العلاقات السعودية ـ الأميركية من وجهة نظر السفير الأميركي في الرياض

قتل إبن لادن لا يحل المشكلةً.. وأيديولوجية التطرف سعودية

يمضي روبرت جوردن السفير الأميركي في الرياض أيامه الأخيرة في السعودية، حيث أعربت الاخيرة عن عدم إرتياحها لوجوده بسبب مواقفه المتشددة من النظام السعودي، وتدخله في الشؤون الداخلية. فالسفير جوردن الذي تولى مهامه كسفير للولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأيام قليلة يعد من الشخصيات المقربة من الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش، وهو محسوب على جبهة الصقور الذين يتبنون رؤية راديكالية في التعامل مع البلدان المصنّفة في قائمة الاصدقاء اللدودين للولايات المتحدة. ويعتقد جوردن بأن تغييرات جوهرية في النظام السياسي السعودي تمثل خياراً استراتيجياً يجب المضي فيه من أجل كسر شوكة التطرف. وقد نقلت مصادر محلية قبل فترة عن لقاء جمع السفير الأميركي وشخصيات إجتماعية ورجال أعمال في جدة تحدث خلالها السفير بأن هناك نية لدى الادارة الأميركية من أجل إحداث تغييرات في نظام الحكم، ولابد للجيل الثالث أن يحتل مكانة الجيل الثاني. ومما ذكره السفير في اللقاء بأن وزير الدفاع الأمير سلطان لن يكون ولياً للعهد حال موت الملك فهد وتولي الأمير عبد الله العرش، وهو ما أثار مخاوف لدى كبار الأمراء. وتنقل هذه المصادر بأن الأمير سلطان إستدعى أحد المشاركين في اللقاء وطلب منه تقريراً حول ما دار في اللقاء ثم أمره بنقل هذا التقرير الى الأمير عبد الله الذي قلل من شأنه ولم يعره إهتماماً، أو لربما أستقبله بإرتياح لما تضمنه من تأكيد على موقعيته كملك قادم وإزالة أحد خصومه الكبار.

نشير هنا الى أن المسؤولين في السفارة الأميركية في الرياض والقناصل التابعين لها في جدة والظهران يقومون بجولات مكثفة في المناطق، ويعقدون لقاءات مستمرة مع عدد كبير من الاهالي وبخاصة الناشطين السياسيين والاجتماعيين في محاولة لقراءة الوضع الداخلي كما يعكسه هؤلاء، وكيف يجب أن تكون السياسة الأميركية المستقبلية إزاء الوضع في السعودية. لقاءات المسؤولين الأميركيين في الداخل أثارت فزعاً لدى الأمراء الكبار والصغار، يعقبها في الغالب تحقيقات مع المشاركين في مثل هذه اللقاءات الروتينية التي تكثفت بصورة ملحوظة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بغية معرفة ما يدور فيها من موضوعات وماهي التصورات الأميركية حيال الوضع الداخلي، وهل هناك (إتفاقات أو ترتيبات) من نوع ما بين المسؤولين الأميركيين والشخصيات السياسية والاجتماعية المحلية. وهذا أمر لاتخفيه السفارة الأميركية بل أن السفير الأميركي جوردون أشار في اللقاء الصحافي مع (الوطن) الى واحدة من تلك اللقاءات التي جمعته مع عدد من رجال الدين المحافظين وحسب قوله (لقد استمتعت كثيراً بالنقاش الذي قمت به مع بعض المحافظين المتدينين هنا في المملكة، وساعدني ذلك على فهم وجهات نظرهم, ولا يعني أنني أتفق مع كل شيء يقولونه لكنهم على ما أظن يفهمون بشكل أفضل وجهة نظري حول بعض مواقفهم، وربما سنجد طريقة للعمل معاً في المستقبل).

