وفاة نايف تطلق نفثة مصدور، وأمل ضحيّة!

ويومئذ يفرحُ المُعذَّبون!


ملف المعتقلين الذين وصل عددهم نحو ثلاثين ألفاً يكاد ينفجر بوجه العائلة المالكة احتجاجاً وربما انتفاضة وعنفاً. دعوات اطلاق سراح المعتقلين مستمرة، وآل سعود مرتعبون ولكنهم رعناء يسعون لتنفيس السخط والإحتقان باطلاق أقل عدد من الأفراد، بحيث لا يستكمل إطلاق سراح البقية حتى بعد عشرين عاماً!


محمد فلالي

لم يحدث في تاريخ مملكة آل سعود الحديث ما حدث حين وفاة نايف المفاجئة في جنيف الشهر الماضي!، لا بعد وفاة مؤسس الدولة ابن سعود عام 1953، ولا بعد وفاة ابنه الملك سعود منفياً في اليونان عام 1968، ولا بعد مقتل الملك فيصل على يد ابن اخيه فيصل بن مساعد في مارس 1975 بتآمر من فهد (الملك فيما بعد)، ولا بعد وفاة خالد عام 1982، رغم أن مزاعم تحدثت عن تسميمه على يد الجناح السديري؛ ولا بعد وفاة فهد نفسه عام 2005، ولا بعد وفاة سلطان ولي العهد في أكتوبر 2011 الماضي.

لم يحدث أن سببت وفاة ملك أو ولي عهد أو أمير إثارة مثل الإثارة التي سببها موت نايف. والسبب أن الرجل كان مثار جدل بين المواطنين. لم يكن محبوباً بالطبع لدى أكثريتهم. كما لم يكن أثيراً لدى عدد من إخوانه وأشقائه: تركي، عبدالرحمن، متعب، طلال، وغيرهم.

سبب آخر، يعود الى الرجل نفسه، وهو نايف: فقد كان من أشرس الأمراء، وهو الوحيد الذي توفي وهو يتولى وزارة الداخلية، سيئة الصيت. ليس هذا فحسب، فإنها للمرة الأولى في تاريخ البلاد يكون فيها هذا العدد الهائل من المعتقلي السياسيين ومعتقلي الرأي، والممنوعين من السفر. لهذا كان لموته معنى عند الضحايا!

جثمان نايف

زد على ذلك أن وفاة نايف تأتي في وقت غير مسبوق من الوعي الشعبي، ومن السخط الذي شمل كل طبقات ومناطق وقبائل المجتمع المُسعود! جاءت وفاته في وقت تصاعدت فيه المطالب الشعبية بالتغيير الى أوجها، حيث الإضرابات والإعتصامات والإحتجاجات، والتظاهرات والشغب وحتى إطلاق الرصاص من قبل السلطة وسقوط شهداء مضرجين بدمائهم. وقد لعب نايف دور البطولة في قمع هذا الحراك المتنامي، وكان الرجل الذي توجهت اليه سهام الغضب الشعبي، واعتبر رمز الطغيان في مملكة آل سعود، بحيث لم تنل شخصية من العائلة المالكة هذا القدر من الكره بمثل ما ناله نايف بن عبدالعزيز، الذي كان مسؤولاً ليس عن القمع المباشر فحسب، بل وعن تكميم الإعلام، والتلاعب بالقضاء، والفساد وغيره. في الحقيقة كان الرجل الذي تمثّلت فيه كل ملامح الطغيان والشرّ.

بديهي أن وفاة شخصية مثل نايف، كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول الى كرسي المُلك، مع أنه كان بالفعل الملك غير المتوّج، وكان يدير أجهزة الدولة في حضور ضعيف لملك جاهل يزحف نحو حافة قبره.. بديهي أن تحدث ردود فعل تتناسب مع موقعه وما فعله.

