الخطر سلفي ومصدره السعودية:

دعم السلفية: غطاء ناري خليجي ضد الاخوان

الصحافية روبن رايت: لا تخافوا من كل الاسلاميين، ولكن خافوا من السلفيين!

عبدالحميد قدس

هل ثمة براءة وراء الهجوم المتصاعد ضد جماعة الاخوان المسلمين في مصر، حتى يكاد يختزل الخطر من الاسلاميين فيها، في مقابل خطر القاعدة وجماعات السلفية الجهادية؟

لم يكن واضحاً، حتى وقت قريب، ما هي الرسالة التي يريد قائد شرطة دبي ضاحي خلفان إيصالها من وراء هجومه العنيف على الاخوان المسلمين، ولكن ما لبثت تتوضح الصورة بعض الشيء حين أقدمت سلطات الإمارات على اعتقال مجموعة من الناشطين المحسوبين على التيار الاخواني..

وزير الخارجية الامارتية عبد الله بن زايد هو الآخر اختار المساهمة في الهجوم على الاخوان، فيما يشبه عملية استكمال لفصول خطة يراد تنفيذها لضرب جماعة سياسية ممتدة على مساحة دول مجلس التعاون الخليجي..

في كل أرجاء دول المجلس، باستثناء قطر، كان الهجوم على الاخوان المسلمين إعلامياً فيما كانت الامارات تواصل حملتها إعلامياً وأمنياً..ولكن بدا واضحاً أن القضية أبعد من كونها مجرد قضية أمنية محدودة، وكأنما ثمة في دول مجلس التعاون الخليجي من يسعى الى التحضير لشيء أكبر ويتصل بدرجة أسياسية بتحوّلات ما بعد الربيع العربي..

يجدر القول، لم يكن الاخوان المسلمون جماعة طارئة في الخليج، ولم يكونوا قريبي عهد به، فقد كان للجماعة حضور قبل الاستقلال ورحيل الاستعمار البريطاني عن الخليج. الامور سارت بصورة اعتيادية، وكانت (جمعيات الاصلاح الاجتماعي) تعمل بصورة طبيعية وقانونية في كل دول الخليج باستثناء المملكة السعودية، ولم يكن هناك سبب يمنع نشاطات الجماعة، لأنها قررت النأي عن النشاط السياسي منذ البداية.

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 شنّ ولي العهد ووزير الداخلية السابق الأمير نايف هجوماً شرساً ومفاجئاً على جماعة الاخوان المسلمين وحمّلهم مسؤولية كل الارهاب في العالم، وقال في مقابلة لصحيفة (السياسة) الكويتية بأن الاخوان سيّسوا الاسلام لخدمة أهدافهم الخاصة واستغله الكثير منهم لزعزعة استقرار الأمة. وقال في مقابلة نشرت في 27 نوفمبر 2002 مع الصحيفة المذكورة بأن (مشكلاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين. لقد تحملنا الكثير منهم ولسنا وحدنا الذين تحملنا منهم الكثير. إنهم سبب المشاكل في عالمنا العربي وربما في عالمنا الإسلامي. حزب الإخوان المسلمين دمر العالم العربي).

كان كلاماً قاسياً وغير مسبوق من مسؤول كبير في النظام السعودي، الأمر الذي دفع مرشد جماعة الاخوان المسلمين حينذاك مأمون الهضيبي برد الاتهامات وقال بأنها غير صحيحة، فيما أثارت قيادات في الجماعة تساؤلات حول الغرض من الحملة على الجماعة ومن قبل الامير نايف..

