لمشاكل لا يريد النظام الإعتراف حتى بوجودها.

هذا يفتح باباً جديداً من التدخل الدولي. ففي ظل الإستقطاب الحادّ اليوم في العالم، ليست فقط واشنطن وشقيقاتها الغربيات من يطالب بمعالجة وإصلاح للنظام السياسي السعودي، حتى لا تنجرّ السعودية كدولة الى أزمة داخلية غير محسوبة.. بل حتى القوى الأخرى تخشى من التوتر في منطقة النفط. الصين مستورد كبير للنفط. وروسيا اللاعب الجديد في الساحة السياسية، نددت في 12/7/2012 بما جرى في المنطقة الشرقية، على لسان مفوض وزارة الخارجية الروسية لحقوق الإنسان قسطنطين دولغوف الذي قال: (نأمل ان تتخذ سلطات المملكة كافة الاجراءات الضرورية من اجل تطبيع الاوضاع في المناطق الشرقية للمملكة، وتمنع حدوث صدامات جديدة على أسس طائفية، وتضمن مبادئ حقوق الانسان المعمول بها ومن ضمنها حق التعبير وحرية التظاهر السلمي كما جاء في القانون). وأشار دولغوف، الى ان الحادث الذي حصل مؤخرا، يمكن ان يؤثر بصورة سلبية على استقرار وتوافق المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية، مضيفاً بأن الشعب في المنطقة الشرقية بالسعودية كان يحتج (ضد التدهور الحالي وفقا لرأيهم في حقوق المجتمع الشيعي من جانب سلطات المملكة).

اصاب الحكومة السعودية شيء غير قليل من الانفعال، فهي تشهد ولأول مرة اهتماماً خارجياً في شأن محلّي، والعادة ان السعودية تتدخل في شؤون كل الدول الداخلية، ولكن إذا ما جاء الأمر الى دائرتها الخاصة تذرعت بمقولة (هذا شأن داخلي). السعودية في 15/7/2012 أدانت التصريحات الروسية، وقدمت روايتها بأن مهاجمين مجهولين قتلوا المتظاهرين، ونسبت وكالة الأنباء السعودية لمصدر مسؤول قوله: (اطلعت المملكة العربية السعودية باستهجان واستغراب شديدين على التصريح الصادر عن عن المملكة والذي يشكل تدخلا سافرا وغير مبرر بأي حال من الأحوال في شؤون المملكة ويتنافى في الوقت ذاته مع الأصول والقواعد السياسية والدبلوماسية). وزاد المصدر: (تستنكر حكومة المملكة هذا التصريح الذي تعتبره عدائيا فإنها تود أن تذكر المسؤول الروسي بأن المملكة كانت ولا تزال حريصة على احترام قواعد الشرعية وسيادة الدول واستقلالها ونأت بنفسها عن التدخل في شؤونها الداخلية، بما في ذلك حرصها على عدم التدخل في شؤون روسيا، وسياساتها في التعامل مع الاضطرابات داخل حدودها والتي أودت بأرواح العديد من الضحايا)!

في اليوم التالي ردّت الخارجية الروسي على التصريح الرسمي السعودي على لسان دولغوف، حيث قال بأن البيان الرسمي الروسي واضح ولا يقبل التفسير (فنحن أعربنا عن القلق الشديد من الوضع الناشئ في المناطق الشرقية لهذه البلاد. ان الوضع هناك متوتر للأسف. وهذا يشكل خطرا على الأمن في المنطقة بأسرها)؛ ونفى التدخل في شؤون السعودية الداخلية، مضيفاً: (نحن نتابع بإهتمام الالتزام بحقوق الانسان في العالم كله. ومثل هذه الحوادث أثارت وتثير القلق الشديد لدينا. لكننا لا نشير الى السلطات أبدا حول ما يجب ان تفعله. واتهامنا بالتدخل في الشؤون الداخلية لا أساس له البتة).

من المؤكد أن المنطقة مقبلة على تحولات دراماتيكية في ظل استقطاب اقليمي ودولي حادّ، وإن أي حدث يقع في المملكة سيكون على الأرجح مادّة في الصراع، مثلما تفعل المملكة نفسها إن وقع أمر في بلدان أخرى، بما فيها روسيا. لا تستطيع الرياض أن تنأى بنفسها عن التأثيرات الخارجية طالما أنها تنتمي الى حلف أمريكي غربي يقابل حلف الصين وروسيا وايران، وليس أمامها إلا تحصين نفسها عبر الإصلاحات، وإلا فإن التغيير الجذري سيقتلع النظام العجوز عاجلاً أم آجلاً.

الصفحة السابقة