لم يقابل الجمهور وفاة نايف بلا إباليّة كما هي الحالة مع الملوك والأمراء السابقين، بل كشفت وفاته عن أن الأكثرية كانت سعيدة بوفاته، سعيدة بأن ملك الموت قد قبض روح شخص طالما سامهم العذاب. ولذا انفجر الجدل بين مؤيدي النظام ورجال استخباراته ومباحثه ولاعقو أحذيته، وبين تلك الأكثرية السعيدة حقاً. قيل لضحايا نايف: لماذا تفرحون بوفاة (أسد السنّة)؟ لماذا اعتبرتم ذلك يومٌ من أيام الله!، في حين أن الحديث يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)!

أخذ الصراع صفته السياسية المحضة، وجاء مشايخ ومتعلمون وفنّدوا أن حديث (المحاسن) إنما هو حديث ضعيف، يتشبّث به (أيتام نايف) ليخرسوا الألسن التي عبّرت عن فرحها لموته، وليحجروا على الأقلام التي سارعت للكتابة عن أفعاله الشائنة هو وعائلته الصغيرة كما عائلته الكبيرة (آل سعود)، فكانت محاكمة صريحة للعائلة المالكة شارك فيها الكثيرون بأسمائهم الصريحة وغير الصريحة، على شبكات التواصل الاجتماعي.

تعبيرات الفرح بموت نايف ظهرت على الإنترنت، ومواقع التواصل الإجتماعي، بل وعاشها مواطنون على أرض الواقع. بعضهم احتفل مع عائلته واصدقائه بذلك: أقاموا ولائم، وقطعوا الكيك مكتوباً عليه (مات نايف). بعضهم سجد لله شكراً. بعضهم ـ كما في المنطقة الشرقية ـ خرجوا الى الشوارع ووزعوا الحلوى ابتهاجاً بوفاة الطاغية الذي أمر بضرب ابنائهم بالرصاص وقتلهم في تظاهراتهم السلمية. بعضهم صمت ولم يحر جواباً وكأن الأمر لا يعنيه (اي وفاة نايف)، ربما لأنه لا يريد أن يدفع ثمن ابتهاجه كتابة، ولكنه لم يترحم على وزير القمع.

بن علي ونايف

كثيرون كتبوا وعلّقوا على الأمر في مواقع التواصل الاجتماعي، ابتهاجاً وهذه عيّنة مما كتبوا:

كيف لي أن أذكر محاسن ميت.. شروره لا زالت تنبض حتى بعد موته في قلوب الأمهات والزوجات والأبناء، دعوا مثاليتكم لكم، ودعوني أشارك المظلومين فرحتهم.

ارتفع التكبير وسجدنا شكراً حين زف لنا خبر موتك. هل تظن أن كرهنا لك لخيرك أم لجبروتك وطغيانك؟

اعتقل أبناءنا وآذى نسائنا، وجعلنا على مدار الأعوام الفائتة ندور بين المعتقلات، ثم يريدون منا أن نحزن.

هل تتوقعون مني أن أحزن على وفاة نايف وقد أهان وعذب أخواي ووالدي تسع سنين والله يا نايف ليكونن لنا وقفة معك يوم لا ينفعك مالك ولا سلطانك.

مشهد لا يوصف عندما أخبرت إخواني وأخواتي بموت الظالم نايف بن عبد العزيز الذي حرمهم من والداهم 8 سنوات: كلهم سجدوا شكراً لله تعالى.

كيف لي أن أحزن على موته، وهو من حرمني من أبي منذ 8 سنوات ! لم ولن أحزن. أحزن على ماضيه الأسود؟ أم على ماذا؟.

تباين في المواقف بالنسبة لوفاة نايف، لكن الأكيد أن اليوم هو يوم عيد لمن نشأ يتيماً وأبوه معتقل لعشرات السنين دون محاكمة ولا عزاء للعبيد.

بأمره سجن والدي دون تهمة ثمان سنوات، ولم يحاكم ، وأصيب بالسكر وبرعشة في جسمه سقط مغشياً كذا مرة.. ثم يقال مات. حلوه !