المنظور الأميركي للعلاقة مع الرياض

اللقاء الصحافي الذي أجرته صحيفة (الوطن) السعودية في السادس من أكتوبر الحالي مع السفير جوردن عكس صورة شبه واضحة حول العلاقات السعودية الأميركية. فهو لم يخف حقيقة التوتر الذي يسود العلاقات بين البلدين منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واعتبر أن مرحلة جديدة وفي حقيقتها متوترة بدأت في علاقات الطرفين منذ ذلك التاريخ. فبعد أن كانت موضوعات العلاقة تتركز في محورين رئيسين وهما: النفط والدفاع، أصبحت هناك موضوعات أخرى مستجدة ساهمت في تعقيد العلاقة ولعل البارز منها هو موضوع الارهاب الذي أحدث هزة عنيفة في مجمل موضوعات العلاقة الثنائية. فالأميركيون قد استيقضوا على وقع حقيقة مرعبة جاءتهم من بلد مثّل لعقود الحليف الاستراتيجي الأشد التصاقاً بالولايات المتحدة، وأن كمية الكراهية المندفعة من داخل هذا البلد كانت كفيلة بإحداث هذا الدمار الذي لحق بواشنطن ونيويورك ونبّه (العملاق النائم) الى أن ثمة عملاً عاجلاً لابد من القيام به من أجل تحصين قارته المستقرة.

السفير حاول في مقابلته التعويض عن الصراحة والمباشرة بطرح الاسئلة المحمّلة بشكوك وإتهامات مبطّنة للسعودية والايديولوجية الدينية التي تساهم مؤدياتها الى صناعة جماعات إنتحارية قادرة على زعزعة الاستقرار تحت غطاء ديني. يشير السفير الى أن هناك إعادة تقييم لأشكال الاسلام السائدة في العالم في مسعى للتمييز بين المعتدل منها والمتطرف بعيداً عن الانفعالية التي سادت الموقف السياسي الأميركي، من أجل محاصرة وعزل الظاهرة الدينية الراديكالية، وهو في ذلك لا يحيد عن تحميل السعودية مسؤولية نشأة هذه الظاهرة وانتشارها في العالم بل ومسؤوليتها عن إختطاف الاسلام وفي إخفاء نموذج الاسلام المعتدل.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه السفير الاميركي على المصالح الاستراتيجية بين البلدين، يشدد على أن هذه المصالح يجب وضعها في سياق التصور الأميركي الجديد الذي يرفض التعامل مع السعودية باعتباره حليفاً نزيهاً وشريكاً كاملاً. ولا يخفي السفير حقيقة التوجه الأميركي نحو فهم الواقع الاجتماعي والثقافي في السعودية جنباً الى جنب الواقع السياسي، فالأميركيون باتوا اليوم على قناعة بأنهم قصّروا كثيراً حين أغفلوا فهم التحولات الاجتماعية والثقافية الداخلية، ولذا يرون بأنهم بحاجة ماسة الى التعاطي مع كافة الشرائح الاجتماعية، والاقتراب من طرق تفكيرها، ومعرفة تطلعاتها بل والتفاهم معها، وصولاً الى صياغة رؤى محددة في التعامل مع الحكومة السعودية.

وفيما يبدو فإن الادارة الأميركية سائرة في منهج جديد في علاقاتها مع حلفائها في المنطقة، فالمفاجأة الكارثية في الحادي عشر من سبتمبر والتطورات اللاحقة، وعلى وجه الخصوص احتلال العراق والاستراتيجية الأميركية الجديدة لتغيير المنطقة خلقت معادلة سياسية شديدة التعقيد، وأن الحكومة السعودية يساورها القلق من مخطط أميركي قادم قد يؤدي الى ازالة السلطة. فالعلاقة التقليدية بين واشنطن والرياض أصبحت تاريخاً وهناك حسب ما يشير اليه السفير جوردن ضرورة للتفكير فيما اذا (كانت هذه العلاقة تخدم مصالحنا القومية أم لا).

محاولة تحميل القاعدة المسؤولية في تدهور العلاقات السعودية الأميركية لم تثن السفير الأميركي عن التصريح بأن هناك ثمة أموراً يجب أن تقوم بها الدولتان لمنع تكرار الحوادث، في إشارة ضمنية الى أن القاعدة هي منتج محلي، وتسهم الايديولوجية الدينية المتطرفة في توفير المكوّنات الاساسية لهذا المنتج، وإن حاول السفير التوسل بلغة دبلوماسية مواربة حين زعم بأن هناك الكثيرين من السعوديين قد أزعجتهم وصدمتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد طالب السفير الأميركي الحكومة السعودية بموقف واضح في رفض ( الأيديولوجية المتطرفة وأي نوع من الفلسفة المتطرفة التي تحاول تبرير أي نوع من العنف ضد أي مجموعة من الناس) ويفسّر ذلك قائلاً بأنه (لدينا مواعظ وخطب لمتطرفين على أشرطة كاسيت, أو حتى في بعض المساجد من حين لآخر, وهذا تتم مداولته ومناقشته في أمريكا, وعندما يرى أعضاء الكونجرس والإعلاميون هذه الخطب والمواعظ يقولون: إذاً ... جميع السعوديين هكذا.. جميع السعوديين يشجعون على العنف ضد الأقليات الأخرى مثل المسيحيين واليهود، وأي شخص لا ينتمي إلى نفس المذهب الديني).

