البعد الآخر في الديمقراطية

السعودية نموذجاً

الاقتران الوثيق بين الديمقراطية والنمو الاقتصادي قد فقد أحد مصاديقه في السعودية، فهذا النمط من التحليل الذي يربط بين التحديث الاقتصادي والانتقال الى الديمقراطية، لا يبدو قد أنجز وعده كما يحلو لأنصار هذا التحليل. فقد شهد هذا البلد فيما مضى من السنوات نمواً إقتصادياً مفاجئاً وخضع لبرامج تحديث كانت كفيلة بتخريب نظام القيم التقليدية وبالتالي خوض غمار التحوّل الاجتماعي والثقافي وصولاً الى الديمقراطية في شكلها الراسخ، ولكن هذا التحديث لم ينتج دولة ديمقراطية. وبقي السؤال المركزي قائماً: هل الخلل كامن في التحديث نفسه أم أن هناك عوامل أخرى أشد تأثيراً وأهمية من عامل النمو منفرداً. يعتقد فريق من المنظّرين بأن المشكلة تكمن في سيادة الواحد، سواء كان هذا الواحد ديناً، أو سلطة مطلقة، أو ثقافة مصممة لمناوئة الثقافات الأخرى، فهذه الواحدية تسدي خدمة منفردة ومطلقة للدولة وليس للمجتمع المتعدد ثقافياً وإثنياً ودينيا. في المقابل تمارس الواحدية عملية إفقار منظمة للقوى الاجتماعية في حصولها على فرص المشاركة في عملية الدمقرطة.

لقد ثبت بأن الديمقراطية قد تنتشر في الدول الأكثر نمواً والأقل نمواً على حد سواء حين تكتمل عناصرها، أي وعي الحقوق والصفة التمثيلية للقوى السياسية والوطنية، وهكذا الحال بالنسبة للاندماج الحاصل في بعض المجتمعات بسبب التطور الاقتصادي المتقدم في مقابل المجتمعات المنقسمة الى طوائف وأعراف لأسباب متعارضة مع الاندماج، كالاحتلال والأنظمة الفئوية والعشائرية.

فالواحدية بكافة أشكال سيادتها تقضي على تعدد الفاعلين الاجتماعيين، وتحرم المجتمع من التعبير عن تنوعه في هيئة نشاطات سياسية وثقافية واجتماعية تدحض نزوع الدولة الى الاستئثار الكامل بالسلطة والانفراد بالقرارات المصيرية المتصلة بالمجتمع.

فالمناخات المناسبة لانتشار الديمقراطية لا تتوقف دائماً على اعتبارات النمو الاقتصادي، بل على وعي المجتمع أو قطاع كبير منه بحقوقه. فالعامل التحديثي يكون فاعلاَ في المجتمعات حين يقترن بهذا الوعي الحقوقي، والا فإن غيابه سيبقي على النمو خادماً للنظام الشمولي الذي سيفيد منه في ترسيخ قوته المادية، وتوسيع سلطة أجهزته الأمنية والقمعية. ولذلك يبدو وجيهاً الرأي القائل بأن الديمقراطية تصبح غير ممكنة حين يكون المطالبون بها قلة في ظل نظام ديكتاتوري شمولي، إذ لابد من وعي ديمقراطي مقاوم لوسائل الأجهزة القمعية.

الخيار الديمقراطي في السعودية يسوّق حالياً عبر قوى ثقافية واجتماعية تناضل من أجل فرضه على الدولة، وفي زمن توقفت فيه عجلة التنمية وبدأت فيه مرحلة تراجع في مسيرة التحديث الاقتصادي، إذ تكشفت في هذا التراجع حاجات الافراد للتعبير عن أنفسهم بعد أن أيقضتهم نزعة البحث عن الحقوق في أبعادها المختلفة. فالمطالبة بالديمقراطية تتغذى في الوقت الراهن على ارتدادات فشل الدولة في التحول الى دولة القانون والديمقراطية، وهذا بحد ذاته يوفّر أكبر مبرر للتعبئة من جانب القوى الاجتماعية والسياسية من أجل جر الدولة الى خيار ديمقراطي مكرهة على قبوله.

