ملف المعتقلين يطوّر الإحتجاجات ويرعبها:

(الداخلية) تجأر ألماً وتلوّح بقبضة أمنيّة متهافتة

أخيراً.. جاهرت وزارة الداخلية السعودية بألمها مؤكدة فعالية الحراك الشعبي المتصاعد من
أجل اطلاق سراح عشرات الألوف من المعتقلين، وأصدرت بياناً في 11/10/2012
أوضحت فيه جوانب الألم، وهددت بالمزيد من القمع!

محمد قستي

منذ عامين على الأقل، والوقفات الإحتجاجية، والمسيرات الصغيرة المتنقلة، يشارك فيها نساءً ورجالاً وأطفالاً، تطالب بمحاكمات عادلة للمعتقلين السياسيين، ومعتقلي الرأي، بعد أن فشلت كل الجهود الحقوقية المحلية والدولية وكل وسائل المناصحة للنظام بأن يحقق الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للمعتقلين، ألا وهي توفير المحاكمة العادلة. بل حتى أصل المحاكمة نفسها ـ أياً كانت طبيعتها ـ لم تتحقق، حيث يقبع الآلاف في المعتقلات لسنوات طويلة، بعضهم وصلت الى عشر سنوات، وبعض آخر ـ كما السجناء المنسيين في الشرقية ـ وصلت الى 17 عاماً فقط!

أمام وزارة الداخلية، وفي الأسواق الكبيرة العامة، في الشوارع، وأمام السجون.. في الرياض والقطيف وبريدة والدمام وتبوك والعوامية وجدة وغيرها من المدن.. مسيرات واحتجاجات وكتابات ويافطات وفيديوهات وحملات متعددة في تويتر والفيس بوك، تطالب بإطلاق سراح المعتقلين. وفي كل مرّة: يعتقل النظام المحتجين والناشطين والكتاب فيزيد من رصيده في عدد المساجين، ويبشرنا وزير الداخلية أحمد بن عبدالعزيز آل سعود، بالمزيد من السجون التي ستفتتح قريباً، وكيف أنها سجون ممتازة، تقدّم الرعاية! فيما مسرحيات محاكمة المدافعين عن حقوق الإنسان المشهورين جارية على قدم وساق، بلا علنية، وباتهامات سخيفة، تنشر تفاصيلها بعد أقل من ساعة من حدوثها للرأي العام، على مواقع التواصل الاجتماعي، نكاية بالنظام وبقضائه الفاسد، وباتهاماته المخجلة.

منذ أواخر سبتمبر الماضي، بدا أن أن هناك انعطافة في الحراك الشعبي الداخلي المطالب باطلاق سراح المعتقلين، وتتمثل الإنعطافة في حقيقة زيادة عدد الإحتجاجات والإعتصامات وتنوعها وتعدد أماكنها ووضوح المشاركين فيها من آباء وأمهات وزوجات وأطفال وأقرباء. وغالباً ما تحدث مشادّات كلامية مع مباحث النظام، قبل أن تتم الإعتقالات، وتفض الإعتصامات بالقوة، بل وكما حدث أمام سجن ذهبان ببريدة، تمّ إطلاق الرصاص من قبل جنود النظام ترويعاً، وسبقها جرّ رجال ونساء الى المعتقل دون مراعاة التقاليد والإحترام المتوقع من قبل نظام يزعم احترامها كما يزعم تطبيق الشريعة.

منذ أواخر سبتمبر الماضي، بدا أن شيئاً ما قد انكسر، فكل الممارسات القمعية للنظام والتي استهدف منها ردع المطالبين بإطلاق سراح المعتقلين لم تفد في إخماد التحركات الشعبية، والأهم فإن القائمين على تلك التحركات أصبحوا أكثر شجاعة وظهوراً وتحدياً بشكل فاجأ السلطة، وتوقعت معه ازدياداً في عدد المحتجين والإحتجاجات نفسها بأشكالها المختلفة. يمكن القول ـ وبقليل من التحفّظ ـ بأن الفترة الواقعة بين اواخر شهر سبتمبر وبداية شهر اكتوبر الجاري، مثلت انعطافة نفسية وعمليّة في قضية الإحتجاجات، وحين صدر بيان وزارة الداخلية في 11/10/2012، فإنما كان ذلك تعبيراً حقيقياً عن أن الإنعطافة قد حدثت وأن تحوّلاً (ما) في الرأي العام المحلي، كما في الممارسة السياسية المعارضة للنظام قد وقع.

