دولة البذاءة

نقل مصدر على صلة وثيقة بشؤون العائلة المالكة بأنه استمع ذات مرة للملك فهد وهو يعنّف أحد أعضاء هيئة كبار العلماء البارزين جداً، إذ تلفّظ عليه بكلمة لا تقال الا في أماكن محدّدة يعرفها أصحاب الغايات الدنيئة. قال له يا (إبن...)، ويكفي عدم ذكرنا للفظ إشارة الى بشاعته وبذاءته، فأرخى الشيخ رأسه الى الأرض منكسراً خجلاً.

ولدى المناضلين والناشطين والحقوقيين ورجال الدين من كل الاتجاهات وخلال فترات اعتقالاتهم في تسعينيات القرن الماضي قصصٌ حول تعنيف أمراء لهم وقاموس الشتائم التي استمعوا لها لأول مرة، بل إن العقلية الدنيئة لدى العائلة المالكة دفعت بعضاً منهم لتلطيخ سمعة خصومهم..

في أدبيات روّاد التنوير الاسلامي أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي ما يلفت الى انعكاس طبيعة الدولة على تنشئة الرعيّة، فإن كانت الدولة قائمة على تنمية الإخلاق الفاضلة، والشمائل النبيلة، والقيم الإنسانية السامية تربى الشعب على ماقامت عليه الدولة، والعكس صحيح..فإن كانت البذاءة لغة أهل الحكم، والدناءة وسيلة تعاطيهم مع من سواهم، فلا غرو أن تجد صدى لها في لغة التداول اليومي عند بعض من خضع تحت تأثير دناءة النخبة الحاكمة..

ونرى بأن ما أصاب المجتمع من تسافل في اللهجة المتداولة في الحوارات الجارية والمساجلات الهابطة على شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصاً (فيسبوك وتويتر)، إنما هو لغياب تنشئة أخلاقية صحيحة الى جانب التنشئة الدينية والقانونية، فقد انفصلت العقيدة عن الأخلاق، والدين عن التربية، ولذلك تجد الكلام البذيء أكثر ما يصدر عن أناس ينتمون الى التيار الديني، بل ممن تغلب عليهم المظاهر الدينية.

لاشك، أن كل ما يصدر من كلمات هابطة وشتائم بذيئة لا تمثّل سوى أصحابها، ولا يجب أن تحسب على أي طائفة مهما كانت صلة من تصدر عنه، ولكن ما يلزم إلفات الإنتباه له أن عدد الضالعين في مثل حملات الشتائم تلك يزداد دون وجود رادع قانوني وقضائي.

عمّا قريب، إعتقد الشتّامون بأنهم بمنأى من الرقابة ما يجيز لهم مواصلة مهاراتهم الدنيئة في (ابتكار) الشتائم وألوان القذف ضد من يختلفون معه، ولذلك كان هؤلاء يصولون ويجولون في مضمار التواصل الإجتماعي، فيقذفون هذا، ويشهّرون بذاك، ويسلبون حق هذاك في التعبير عن رأيه، ويصادرون حرية تلك في أن تبوح بما يجول في خاطرها..وكل ذلك يتم تحت أسماء وهمية أو ما يطلق عليه (التويتريون) بـ (البيض)، أو من جهلة لا يدركون عواقب ما يكتبون اعتقاداً منهم بأنّهم يلبّون نداء الواجب الديني!

في أول سابقة في تاريخ (التغريد)، يتم تغطية (تراث) البذاءة في (تويتر)، كيما يكون كاشفاً عن طبيعة الإسفاف والهبوط الذي بلغه الجمهور السعودي. تويتر كشف منسوب البذاءة في مجتمعنا، حسب تركي الحمد، وقد دفع بها الى السطح حيث يتم اطّلاع العالم على اللغة المتداولة بين المغرّدين السعوديين.

في تحقيق بعنوان (السعودية: أول أمرأة رياضية أولمبية في المملكة تدعى “عاهرة) نشر في 25 تموز (يوليو) الماضي، وضع في مقّدمته عبارة مثيرة واستفزازية (هذا جزء من تغطيتنا الخاصة لأولمبيات لندن 2012)، وعرض فيه خبر مشاركة رياضيتين في الدورة، ولكن في تويتر، فإن نبأ مشاركتهن في الألعاب أشعل ردود فعل من نوع آخر، بما في ذلك وضع هاشتاق يصفهن بـ (عاهرات الاولمبياد). ومع أن الرياضيتين لن تشاركا في الألعاب إلا ضمن شروط خاصة: عدم المشاركة في ألعاب مختلطة، وارتداء ملابس محتشمة.

في تويتر تبعث البذاءة في ألفاظ المغرّدين على الشعور بالخزي إذ تصدر مثل تلك التعليقات من مواطنين يتحدّثون عن نساء بألفاظ نابية ودنو أخلاقي غير متوقع. الجوهرة، ردّت على من يقوم برمي الرياضيات بالقول (تذكرونني بأوربا العصور المظلمة, تشتمون هذا و تقذفون تلك باسم الدين. الدين براء منكم). أما رشى الدواسي فتقول (المسلمات من شتى الدول الاسلامية يشاركن في الاولمبياد منذ سنين..لكن لا تكون الرياضة عهر إلا اذا مارستها سعودية؟)..

ألفاظ بذيئة وعبارات هابطة صارت ترمى في الهاشتاق المخصص للرياضيات، ولم يتورّع بعضهم عن إطلاق كل غرائزه الشريره لأن يقول ما لا يقال في أدنى الآدميين مقاماً وخلقاً، ولكنّ قيلت في رياضيات لم يسمع كثيرون بأسمائهن، حتى استسهل هؤلاء قذفهن والنيل من شرفهن وأعراضهن..هل لذلك علاقة بدين أو أخلاق، أو وعي مدني؟

السؤال: هل جرّمت الدولة من قام بقذف الرياضيات بصرف النظر عن الموقف من مشاركتهن في أولمبياد لندن، وقبل ذلك هل أصدرت الحكومة قانوناً واضحاً وصارماً يجرّم (التشهير) و(القذف)، كما يجرّم من يحرّض على (الكراهية) و(العنف)، أم أن الأمور متروكة لمزاج السلطة ورجالها بأن تطبق هذا القانون أو تعطله وربما توقف العمل به..

لماذا يجد الشتّامون فضاءً واسعاً ومجالاً رحباً كيما يمارسون هوايتهم الوحيدة في القذف والتشهير والشتم ضد من يختلفون معه، لو لم تكن الدولة قد أغمضت العين عن رضى حيناً وغفلة حيناً عن هؤلاء كيما ينشغل المواطنون في بعضهم ويخرج أهل السلطة منها سالمين غانمين..

السؤال الصادم: لماذا ينفرد السعوديون دون سواهم من شعوب الأرض في (إتقان)، و(اختراع)، و(تعميم) كل لفظ بذيء وسب وقذف ولهجة سافلة وهابطة، حتى صاروا كالشاعر الحطيئة الذي حين لم يجد من يهجوه راح يهجو نفسه، فإذا بمواطنين ينالون من شركائهم وشريكاتهم في الوطن فلا يدعون كلمة في قاموس الشتائم إلا وأوردوها..حتى صارت لدنيا دولة البذاءة!

الصفحة السابقة