بقيت العلاقة متوتّرة بين الاخوان والنظام السعودي، وكان التفسير العام لحملة الامير نايف على الجماعة هو للتغطية على ما حدث من تداعيات لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث ثبت ضلوع عناصر سعودية قاعدية تربت على الأفكار السلفية المتطرّفة التي تشجع على الكراهية والعنف ضد الآخر، بحسب الأدبيات الوهابية، ولم يجد الامير نايف، الذي كان معنياً بصورة مباشرة بملف القاعدة، خصوصاً بعد أن بدأت عوائل الضحايا بتقديم شكاوى ضد الحكومة السعودية وطالت شخصيات في العائلة المالكة من بينهم الامير سلطان بن عبد العزيز، ولي العهد الأسبق، والأمير نايف، وزير الداخلية وولي العهد السابق. كان صرف الإنظار عن ضلوع المذهب الوهابي في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضرورة سعودية، لأن أولئك الذين شاركوا في الهجمات اعتنقوا أفكاراً تحرّض على القتال والجهاد ضد من أسموهم بالصليبيين، حتى أن كتابات صدرت بعد الهجمات تشتمل على تقريض وتمجيد من قبل مشايخ سلفيين لتلك الهجمات وعدوّا ما أصاب الأميركيين من بلاء ـ الطائرات الانتحارية هو نتيجة آثامهم..

لم يكن من بين الاخوان المسلمين من دعم الهجمات ولا برّرها، بل كانت الانظار جميعها تتجه الى المملكة وإلى مؤسستها الدينية المسؤولة عن تفريخ القاعدة وجماعات عنفية متناسلة من مشروع الدعوة السلفية المبثوث كونياً..

الثورات العربية التي انطلقت من تونس في 5 كانون الثاني (ديسمبر) العام 2010، كانت نذير سوء بالنسبة لأنظمة الخليج عموماً، لأسباب عديدة ومنها أن المطلب الشعبي العام في هذه الثورات هو الديمقراطية، أي الخصم التكويني لأنظمة ديكتاتورية أوليغاريكية تقوم على احتكار السلطة والثروة بإسم العشيرة، ومنها أيضاً أن الطرف الأوفر حظاً لاستلام السلطة هو الاسلاميين المحسوبين على الاخوان المسلمين..

فخصومة حكومات الخليج لاعلاقة لها بالضرورة بوضع أمني مستجد هنا وهناك، وإنما له صلة وثيقة بمعادلات سياسية جديدة فرضها الربيع العربي، فالإسلاميون في بلدان الربيع العربي يقتربون من السلطة، وهؤلاء الاسلاميون أقرب الى روح وثقافة ونهج الاخوان المسلمين وأبعد ما يكونوا عن السلفية وفكرها ونهجها.

لاشك أن ما حدث في مصر كان تحوّلاً عظيماً، وسوف يترك آجلاً أو عاجلاً أثره على منطقة الخليج بدرجة أساسية، فقد كانت الاخيرة تخضع دائماً تحت تأثير ما يجري في مصر من تحوّلات، حدث ذلك في زمن الزعيم جمال عبد الناصر، ويحصل الآن بعد نجاح ثورة 25 يناير في مصر. الهجوم الاستباقي في الخليج على الاخوان المسلمين هو لتفادي القادم والكامن، لأن الإسلاميين في الخليج من الكويت وصولاً الى الامارات باتوا بديلاً مقبولاً لأنظمة متكلّسة وخارج التاريخ.

في المقلب الآخر، وخارج هواجس وتحرّكات حكومات الخليج، فإن ثمة رؤية مناقضة تماماً تضع الهواجس الامنية في نصابها وتفرّق الآن أكثر من أي وقت مضى بين الاسلامي المعتدل والآخر المتطرّف. وبعد أن حسم الغرب موقفه من مسألة وصول الاسلاميين الى السلطة، ومن إدخال الجماعات الاسلامية في اللعبة الديمقراطية، بات أقدر على التفريق بين الاخوان المسلمين بكل فروعهم المنتشرة في دول الشرق الأوسط، والجماعات السلفية التي شكّلت الحاضنة الايديولوجية والتنظيمية للقاعدة، بل إن ما ظهر في تجربتي الحكم في تونس ومصر كشف عن تباينات حادة بين تيار الاخوان والتيار السلفي في التعاطي مع القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية.. فقد صرّح الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس في 31 مارس الماضي بأن (تخزين الأسلحة والتدريب عليها من قبل بعض السلفيين إرهاب وليس جهاداً) وقال (ان تصريحات وزير الداخلية بالمواجهة الحتمية للتيار السلفي تعني مواجهة بعض التيارات الارهابية التي تدعو الى الجهاد ضد المسلمين) قائلاً إن (السلفية الجهادية في حالة حرب مع المجتمع التونسي..).