مناسبة البيان واضحة المعالم من الفقرة الأولى منه، وهي تكشف موطن الألم لدى النظام. تقول الفقرة: (لوحظ قيام البعض باستغلال قضايا الموقوفين والمحكومين في جرائم الفئة الضالة، وجعلها شأنا عاماً، وذلك بتنظيم تجمعات صغيرة لفترات زمنية محدودة في أماكن عامة ومختلفة للمطالبة بإطلاق سراح محكومين أو متهمين بارتكاب جرائم إرهابية، وتصويرها بالفيديو لاستخدامها من خلال بعض وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، في تزييف الواقع بهدف تأجيج الفتنة وزرعها). لا يهمنا التفاصيل هنا، عدا أن السلطات الأمنية والسياسية منزعجة من المطالبات المستمرة باطلاق سراح المعتقلين، وتنظيف السجون من معتقلي الرأي والضمير.

لقد أضحت قضية المعتقلين السياسيين (شأناً عاماً) كما ذكر البيان بالفعل. هي قضية تمس عشرات ـ إن لم يكن مئات ـ الآلاف من الأسر وفي كل المناطق والمدن والقرى. وهي قضية تتضخم يوماً بعد آخر، حيث يجري انتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين، ابتداءً من طريقة الإعتقال، وممارسة التعذيب بحقهم بعد الإعتقال، وحرمانهم من الإتصال بالعالم الخارجي بما في ذلك أهاليهم ومحاميهم، وصولاً الى غياب القانون الذي على أساسه تجري الإعتقالات والمحاكمات ـ إن وجدت، وعدم توفر الشروط الأولية للمحاكمات العادلة، وحتى غير العادلة!

قضية المعتقلين أصبحت ككرة الثلج تكبر يوماً بعد آخر. لقد فاض الإناء بما فيه. سنوات طويلة يقضيها عشرات الألوف من المعتقلين بلا محاكمة، وبلا حقوق! ولا مسؤول يسمع شكاوى العائلات، ولا جهة يمكن التظلّم اليها، فالقضاء محكوم بيد وزارة الداخلية نفسها. هذه المسائل بالتحديد تحوي كل عناصر الإثارة والتفجير للوضع الأمني. لكن النظام بدا وكأنه واثق من سيطرته على الوضع، ورأى أن إبقاء المعتقلين يمثل تذكيراً مستمراً بأن من يعارض النظام أو يعترض على مفردة من ممارساته، سيكون مصيره السجن.

طفح الكيل، وكبرت كرة الثلج، وانعدمت الخيارات، وفشلت كل وسائل النصح، واستهلكت كل عبارات الأدب للمسؤولين في عرائض تترجى وتطالب بمجرد معرفة مصير أبنائهم أو رؤيتهم أو محاكمتهم.. فكان من البديهي ان تفتح النافذة في الشارع: مسيرات ووقفات احتجاجية واعتصامات وكتابات وتجييش في الإنترنت (تويتر وغيره) الخ.

بالإضافة الى التحولات في الممارسة الإحتجاجية في الشارع ضد النظام وطغيانه، تخلّقت معها ـ ربما للمرة الأولى ـ مشاعر تضامن جمعية بين كل الأطياف المذهبية والسياسية والفكرية، وكأن المشاعر الوطنية التي اختزلت في آل سعود أو تجاههم، تتحول تدريجياً لوحدة في المصير من خلال مواجهة طغيان العائلة المالكة.

والمدهش في هذا كلّه، أنه قد حدث انكشاف واضح في مزاعم وزارة الداخلية تجاه المعتقلين، سواء كانوا إصلاحيين، حقوقيين، ناشطين سياسيين، شيعة، سنة، صوفية، وهابية، قبليين، الخ. في الماضي كانت المزاعم التي تدلي بها وزارة الداخلية تؤخذ على محمل الجدّ، ولها مصداقية عالية، رغم أنها ليست كذلك، والسبب وجود انشطار اجتماعي قوي، بحيث كان كل طرف يقبل باتهامات الحكومة الكاذبة ضد الطرف الآخر.

فالليبرالي قبل بمزاعم النظام ضد السلفي، وربما روج لتلك المزاعم ودافع عنها، الى أن جاء دوره هو، فاعتقل واتهم بنفس التهم التي وجهت للسلفيين!