وكما هو واضح من سياق حديثه، فإن السفير هنا يبدد محاولة الحكومة السعودية الى تبرئة ساحتها وإعتبار التطرف نبتة خارجية، بل هو يحمّل ضمنياً الحكومة مسؤولية انتشار ثقافة العنف والتطرف في الداخل وأنها المسؤولة المباشرة عن نشوء جماعات العنف، وتالياً إنعكاسات ذلك سلباً على العلاقات السعودية الأميركية.

السفير الأميركي يعكس موقف بلاده في موضوع مكافحة الإرهاب ويرى بأن قتل بن لادن والظواهري وترويض القاعدة ليس حلاً جذرياً للمشكلة، لأن هناك مصادر أخرى تغذي العنف وتخلق جماعات إرهابية وعليه لابد من أن (نستخدم كل ما في جعبتنا لنقطع الأوكسجين عنهم، وهذا يعني فهم فلسفتهم وأيديولوجياتهم التي يعملون تحتها سواء كانوا تحت تأثير تعليمي أو اجتماعي أو تأثيرات عائلية..). فها هو يعيد السفير تأكيد الصلة بين الارهاب والفكر الديني المصنّع محلياً ومسؤوليته في إنفجار الظاهرة الارهابية التي ستستمر حتى بعد القضاء على تنظيم القاعدة، فالمشكلة إذن تكمن في منظومة الفكر الديني الذي يروّج في التعليم، والمجتمع والعائلة. وفي بلد شمولي كالسعودية تصبح المسؤولية كاملة على عاتق الحكومة، وهي المتهم الأول.

رد الفعل الأميركي الحالي على الاسلام عموماً يثير دون ريب حفيظة وعواطف كافة المسلمين فهو رد فعل مشحون بنبرة كراهية ضد المسلمين في العالم قاطبة، ولكن ذلك لا يخلي مسؤولية السعودية ودورها في صناعة الصورة المشوّهة عن الاسلام وخصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر، فالاحتجاج القائم على أساس كيف أصبح عليه رد الفعل الأميركي حيال الاسلام وأن الاسلام بات مهاجماً في الاعلام الأميركي يبدو متهافتاً في مقابل انتقادات الأميركيين بأن المساجد تستخدم لمهاجمة اميركا. والسبب في ذلك، أن الاسلام لم يكن قبل الحادي عشر من سبتمبر يتعرض لهجمة اعلامية بالقدر التي هي عليه الآن، فقد كانت الولايات المتحدة نفسها مفتوحة أمام نشاطات اسلامية واسعة النطاق، تشهد على ذلك كثرة عدد المساجد والمراكز الاسلامية والجميعات الخيرية، ولم يتعرض المسلمون الى مضايقات قانونية وملاحقات قضائية كما يفعل بهم الآن. وبالرغم من أن الاسلام أريد له منذ عام 1991 أن يكون الخصم الايديولوجي للغرب الا أنه لم ينعكس على أوضاع المسلمين ونشاطاتهم، وبالتالي فإن السفير يبدو مصيباً في هذه النقطة تحديداً حين شدد على أن الكلام في هذا الصدد يدور حول مفاهيم مسبّقة عن الآخر، أي الغرب والولايات المتحدة، وأن الحملة الاعلامية الأميركية على الاسلام جاءت كرد فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، رغم أن هذه الحملة تتسم بالتشدد والتعميمية الظالمة، وغير المقبولة من جانب الاغلبية العظمى من مسلمي العالم.

وقد إستغل السفير العلاقة الجدلية بين ما تضطلع به المساجد في بلادنا من مهمة ترويج أفكار التطرف والحملة الاعلامية الانفعالية ضد الاسلام في الغرب والولايات المتحدة ليوجه نقداً لاذعاً للحكومة السعودية، قائلاً: (إننا ليس لدينا أجهزة إعلام حكومية, ولا ندفع مرتبات لرؤساء تحرير الصحف، ولا ندفع مرتبات للرموز الدينية, وفي حالات كثيرة فإن المتطرفين الدينيين في أمريكا يتعرضون للسخرية من قبل أغلبية الأمريكيين, ولديهم عدد قليل جداً من المؤيدين..). إذ بدا السفير واضحاً في عقد مقارنة نقدية بين السعودية والولايات المتحدة، حيث تفرض الدولة السعودية سيطرتها شبه الكاملة على الاعلام والمؤسسة الدينية (التي تمارس عملاً اعلامياً جماهيرياً)، من خلال دفع مرتبات رؤساء الصحف وعلماء الدين، وهذا لا يعني أكثر من إتهام مبطّن للحكومة السعودية في إتجاهين: مصادرة حرية الاعلام، ورعاية التطرف وتمويله.