إن الثقافة الحقوقية التي تنتشر بصورة واسعة بين السكان يصعب حرفها الى صالح خيارات غير ديمقراطية، لأنها ناتجة عن الاحساس بغيابها، كما أن الميول المتنامية للأفراد نحو الحصول على صفة تمثيلية داخل الدولة هي غير قابلة للإخماد لأنها حصيلة شعور بالنبذ، فالدولة لا تملك الا أن تستجيب لارادة شعبها حين تكون إرادتها مشلولة.

فأزمات الدولة الراهنة قدّمت من الحجج ما يكفي لنمو ثقافة إعتراضية يحرّكها التوق الى رؤية مرحلة تكون فيها الحقوق والحريات مكفولة، فالاختناق الداخلي مع بقاء الازمات بل وتفاقمها لا يجتمعان لفترة طويلة، ولابد من يوم يأتي بتفجّر الأوضاع بطريقة غير مدركة حتى بالنسبة للقوى الاجتماعية والسياسية نفسها التي تجهل أحياناً الغليانات الكامنة داخل الجمهور الذي يستجيب تلقائياً لخطابها الاحتجاجي، فدرجات الشعور بالإختناق متفاوتة وتبعاً لها تكون أشكال التعبير عنها وردود الفعل إزائها.

إن الديمقراطية بما هي إختيار سياسي تمثل العنصر الأكثر إشعاعاً في ثقافة السكان هذه الأيام، وأن قوى الكبح الداخلية غير قادرة على إضعاف هذا العنصر، فالوعي الديمقراطي يتزايد بدرجة ملحوظة وهناك إجماع غير مسبوق على أن تسوية مشكلات الدولة والمجتمع تكمن في التبني الجماعي لخيار الاصلاح السياسي الشامل والجذري.

إن محاولات الدولة اليائسة والبائسة من أجل إحداث عطب في وعي السكان وتعطيل مسيرة الاصلاح غير مجدية في ظل محفزات هائلة تشجّع مجتمعة على السير الحثيث نحو التغيير، مهما بهضت الكلفة وفدحت الخسائر، فالضابط الآن ليس في جرعة الاصلاح وشكله، بل يمكن الزعم بأن قدرة الضبط باتت ضعيفة الى حد أن الدولة تدرك حالياً بأنها عاجزة عن إتخاذ قرار بالتغيير يؤدي في نهاية المطاف الى إنهيار الدولة وتفككها.

ومهما يكن، فإن النقطة الجوهرية هنا أن نشر ثقافة ديمقراطية بين السكان يتم الآن بفعل الوعي الحقوقي والرغبة الجامحة في المشاركة في القرارات المصيرية التي ترتبط بالسكان أنفسهم، فالفصل الذي مارسته العائلة المالكة بين ما هو خاص بها وبين ما هو عام لم يعد موجوداً، لأنه فصل كارثي، وليس هناك خاص وعام بعد اليوم، فالأزمات التي صنعتها الدولة خلخلت أسس استقرار المجتمع، بدءا بمستوياته المعيشية وانتهاءً بحقوقه السياسية والثقافية.

تماماً كما أن الواحدية اليوم غير ممكنة، لأن التنوع الثقافي والديني والاجتماعي كشف عن نفسه كرد فعل على أزمات وليدة من تلك الواحدية، وبالتالي فإن الجميع يرى بأنه شريك وله حق الحصول على حصة عادلة في هذا البلد..حصة في التمثيل السياسي، والتعبير الثقافي، والتشكل الاجتماعي، وإذا فشلت الدولة في تحقيق مفهوم الاندماج الشامل والعادل بين الفئات الاجتماعية فإن المجتمع يتكفل حالياً بمهمة تنظيم الصفوف بوحي من وعيه الحقوقي وإحساسه العميق بأن الديمقراطية ستتكفل بتسوية أخطاء الماضي.

الصفحة السابقة