سبحان من أبدل دمعتي بالأمس وحزني، إلى فرحتي بهذا الخبر. لك الحمد ربنا. ما سوّى لي شي كايد، بس اعتقل زوجي من 11 سنة وللآن معتقل، ورملني ويتّم أطفالي.

إن كانت دموعكم تجري لفقد الأمير فمآقينا جفت لبعد الأسير، امسحوا دموعكم وانقذوه من سوء المصير.

مات نايف، فأمل المعتقلون وأهاليهم النجاة، ربما بمراجعة من العائلة المالكة التي بدت وكأنها خسرت أهم عمودين تتكئان عليهما في ظرف أشهر قليلة: سلطان ونايف. تصور المواطنون، وهو صحيح، أن العائلة المالكة مربكة ضعيفة، وان عدم الإستقرار الأمني والسياسي صار واضحاً، وطفت الصراعات بين الأمراء على السطح، وصارت تتداول علناً، بل أن بعض الأمراء اخذ بالتصريح عن ذلك: طلال للقدس العربي مثلاً. كان واضحاً ضعف العائلة المالكة بفقدان شيوخها، وبدون صناعة بدائل لهم، كما كان واضحاً هرم السلطة ككل وعجزها عن الفعل والمبادرة والإصلاح وحتى توفير الحياة الدنيا الكريمة لمواطنيها رغم وفرة الأموال. انه الفشل الأكبر، في رأس السلطة وبيروقراطيتها وقنواتها الموصلة للمجتمع. وإنه الفساد (الملكي!) الذي يتغوّل ويلتهم معظم إيرادات النفط.

نايف مع مبارك

انحدار شرعية النظام وضعف بنيته كانا واضحين تماماً بموت نايف، وبالطريقة التي تم بها تعيين خلفه سلمان بعد يومين من وفاته، دونما حاجة الى اجتماع هيئة البيعة ولا غيرها! فقد قتلها من أسسها وهو الملك عبدالله نفسه! الذي لم يشأ أن يتكرر الصراع مرة اخرى بين ابناء عبدالعزيز كما حدث في جلسة تعيين نايف المرفوض حتى من أشقائه فكيف بإخوانه!

إزاء هذا الضعف، طفق أبناء وزوجات وعوائل المعتقلين الكثر الى دعوة الأمراء بشكل مباشر وعلني الى اطلاق سراح المعتقلين، على الأقل تخفيفاً على نايف في قبره، وأمام الحساب بين يدي ربّه!

كتب الكثيرون ناصحين بأنه آن الأوان لأطلاق سراح المعتقلين وهم بعشرات الألوف قبل أن ينفجر الملف بوجه النظام والعائلة المالكة. هناك مبرر لفعل ذلك: تصاعد السخط العام والإحتقان والاحتجاج والتظاهر والتهديد بالثورة وغير ذلك أي ان هناك حاجة لتنفيس الاحتقان قبل ان ينفجر. وهناك من جهة أخرى مبرر بداية سياسة جديدة لأمراء جدد في الداخلية، بحيث لا يُنظر الى الأمر وكأنه تنازل من الأمراء، بل هناك مناسبة وصول رجال جدد الى المسؤولية المباشرة في الداخلية، وهناك شهر رمضان على الأبواب، وغير ذلك.

لكن الأمراء كانوا يرون صورة أخرى. كانوا يريدون أن يثبتوا للجمهور بأنهم ليسوا ضعفاء رغم رحيل الأقوياء؛ وأنهم لن يتنازلوا بحيث يبدو الخلف (أحمد وسلمان) أقلّ بطشاً من السلف (نايف وسلطان). وحين ظهرت تظاهرات الحياة مول ثم تكررت: اعتقل نساء ورجال، ولازالوا في السجن. هذه كانت رسالة الأمراء. نحن أقوياء و(السيف الأملح لازال بيدنا)، ولسان حالهم: (لا إصلاح، ولا تراجع عن الاعتقالات، ولا محاكمات. ومن يرفع خشمه نكسره)!