بدا واضحاً من تصرّفات الجماعات السلفية في ليبيا وتونس ومصر أن ثمة تياراً انشقاقياً داخل المجال الاسلامي السني يسعى لتمييز نفسه عن التيار العريض من الاسلاميين الممثل في الاخوان المسلمين. وقد نبّه ذلك المراقبين الى هذا التمايز، وخطورة السماح للسلفيين بأن يركبوا موجة الربيع العربي والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية لأنهم بذلك يفسحوا في المجال أمام تسلل الجماعات القاعدية التي برزت بوضوح في الاحتجاجات الشعبية ضد الملف المسيء لنبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم والتي أخذت شكلاً عنفياً في ليبيا وأدّت الى مقتل السفيرالأميركي، فيما كانت أعلام القاعدة ترفرف بصورة علنية في التظاهرات.

في المقالة التي كتبتها روبن رايت مؤخراً ما يفيد بتحوّل في رؤية المراقبين الغربيين حيال تباين الأداء لدى الجماعات الاسلامية، فلم تعد تلك الاحكام الاجمالية المطلقة والعمومية التي لا تفرّق بين أحد من الإسلاميين، الأمر الذي جعل الغرب يقترف حماقات لا حصر لها، بسبب فشله في التمييز بين المعتدل والمتطرّف.

في مقالة رايت المعنونة: (لا تخافوا من كل الاسلاميين، ولكن خافوا من السلفيين) والتي نشرت في صحيفة (نيويورك تايمز) في 19 أغسطس الماضي، تحدّثت فيها رايت عن تجربتها الميدانية في بلدان الربيع العربي وبدأتها من مهد الانتفاضات العربية، أي مدينة سيدي بو زيد التونسية، حيث البائع محمد البوعزيزي الذي كان يتجول بعربته في شوارع المدينة وقرر أن يضرم النار في نفسه احتجاجاً على النظام السياسي التونسي الديكتاتوري الذي تمثّل له حينذاك في شرطية اعتدت عليه بالضرب فاشتعلت الثورة الشعبية التونسية و امتدت بعد ذلك الى كل أرجاء تونس ثم انتقلت الى بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط عموماً بنسب متفاوتة.

لاحظت رايت الخطوط المتباينة في المجال الاسلامي بعد خروج المصلّين من مسجد المدينة..حيث تمايز التيار السلفي عن غيره، فقد كان التيار ينأى بنفسه عن السياسة ويتمسّك بفكرة العودة الى تقاليد القرن السابع الميلادي. ولكن الربيع العربي وهب التيار فرصة نادرة لبناء قواعد شعبية مستغلاً المتغير الجديد في العالم العربي، حيث تحوّت مجموعات في الشرق الأوسط الى الحركات السلفية التي استفادت من خيبة الأمل والاضطرابات والتحوّلات.

صحيح أن السلفية باتت تتمسرح على مساحة واسعة تمتد من الخليج وحتى شمال أفريقيا، ولكنها أثارت بحجم انتشارها قلقاً مشروعاً في الداخل والخارج. الخطر في حركة التيار السلفي يكمن في توفير غطاء لجماعات القاعدة وجماعات السلفية الجهادية التي تعمل الآن تحت المظلة السلفية في كل بلدان الربيع العربي، وبتمويل خليجي.

دخل السلفيون في أكثر من بلد عربي في مواجهة مع المجتمع المحلي، حيث قاموا بهدم عدد من الأضرحة في مصر وليبيا وتونس، واعتدوا على معارض فنية وهاجموا حفلات موسيقية صوفية. ويحاولون الآن تجسيد أنفسهم إجتماعياً وسياسياً وشعبياً عبر تشكيل احزاب سياسية مرخّصة.

بدا ذلك واضحاً بصعود السلفيين في مصر، إذ جاءوا في المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد في مجلس الشعب المصري، وتنامي نفوذهم في سوريا عبر الجماعات المسلّحة، وكذلك في الجزائر والبحرين والكويت وليبيا واليمن وحتى داخل فلسطين المحتلة. تضع رايت حداً فاصلاً ودقيقاً بين السلفيين وبقية الطيف الاسلامي، حيث أن السلفية تمثل شريحة فيه، وتبيّن أنهم الأشد خطراً على المصالح الغربية والقيم الديمقراطية من غيرهم، وهم في الوقت نفسه خطر على حقوق الاقليات والمرأة..

