مصداقية المهنة على المحك

مجـزرة رؤسـاء التحـريـر!

يحي مفتي

تبدّلت مهنة الصحافة، فلم تعد وسيلة لنقل الخبر، وتعميم رؤية أو صنع وعي عام بقضية.. فتلك كانت مهنة من دخل عالم الصحافة من أبوابها الصحيحة، وعاهد نفسه وجمهوره على تحرّي الدقة في نقل الخبر والرأي حفاظاً على شرف مهنته واحتراماً لجمهور بات اليوم أكثر من أي وقت مضى قادراً على التمييز بين الغث والسمين والسليم والسقيم من الآراء. من المؤسف، أن بعض من امتهن الصحافة قرّر منذ البداية أن يجعل منها وسيلة استرزاق فحسب، بما تستلزمه من فبركة أخبار، وتسميم الوعي العام، واعتماد أدوات الإثارة، والتشهير المنتج للشهرة..مع قلة البضاعة المعرفية واللغوية.

لم يقتصر الأمر على طبقة من الصحافيين دون غيرها، فقد دخل الى طبقة رؤوساء التحرير من لا عهد لهم بالكتابة الصحافية، فضلاً عن الرؤية العميقة للوقائع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. الأنكى من ذلك كله، أن يتولى صحافي مبتدىء لا يتقن قواعد الكتابة الصحيحة وأصول اللغة منصب رئيس تحرير صحيفة متخصصة، كالمراسل الرياضي الذي يرأس تحرير صحيفة ذات صلة بالمال والاعمال والاقتصاد، أو من تخرّج في كلية الزراعة وهو يحاضر في الطب البشري، أو في تاريخ الحضارات..

اليوم، تستفحل أزمة الصحافة المحلية لتتجاوز مجرد غياب الصحافي المحترف الذي يزاول مهمة الصحافة على أصولها، لتصل الى أزمة رئيس التحرير الذي تحوّل الى مجرد تاجر، يقامر بالكلمة والرأي في عملية استثمار مفتوحة مع السلطة..وبعض هؤلاء بات يعمل موظفاً في جهاز أمني، وصار يتقن لغته، ويتقمص شخصية رجل الأمن، فيطلق التهديدات ضد الناس، ويتوعّدهم بأشد العقاب..

منذ انطلاق الاحتجاجات في هذا البلد، كشف رؤساء تحرير صحف محلية عن وجه قبيح، بحيث أصبحوا يتصرفون كما لو أنهم ناطقون رسميون بإسم وزارة الداخلية، وقد ذهبوا الى أبعد من ذلك..

في واحدة من القصص الخبرية التي أوقعت طائفة من رؤساء التحرير في أزمة أخلاقية ومهنية، هي ما أطلق عليها (عملية الخفجي) في 18 أكتوبر الماضي حيث افترض رئيس تحرير صحيفة (الوطن) سابقاً ومدير قناة (العرب) حالياً جمال خاشقجي أن الحرس الثوري الايراني أرسل مجموعة من عناصره في قوارب صيد ليتسللوا عبر الخفجي لتنفيذ عملية عسكرية ضد منشآت حيوية في المملكة..

ماحدث في الوهلة الأولى أن خبراً أذيع في وسائل الاعلام عن أن 15 مواطناً ايرانياً جرى اعتقالهم في 18 أكتوبر الماضي من قبل حرس الحدود السعودي خلال عملية تسلل عبر الخفجي من الساحل الشرقي باستعمال قارب حسب صحيفة (سعودي جازيت). وفجأة صدر ما يشبه الخبر العاجل بأن حرس الحدود أحبط عملية تخريب إيرانية ضد المملكة شارك فيها مواطنون سعوديون، على حد جمال خاشقجي..

خاشقجي لم يكتف بوضع الحادثة في اطارها الأمني، بل ذهب بها الى أبعد من ذلك بحيث اعتبرها قضية تتعلق بالاقتصاد العالمي والأمن الدولي وسوف تكون لهاتداعيات على مصالح الدول، هذا في وقت لم يصدر أي بيان عن وزارة الداخلية السعودية ولم يصدر ما يفيد بأي معلومة حول طبيعة الحادث وأبعاده..خاشقجي أحال الأمر الى (مصادر موثوقة) مرة و(مصدر سعودي) مرة أخرى، دون تحديد هوية ومنصب هذا المصدر.