والسلفي الذي يكفر الشيعة ويعتقد بأن كل ما تقوله الحكومة من أباطيل ضد الناشطين الشيعة بما في ذلك تسويغ قتلهم الأعمى في الشوارع: صحيح وجائز، وجد أن نفس الإتهامات قد ارتدّت اليه، وصار يدان بما أُدين به الآخر من العمالة للأجنبي، والحض على الفتنة، واستخدام العنف، وغير ذلك.

والشيعي الذي قبل باتهامات الحكومة ضد السلفيين منذ التسعينيات، اكتشف ذات النتيجة، وهكذا.

الإتهامات الكاذبة التي أصابت كل فئات المجتمع وأطيافه الحقوقية والسياسية منذ عقد، صارت مكشوفة لدى الجميع، وأصبحوا يشككون في بيانات الداخلية في البداية، ثم راحوا يسخرون منها ويتندرون بها، ويتهمون من يروجها بأنه عميل للسلطة.

مصداقية البيانات الحكومية انكشفت لدى الجميع الآن، ولهذا فإن مشاعر السخط لدى جميع الأطياف السياسية والمذهبية والمناطقية تتجمع في بؤرة واحدة تشير الى ضرورة مواجهة العائلة المالكة المستبدة وخطابها البائس الذي فقد توازنه، وانتهى مفعوله.

البيان الذي أصدرته الداخلية مؤخراً يحمل الجهل والكذب معاً، وهو يدينها قبل أن يدين أي أحد آخر.

فالبيان يتحدث عن موقوفين لم تتم محاكمتهم بعد، رغم سنوات طويلة من الإعتقال، رغم ان البيان خفّف من الأمر وصور أن القليل منهم لم يحاكم، وحسب تعبير البيان (فيما لا يزال الآخرون رهن المحاكمة). الحقيقة ان الأكثرية لم تحاكم بعد. بل لا يُعلم على وجه الدقّة عدد المعتقلين، ولا عدد من ماتوا تحت التعذيب، او أطلق سراحهم كمعوقين.

والبيان ومنذ البداية وفي أكثر من موقع يسمّي المعتقلين بأنه من (الفئة الضالة) حتى قبل محاكمتهم، أي أنهم في وضع الإتهام، ثم يدين من يتعاطف معهم، ويعتبرهم مناصرين للإرهاب ـ كما في كتابات صحافيي وزارة الداخلية.

البيان يعترف بوجود حراك معارض يطالب بإطلاق سراح المعتقلين، لكنه ـ أي البيان ـ يعتبر الفعل (استغلالاً) بدل ان يقول (ممارسة لحق إنساني مشروع)، كما يعتبر تحويل قضية المعتقلين الى (شأن عام) وهي كذلك بالطبع، عملاً مضاداً للحكومة وغير مشروع، كما يعتبر البيان من يقوم بالإعتصام والإحتجاج وبتصوير ذلك وبثه على الإنترنت (تزييفاً للواقع، وتأجيجاً وزرعاً للفتنة)، وهذه اتهامات عشوائية لا أساس قانوني لها، ولا توصيف صحيح لها، مع أن الحكومة تبني على تلك الإتهامات اعتقالات جديدة!

زعم البيان بأن (جميع الموقوفين سواء محكومون أو متهمون يتمتعون بكافة حقوقهم الشرعية والنظامية والإنسانية) وكأن في هذا ردّ على الإنتقادات الواسعة للمنظمات الحقوقية الدولية والعربية والمحلية، والتي تؤكد أن حقوق الموقوفين منذ سنوات طويلة لم يتم الإلتزام بها لا وفق المعايير الدولية، ولا وفق نظام الإجراءات الجزائية، ولا وفق أيّ معيار ديني أو إنساني. ولطالما شكا المعتقلون وأهاليهم من غياب أدنى حقوق المعتقلين كالزيارة والحصول على محام للدفاع، وحق المحاكمة العادلة، والزيارة العائلية وغيرها. وما أكثر الإنتهاكات التي سجلها معتقلون سابقون، وأهالي المعتقلين، بل والمعتقلون انفسهم في رسائل مهرّبة من داخل السجون.

وزعم البيان بأن (جميع الموقوفين وذويهم وأسرهم يحصلون على النفقات المالية والدعم المناسبين لمواجهة متطلبات حياتهم المعيشية والصحية والتعليمية). وهذا كذب فاضح، وقد ردّ عليه أهالي المعتقلين كما سنقرأ في صفحات تالية على مواقع التواصل الإجتماعي.