القاسم المشترك بين الجماعات السلفية عموماً هو دعم الوهابية وإلهامها لهذه الجماعات، وهي، أي الوهابية، تمثل النموذج المتزّمت في الاسلام السني. بطبيعة الحال، ليس كل من في المملكة السعودية وهابيون، وليس كل السلفيين وهابيون. ولكن كل الوهابيين هم سلفيون وقد باتوا كثراً بين العرب في شمال أفريقيا، وهم يحاولون الإستيلاء على المستقبل من خلال المساعدة والتحريض، فهم يحاولون عبر إنشاء المدارس الدينية وبناء المساجد والمعاهد وحلقات الدرس والدعوة من الانبثاث داخل المجتمعات التي تحررت من الأنظمة الديكتاتورية وسمحت الدساتير الجديدة بإقرار حرية التعبير للجميع. وقد فعلوا ذلك قبل 30 عاماً عن طريق تمويل المدارس الدينية في جنوب آسيا التي أنتجت طالبان في أفغانستان.

يذهب السلفيون أبعد من ذلك بكثير في فرض قيود على الحياة السياسية والشخصية من الأحزاب الإسلامية الأكبر وألأكثر حداثة والتي فازت في الانتخابات في مصر وتونس والمغرب منذ أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. بالنسبة لمعظم الشعوب العربية فإن العدالة هي المطلب والشعار الذي يراد تحقيقه، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، ولكن بالنسبة للسلفيين فإن المطلب شيء آخر هو تطبيق الشريعة بطريقة صارمة.

تقول رايت بأن الشيخ محمد الكردي، العضو المنتخب في البرلمان المصري عن حزب النور السلفي، بأن أمامك خيارين: الجنة والنار. وقال بأنه يفضل الفصل بين الجنسين في المدارس والمكاتب، بحيث يمكن للرجال التركيز. الهدف أن تكون المرأة في غرفة، هذا هو الهدف. وأوضح (إنت ضيفتنا. لماذا كنتي هنا. ولكن كنتي إمرأة وثلاثة رجال. ونحن ـ نحن جميعاً نريد الزواج منك) ربما كان الزواج كناية، حسب رايت.

الإسلاميون عموماً يخشون من تزمت الجماعات السلفيّة التي قد تلعّب دوراً معيقاً لحركة الانتقال الى الديمقراطية في بلدان الربيع العربي، وهو ما عبّر عنه الشيخ راشد الغنوشي بصراحة في أكثر من مناسبة، حيث قال بأن السلفيين يحاولون دفعنا للوراء، وهم ضد الدستور لأنهم يعتقدون بأن الدستور يجب أن يكون من القرآن..

بالنسبة للغرب، حسب رايت، يمثّل السلفيون لغزاً مؤلماً على المدى الطويل. فأهدافهم مناهضة ليست للغرب فحسب بل ولجميع القوى السياسية الاسلامية والعلمانية على حد سواء.

مصدر القلق في واقع الأمر، أن الادارة الاميركية التي بقيت تدعم الحكّام المستبدّين على مدى 60 عاماً، اختارت أن تقبل باللعبة الديمقراطية ونتائج العملية الانتخابية في تونس ومصر وليبيا والمغرب واليمن. ولكن في الوقت نفسه، لا تزال تحتضن الاستبداد في دول الخليج وخصوصاً المملكة السعودية، وتغض الطرف عن الوعود الغامضة بالإصلاح، فيما تتعهد بحماية هذه الأنظمة حتى الآن، لحاجتها للنفط ولمواجهة التهديدات المفترضة من ايران. ولكن ثمة ما يسترعي الانتباه، بحسب رايت، حيث إن من الخطأ الفادح ربط موقف اميركا في المنطقة بمستقبل مسقط رأس ومعقل السلفية في ظل رؤية مشوّهة لنظام جديد في الشرق الأوسط، يدعم الديمقراطية في مكان ويحاربه في مكان آخر..

الصفحة السابقة