سلمان الدوسري الذي دخل على خط التحريض خلال حركة الاحتجاجات التي تشهدها المملكة، ليضيف أبعاداً أخرى لعملية الخفجي، ويعزز من تحليله بربط ما جرى في الخفجي بوجود حاضنة محلية وأن ايران لديها علاقات وثيقة مع سعوديين في الداخل، في إشارة واضحة الى الشيعة في المنطقة الشرقية والدليل على ذلك بحسب طريقة الدوسري في النظر الى الأمور (فنظرة سريعة للمواقع الإخبارية الإيرانية الرسمية تشرح هذه العلاقة بوضوح..). الملفت أن الدوسري بقي متمسكاً بموقف حتى بعد توضيحات صدرت من مصادر أمنية رسمية بألا علاقة للإيرانيين المقبوض عليهم بخلايا إرهابية وقال (شخصياً غير مقتنع بالتبريرات وأختلف معها).

بدأت قصة عملية الخفجي من إشاعة القبض على أفراد من الحرس الثوري أطلقها رئيس قناة (العرب) التي يموّلها الوليد بن طلال

تغريدات الخاشقجي جاءت على النحو التالي وبصورة متسلسلة:

ـ العملية الايرانية التي أحبطها بحمد الله خفر السواحل خطيرة وغير مسبوقة وسيكون لها تداعياتها

ـ عاجل وهام: حرس الحدود السعودي يحبط عملية تخريب ايرانية ضد المملكة شارك فيها مواطنين سعوديين (هكذا والصحيح مواطنون سعوديون).

ـ الخبر أكيد ومن مصادر موثوقة.

ـ أتوقع أن يكون رد المملكة على ايران حاسماً وسوف تشهد العملية تصعيد دولي لما لها من انتهاك لسيادة البلاد وتهديد لمصالح اقتصادية تؤثر عالمياً

ـ مصدر سعودي يصف السعوديين الذين تعاونوا مع الحرس الثوري في العملية بالخونة والعملاء.. يوجد غضب شديد تجاه العملية التي وصفت بالخطيرة جداً.

وتبعه بعد ذلك عدد من رؤساء التحرير الذين ردّدوا كالببغاء ما قاله خاشقجي، فكتب رئيس تحرير (الاقتصادية) سلمان الدوسري: (النظام الايراني ليس لديه ما يخسره لذلك هي محاولات انتحارية لاكمال خطط تصدير الثورة التي يفاخر بها الملالي فرداً فردا).

الاعلامي والأكاديمي سليمان الهتلان كتب (حرس الحدود جدير بالتقدير لنجاحه في التصدي لـعملية الخفجي والقبض على 14 إرهابياً من الحرس الثوري).

أبو لجين ابراهيم عقّب وعلّق: (وجود خونة من السعوديين مع الحرس الثوري المقبوض عليهم في الخفجي يؤكد خطورة عملاء الداخل في هذه الظروف الحرجة، ومدى علاقتهم المباشرة بإيران!).

عضوان الاحمري تابع (عملية الخفجي تحية لرجال الحرس الحدود..وصورة من غير تحية لكل من ينكرون مخططات إيران).