ويؤكد السفير رؤيته المسنودة ـ كما هو واضح ـ على معلومات حول التدابير الصارمة التي تتخذها السلطات السعودية ضد من يعربون في المحطات الفضائية غير المحلية عن آراء مختلفة. يقول السفير (أعتقد أنه أمر إيجابي جداً أن أصواتاً سعودية تخاطب الآن أجهزة الإعلام وتقدم لقاءات وتشارك في نقاشات تلفزيونية وصحفية. وأعتقد أن البعض يتعرض أحياناً لتجارب قاسية, ويتعرضون لما يشبه الاستجواب بصورة قوية حاليا. ولكنني أعتقد أنه عندما يخضع المرء نفسه لمثل هذا الاستجواب من قبل أجهزة الإعلام, فإنه يساعد على الإجابة على التساؤلات القلقة التي يتم التعبير عنها). فالسفير هنا يكشف عن قربه من الواقع المحلي وإطلاعه الواسع حول ما يجري في الداخل، كما يكشف أيضاً عن اللقاءات التي تجمعه بأصحاب الرأي الذين ينقلون صورة الوضع وما يتعرضون له من قبل جهاز الأمن التابع لوزارة الداخلية، والذي يفرض اجراءات صارمة على ظهور الشخصيات السياسية الوطنية على شاشة الفضائيات العربية وبالتحديد قناة الجزيرة.

من الواضح تماماً أن السعودية أصبحت تنظر بريبة الى الولايات المتحدة، وأن النفط والدفاع لم يعد يشكلان عنصري قلق بالنسبة للادارة الاميركية، فإن التغييرات التي أحدثتها بعد إحتلال العراق في المجال الاقليمي قد أسقط من يد الحكومة السعودية الورقة النفطية كورقة سياسية تراهن بها في العلاقة مع اميركا. فالأخيرة ترى بأن المصالح المشتركة ضمّت الآن عناصر أخرى مثل مكافحة الارهاب وتمويل الارهابيين وموضوع السلام مع إسرائيل وهي أشبه ما تكون بالشروط الاميركية في العلاقة مع السعودية في الوقت الراهن.

ولكن ما يخيف القيادة السعودية فعلاً هو الهاجس المتنامي إزاء ما تعتبره مخططاً أميركياً لتغيير النظام في السعودية، فهذا الهاجس بات يحكم السلوك اليومي للمسؤولين والامراء الكبار في العائلة المالكة، وهو ما يدفع بهم الى إقتفاء آثاره والبحث عن دلائل عليه في الداخل والخارج. فالتحقيقات التي تجريها أجهزة الأمن مع مواطنين مشاركين في لقاءات مع مسؤولين أميركيين تتجه الى العثور على إجابة حيال جدية الادارة الإميركية في تنفيذ مخطط تغيير النظام في السعودية. ورغم نفي السفير الأميركي لوجود مثل هذا المخطط الا انه عبّر عن رأيه في الاصلاح السياسي المنتظر حيث يرى بأن عجلة الاصلاح تسير ببطء وهذا ما لاتريده الادارة الأميركية.

إن ما تعكسه محتويات اللقاء الصحافي مع السفير الأميركي في السعودية هو البون الشاسع الذي أخذ يفصل المصالح الاستراتيجية بين البلدين، وأن ثمة تحوّلاً عميقاً في سياستها الخارجية يدفع السعودية للتوجس من أن ثمة شيئاً مخيفاً يخفيه المستقبل. الرهانات السعودية باتت محدودة ومعروفة: فشل أميركي في العراق، فشل الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية القادمة، تغييرات دراماتيكية في ميزان القوى الدولي، ولكن هذه الرهانات غير مضمونة فضلاً عن كونها غير استراتيجية بالنسبة لدولة تشهد إهتزازات عنيفة في أوضاعها الداخلية سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

الصفحة السابقة