الدولة الخفيفة

بيانات الداخلية أخذت وتيرة متسارعة منذ وصول المسيو أحمد بن عبد العزيز الى الوزارة، فلا يكاد يجف حبر بيان حتى يعقبه بيان آخر، ما يعكس حالة من التوتّر داخل هذا الجهاز الذي لم يفقد ليس هيبته فحسب، بل والعقلانية المفترضة في من يدير هذا الجهاز شديد الحساسية والخطورة..

ندرك منذ أمد بعيد أن الكذب سمة راسخة في بيانات الداخلية وزاد عليها عنصر آخر وهو الخفّة. فلم يعد لبيانات الداخلية ذاك الوقع الإعلامي والنفسي والسياسي والأمني، والسبب في ذلك أن من يعدّها يجهل ببلاهة وعناد التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي تفرض مقاربة مختلفة تماماً لقضايا الناس..والإ كيف يمكن تصنيف كل الناشطين في خانة واحدة، فمن يحمل السلاح ومن يطالب بحرية التعبير، ومن يفجّر سيارة في مكان عام، ومن يطالب بمحاربة الفساد والشفافية، ومن يقتل الأبرياء بدون ذنب مدفوعاً بحكم تكفير المجتمع أو اختلاف في العقيدة، ومن تطالب بحق قيادة السيارة، ومن ينادي بالاصلاح السياسي والمشاركة السياسية..كل هؤلاء يصنّفون في خانة الإرهاب، فأي شرعة هذه التي تجيز إنزال عقوبة واحدة على كل الجرائم، إن تجاوزنا الحد وسلّمنا جدلاً بأن تلك القضايا جرائم؟!. وكيف يصنّف من يطالب بوقف الفساد المالي والاداري في خانة (الفئة الضالة) وكذا من ينادي بالمشاركة السياسية؟!

البيان الصحفي الصادر عن وزارة الداخلية في 11 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري وصف قيام بعض المطالبين باطلاق سراح المعتقلين السياسيين (باستغلال قضايا الموقوفين والمحكومين في جرائم الفئة الضالة..)، وأن مجرد تصوير الاعتصامات والتظاهرات للضغط على النظام السعودي للإفراج عن المعتقلين هو (بهدف تأجيج الفتنة وزرعها). فكيف يكون ذلك، وملف المعتقلين السياسيين بات اليوم الأكثف حضوراً، لفرط ارتكابات الداخلية وانتهاكها لحقوق الانسان والمعتقلين السياسيين الذي يقبعون في السجون السعودية بتهمة الارهاب!

خفّة بيان الداخلية تكاد تطغى عليه بأكمله، ولعل أهم ما يكشف عنه لغته المطلقة والتعميمية كالقول بأن (قضايا جميع الموقوفين في تهم ذات صلة بنشاطات وجرائم الفئة الضالة تخضع حاليا للإجراءات العدلية لدى هيئة التحقيق والادعاء العام والمحكمة الجزائية المتخصصة..)، وهذا كذب محض، فقد مضت سنوات عديدة على كثير من المعتقلين دون محاكمة، دع عنك إلصاق تهم ضد معتقلين جزافاً. وكذلك القول بأن (جميع الموقوفين سواء محكومين أو متهمين يتمتعون بكافة حقوقهم الشرعية والنظامية والإنسانية..)، وقد كانت الصورة المهرّبة من سجون الداخلية شاهدة على كذب هذا الزعم، وتبيّن كيف هي الأوضاع المزرية التي يعيشها السجناء، حيث يتم تكديس العشرات في مساحة ضيقة داخل السجن..

والشيء نفسه يقال عن حصول الموقوفين على النفقات المالية والدعم لذويهم وأسرهم، حيث يتحدث السجناء عن السرقات وحالات الابتزاز لأوضاع السجناء من أجل حرمانهم من المال.

أما بخصوص الاسماء الواردة في البيان الصحفي للداخلية، والذي عمد الى تضليل القارىء بتحضير قضية جرائم القتل في سياق الحديث عن قضية الموقوفين بغرض العبث بالوعي والمشاعر العامة. فقد اختار البيان قضية خطيرة وكبيرة في حالة الموقوف محمد بن عبد الله التركي الذي حكم بالحبس أربع سنوات (نظير قيامه بالتوسط بتسويق مادة اليورانيوم بين دولتين..)، ثم تتنزّل التهمة من الضلوع في عالم صناعة الاسلحة النووية الى التعاون (مع جهات مشبوهة لتأليب الرأي العام)، فكيف يستقيم ذلك، ما ينمّ عن أن خفّة غير عادية تكسو البيان وتفضح من وراؤه..

الناشط الحقوقي محمد البجادي الذي اعتقل ظلماً وعدواناً بعد أن كشف جريمة قتل تحت لتعذيب في سجن المباحث بالطرفيه في منطقة القصيم، حيث لقي المواطن اليمني سلطان بن محمد عبده الدعيس حتفه على يد أحد ضباط المباحث، واسمه معروف لقاضي التحقيق عبد اللطيف العبد اللطيف في 16 آب (أغسطس) 2011. ومنذاك تحوّلت قضية البجادي الى قضية كيدية انتقاماً منه لكشفه عن فصول هذه الجريمة، فكانت تهمته (التواصل مع جهات أجنبية للقيام بأعمال مخلة بالأمن وغير ذلك من الجرائم المسندة إليه)، دون توضيح ما هي الأعمال المخلّة بالأمن.

بطبيعة الحال، ليس هناك مساحة كافية للحديث عن بقية الحالات، مع تحفّظنا المشروع على الحالات التي ثبت بحقها ارتكاب جرائم ضد قتل وإرهاب ضد المدنيين والأبرياء، ونشدّد على حق الجميع في الحصول على محاكمة عادلة، وحق المتّهمين جميعاً في التمثيل القانوني من أجل تحقيق العدالة للجميع دون استثناء.

الصفحة السابقة