قدّم بيان وزارة الداخلية عشرة نماذج (من ثلاثين ألف معتقل) لأشخاص موضحاً اتهامات بعضهم وأسباب سجنهم ومسألة محاكمتهم، أحدهم (محمد بن عبدالله التركي) لازال موقوفاً منذ سنوات طويلة بدون محاكمة واتهم بتسويق اليورانيوم، ما جعل المواطنين يسخرون من البيان، اضافة الى اتهامه بتأليب الرأي العام والتعاون مع جهات مشبوهة. وهيلة القصير التي أضربت مؤخراً عن الطعام، اتهمها البيان بأنها تحرض على مقاومة رجال الأمن بالسلاح، وتكفر الدولة، وتجمع الأموال وأنه حُكم عليها 15 عاماً فقط!. والناشط الحقوقي محمد البجادي، الذي اشتهر بالدفاع عن المعتقلين السياسيين فاعتقل هو الاخر، وحكم عليه بأربع سنوات سجن، أما تهمته فهي (التواصل مع جهات أجنبية، والقيام بأعمال مخلّة بالأمن) وهي من الإتهامات الشائعة الفضفاضة التي تستخدم ضد آلاف المعتقلين. وبقية المعتقلين (الذين جيء بهم كنماذج) اعتبروا موقوفين في البيان، يعني بأنه لم تتم محاكمتهم بعد، رغم مضي سنوات وسنوات على احتجازهم.

الأسخف من هذا كله، وشرّ البليّة ما يُضحك، أن البيان طالب المواطنين الذين يدافعون عن حق المعتقلين الطبيعي كبشر وكمحتجزين بلا محاكمة ويجري بحقهم التعذيب، طالبهم بـ (احترام الإجراءات العدلية الجارية بحق جميع المتهمين بجرائم الفئة الضالة وعدم التورط بالمساس بالإجراءات العدلية أو استقلالية القضاء أو أمانة القضاة والابتعاد عن المشاركة في أي تجمعات أو مسيرات). وأكمل البيان مهدداً: (حيث سيتعامل رجال الأمن بحزم مع كافة المخالفين وذلك وفق ما نصت عليه الأنظمة، والاحتفاظ بحق ذوي من يتم التشهير بأسمائهم في أي تجمعات لمقاضاة المتورطين في ذلك).

لا تخلو الفقرة السابقة من طرفة، فالمطالبة بإطلاق سراح مواطنين وذكر أسمائهم ورفع صورهم، اعتبرته الحكومة تشهيراً بالمعتقلين أنفسهم، وليس تشهيراً بقمعها وبقضائها الفاسد، ولا بمخالفتها لأدنى معايير احترام حقوق مواطنيها. بل ان الداخلية هددت ـ يا للسخرية ـ المعتصمين والمحتجين، بأن من حق أهالي المعتقلين رفع قضايا ضد المعتصمين لقيامهم بالتشهير! وعاد منصور التركي، المتحدث باسم الداخلية، فأكد بأن الأنظمة تحظر نشر أسماء المتهمين! في حين ان الحكومة قد قامت بنفس الفعل مراراً وتكراراً ونشرت بعض الأسماء بل مئات الأسماء، مع الصور، ومع الإدانات المسبقة قبل المحاكمة بأنهم فئة مجرمة ضالة إرهابية عميلة للأجانب محرضة على الفتنة، الى آخر الإتهامات. وزاد التركي ملحاً على الجرح، في تصريح للوطن السعودية (12/10/2012) مهدداً المحتجين المطالبين باطلاق سراح المعتقلين، بأن قال: (إن المشاركة في مثل هذه التجمعات يترتب عليها ارتكاب 3 أفعال مجرمة بموجب الأنظمة أو مخالفة لها، والتي يمكن تلخيصها بـ "التجمعات" التي تحظرها الأنظمة، والمساس بالقضاء والإجراءات العدلية، و"التشهير" بأسماء متهمين دون حكم قضائي).

بيان الداخلية، وتعليقات المتحدث باسمها ينطبق عليه القول: حشف وسوء كيلة!

فالبيان متهافت لا يمكن ان يقبل به رجل سويّ، فضلاً عن أن يقبل به من يهتم بالقضاء العادل، او يعترف بحقوق مواطنة، أو يدرك قيمة حقوق الإنسان. البيان يستسخف عقول المواطنين، ولكنه انقلب على آل سعود فأوضح كم هي وزارة داخليتهم مستبدّة وسخيفة وقليلة حياء.

الصفحة السابقة