دولة الشياطين

سئلت مراراً عن سر الموقف السعودي الرسمي الباهت من الفيلم المسيء لرسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وجال الفكر طويلاً في حوادث سابقة لعل ثمة ما يسعف على التوصّل الى إجابة مقنعة..وعدت الى الإرشيف فوجدت ما يثير الدهشة!

في 9 نيسان (إبريل) 1980 عرضت قناة تلفزينية بريطانية مستقلة فيلماً بعنوان (موت أميرة) يصوّر قصة حب بين أميرة سعودية تدعى مشاعل وشاب لبناني كانا يدرسان معا في الجامعة الاميركية ببيروت، وبعد أن اكتشفت الاسرة المالكة قصة الحب هذه قامت بتنفيذ حكم الاعدام بالأميرة وذلك في صيف عام 1977. الفيلم تضمّن مشاهد أخرى من حياة القصور وما يدور فيها من حفلات ماجنة وقصص البذخ.. وقامت بعض دور السينما في أوروبا بعرض الفيلم لفترة قصيرة جداً..

رد الفعل السعودي الرسمي كان بركانياً وعاصفاً، فقد اعتبرت الاسرة المالكة عرض الفيلم بمثابة حرب على الإسلام وحمّلت المسلمين قاطبة مسؤولية الدفاع عن الاسلام (= سمعة الاسرة المالكة). وفي مقابلة مع صحيفة (عكاظ) المحليّة في تاريخ 16 نيسان (إبريل) 1980 صرّح وزير الداخلية السابق الأمير نايف بن عبد العزيز: (أنه مقابل هذا العمل العدواني ضد الإسلام والمسلمين يجب أن يقابل بعمل مماثل يدحره والمسئولية هنا على الجميع، فالأمر لا يخص المملكة العربية السعودية وحدها ولا يخص حكومتها بل يخص المسلمين جميعاً).

تصريحات أخرى مماثلة صدرت من مسؤولين رسميين، كما ندّدت رابطة العالم الاسلامي التي يديرها آل سعود اعتبرت الفيلم (تشويهاً للإسلام ومخطط واسع النطاق يستهدف الاسلام والأمة العربية). وصرّح أمين عام الرابطة لوكالة (واس) بتاريخ 13 نيسان (إبريل) 1980 (أن الإسلوب الذي تمارسه هذه الأجهزة التي تسيطر عليها القوى الصليبية والصهيونية العالمية ضد المسلمين ومعتقداتهم هو أسلوب دعائي)..

بل جاءت عناوين الصحف المحلية في رد الفعل على عرض الفيلم غاضبة بطريقة لافتة على سبيل المثال: (الجزيرة): قادرون على ردع الأعداء وحرب الصحوة الإسلامية. (الندوة): الحملات المسمومة ضد الاسلام. (البلاد): الحملات المغرضة. (المدينة): المسلمون لن يسكتوا على المكائد. ونقلت صحف خليجية أن صحافيين سعوديين حثّوا على الرد بالعنف باستخدام كافة الأسلحة التي تمتلكها المملكة وفي مقدمتها الحرب الاقتصادية. أما مجلس القضاء الاعلى السعودي فنعت الفيلم بـ (الفيلم الكافر)..

تواصلت المواقف التصعيدية، الى حد المطالبة بطرد السفير البريطاني وسفراء أوروبيين آخرين عرض الفيلم في بلدانهم، وجنّدت الحكومة السعودية كل علاقاتها الدبلوماسية من أجل توحيد الموقف ضد بريطانيا للضغط عليها من أجل وقف عرض الفيلم ومقاضاة القناة التلفزيونية التي قامت بعرض الفيلم..وكانت النتيجة أن قررت الحكومة السعودية مقاطعة البضائع البريطانية وبلغت العلاقة بين البلدين الى نقطة القطيعة وتوتّرت العلاقات بين ال سعود وعدد من الدول الغربية التي سمحت بعرض الفيلم لفترة طويلة..

بعد ثمان سنوات من حادث عرض الفيلم، صدر كتاب في بريطانيا نفسها للمؤلف من أصل هندي سلمان رشدي بعنوان (آيات شيطانية) عن دار (فايكنج بنجوين) وتضمن الكتاب قصصاً قادحة في شخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونبي الله ابراهيم عليه السلام وبعض صحابة الرسول (ص) وزوجاته. الكتاب وبصرف النظر عن كل ما قيل عن أبعاده الأدبية والسردية فإنه تطاول على نبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم. السؤال ماذا كان رد فعل النظام السعودي؟

للتذكير فحسب، فإن الكتاب فجّر موجة غضب عارمة في كل أرجاء العالم الاسلامي، وعمّت التظاهرات الشعبية الغاضبة كل العواصم الاسلامية والاوروبية..أما بالنسبة للنظام السعودي، فكان الموقف باهتاً، بل ما يبعث على الغرابة أن إدراج موضوع كتاب (آيات شيطانية) في اجتماع وزارة خارجية الدول الاسلامية الذي انعقد في جدة في آذار (مارس) 1989، إنما جاء بطلب من ايران بوصفها عضواً في المنظمة..وجاء اعلان الخبر بطريقة باهتة، حيث ذكرت وكالة الانباء الاسلامية في جدة في 8/3/1989 (أنه تمّ إدراج الجدل المثار حول المؤلف البريطاني سلمان رشدي وكتابه “أشعار شيطانية” رسمياً في جدول أعمال اجتماع وزراء خارجية الدول الاسلامية).

اليوم، وبعد الغضبة العارمة التي انطلقت في كل أرجاء العالمين العربي والاسلامي حيال الفيلم المسيء لنبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم والذي عرض على موقع (يوتيوب) وموّله قبطي حاقد وأنتجه صهيوني معلول، لم يسجّل النظام السعودي موقفاً يرقى الى ربع الغضب الذي تفجّر في فيلم (موت أميرة)، رغم أن القصة ليس فيها ما يسيء الى الاسلام، وإن كل ما في الأمر هي عرض لقصة حب بين أميرة وشاب لبناني، وفي أعراف العائلة المالكة أن الأميرة لا تتزوج الا أمير، ولكن من سوء حظ الأميرة أنها خرقت عرفاً عائلياً..هذه حدود القصة، وليس هناك ما يستوجب تلك الفورة المنفلته لدى الامراء الى درجة مطالبة الاسرة المالكة المسلمين قاطبة بالتصدي لتلك (الهجمة) على الاسلام!

الموقف السعودي الرسمي الباهت حيال الهجوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من واقعة يدلل على أنهم ليسوا معنيين بقضايا الامة، بقدر ما يعنيهم مصالح الاسرة المالكة، وقد خبرناها في مواطن عديدة فلا يكاد تخالف ما نظّنه فيها من مواقف مخزية ومخجلة.. وصلوات الله عليك وسلامه يا أبا القاسم يا حبيب القلوب.

الصفحة السابقة