الرسالة واضحة تلك التي وصلت لعموم السكان في كل المناطق، وإن كانت الرسالة موجهة في الأساس لمنطقة نجد، التي ينحدر منها أكثر المعتقلين المتهمين بموالاة القاعدة والدفاع عنها، والذين لم يحاكموا، ولم تثبت عليهم تهمة.

في 8 يوليو الجاري، ولتأكيد السياسة المتشددة من قبل وزير الداخلية الجديد وفريق الحكم الملكي، تم الهجوم بالرصاص على الشيخ نمر النمر، أحد زعماء الطائفة الشيعية، فجرح واعتقل ونشرت الحكومة مقاطع فيديو طائفية وصوراً لحادثة الإعتقال. الرسالة الحكومية واضحة: هانحن ضربناه بالرصاص واعتقلناه، فانتبهوا يا أهل نجد ويا سكان المناطق الأخرى: نحن أقوياء، ومن يرفع رأسه يعرف الجواب!

لكن تداعيات اعتقال الشيخ النمر غيرت المعادلة وخرّبت على النظام ما قد خطط له. لقد ثارت الشرقية ونزل عشرات الألوف الى الشوارع نساء ورجالاً يواجهون الرصاص ويهتفون: (الشعب يريد اسقاط النظام) و (الموت لآل سعود) وغيرها من الشعارات. لم يفلح الرصاص في إيقافهم، وخشي الحكم من أن المزيد من الضحايا القتلى والجرحى قد يؤدي الى اشتعال المنطقة وربما تفجير أنابيب النفط نفسها، كما هدد بعضهم.

ليس النظام وحده من تفاجأ برد الفعل الشعبي العاطفي الحادّ غير المتوقع، الذي ترافق معه شغب: حرق اطارات وحاويات زبالة وقطع الطرقات الرئيسية، والقاء زجاجات المولوتوف، وغيرها.. بل أيضاً تفاجأ المواطنون في بقية المناطق بوقفة التحدي هذه التي لازالت مستمرة، حيث المظاهرات اليومية، والفعاليات المنتشرة في مدن وقرى المنطقة الشرقية. وإزاء ما كان يُعرض على اليوتيوب من صور التظاهرات الضخمة، وبسبب الشعور بأن النظام ضعيف حقاً رغم محاولة استعراض العضلات، وأنه يمكن قهره ومواجهته كما يفعل أبناء محافظة القطيف، خرجت في بريدة احتجاجات، ثم جرى في سجن الحائر مواجهات مع الجلادين، ولحق بها ما يشبه الاعتصام لدى الأهالي عند السجن بعد سماعهم خبر مقتل بعضهم، وتكررت التظاهرات مرة ثالثة في الشوارع بالسيارات التي تحمل يافطات تطالب باطلاق سراح المعتقلين.

التطور الخطير على الأرض وتصاعد السخط، دفع بالنظام الى البدء باطلاق بضعة معتقلين كل أسبوع، بمن فيهم نساء طالبت قاعدة اليمن والجزيرة العربية باطلاقهن وحددت أسماءهن، مقابل الإفراج عن القنصل السعودي في عدن عبدالله الخالدي!! لكن الأعداد القليلة ممن أطلق سراحهم لا تكفي حتى لمجرد إحداث تنفيس جزئي في أية منطقة من المناطق. الوضع حرج حقاً، والنظام لا يريد أن يعطي أية إشارة الى أنه تراجع، وأنه ضعيف، مع العلم أن الجميع يعلم أن شرعيته في انحدار، وأنه برجاله وأمرائه يسيرون في منحدر لا يتراجعون عنه.

نحن مقبلون على تغيرات، مصدرها الجمهور، وليس النظام وأمراءه. لسنا بعيدين عن ذلك البتة!.

الصفحة السابقة