نسق التساقط المتعاقب على طريقة الصحون المتدحرجة تواصل، فكان من بينها مقالة رئيس تحرير (الشرق الأوسط) سابقاً، ومدير قناة (العربية) حالياً عبد الرحمن الراشد، في مقالته (من الشرقية السعودية إلى الأشرفية اللبنانية) المنشورة في صحيفة (الشرق الأوسط) في 20 أكتوبر الماضي والذي أسس مقالته على شائعة مفبركة فصاغ سيناريو مؤامرة ايرانية سورية تبدأ من تحذير الابراهيمي من أن الآزمة السورية لن تبقى داخل سورية الى انفجار الاشرفية ومقتل اللواء وسام الحسن، مدير فرع المعلومات اللبناني، ثم يربط ذلك (وقبله بيوم أمسك حرس الحدود السعودي بمتسللين من الحرس الثوري وصلوا إلى اليابسة في المنطقة الشرقية السعودية مسلحين بأسلحة وتجهيزات تدلل على عمليات تخريب مبيتة، ثم لاحق الحرس السعودي القارب وقبض على من فيه)، ليرسم سياقاً تحليلياً يستند على حقيقة افتراضية من أن (سوريا وإيران اشتهرتا في العالم بعمليات التخريب على مدى ثلاثين عاما..)، فكيف لم تكشف الحكومة السعودية عن عمليات التخريب التي قام بها النظام السوري الا منذ انطلاق الثورة الشعبية في سورية قبل أكثر من عام ونصف.

الراشد ربط بين تحذير الابراهيمي بأن الأزمة السورية ستمتد الى خارج حدود سورية وبين عملية الخفجي، هكذا ببساطة لأن منهج الاستقطاب السياسي يفترض نوعاً صارماً من التحليل للوقائع، كما يستوجب طريقة خاصة في فبركة القصص الاخبارية.

وتتواصل عملية السقوط، فيكتب محمد عبد الواحد في صحيفة (عكاظ) في 19 أكتوبر الماضي مقالاً بعنوان (عمار الحكيم ودسائس الشر). وبصرف النظر عن ضعف السبك وفقر عبد الواحد لقواعد الكتابة، فإنه يجهل شخصية من يكتب عنه، ولو اختار شخصية عراقية أخرى غير عمار الحكيم لكن أتقن الحبكة. فقد عرف عن الحكيم علاقاته المتميّزة مع قيادات دول مجلس التعاون الخليجي، وهو حريص على التواصل معها، ولطالما دخل في مناكفات مع الايرانيين حتى وإن كان على حساب جمهور العراقيين، ولكن فيما يبدو، فإن الكاتب اختار الحكيم لشهرته فأراد أن يكون هدفاً في حفلة الفبركة الاعلامية.

وبملء القلم والفم كتب عبد الواحد ما نصّه: (بالأمس نقلت وكالات الأنباء أنه تم كشف أسلحة وذخائر ومعدات للتفجير في “صهريج” كانوا يحاولون تصديرها إلى مدينة القطيف في بلادنا.. وأن من يقف خلف تسريب هذه الأسلحة إلى المملكة هو “عمار الحكيم” الزعيم الشيعي العراقي الموالي لإيران والمؤتمر والمتآمر بأمر قادتها..)، طبعا لأن الخبر لم تنشره وكالات أنباء (وكالعادة لم تعلق جهاتنا الأمنية والرسمية بشيء على اعتبار أن الله سبحانه وتعالى قد أعاد كيد الكائدين إلى نحورهم وكشفت أسلحتهم قبل أن يصل أذاها إلى بلادنا الآمنة).

وراح عبد الواحد يصوغ نقاشاً حول دوافع الحكيم للضلوع في عملية تخريبية داخل المملكة، ولماذا لم يستفد من دروس الدمار في العراق (كل هذه الكوارث التي حلت بالعراق وأهله ومكتسباته ألا تكفي.. ويريد تصدير ما حل به من بلاء إلى غيره من بلدان آمنت بوحدتها وتلاحمها فحصدت استقرار وطنها).

التراجع الطفولي

الخاشقجي أوقف هدير تغريداته في عملية الخفجي ليوقف فرامل الشحن الاعلامي بنقله:

ـ مصادر أمنية للإقتصادية: لا ارتباط للإيرانيين المقبوض عليهم بخلايا إرهابية.

ثم اعتذر خاشقجي لمتابعيه وقال (أعتذر للزملاء في تويتر فخبر عملية الخفجي الذي وزعته كان دقيقاً في ذكر واقعة التسلل ولكن مصدري أضفى عليه بعداً سياسياً غير موجود والله أعلم).

الصحافية السعودية المقيمة في بروكلين ابتهال مبارك قالت بأن نشر مثل هذه التقارير الكاذبة حول حادثة الخفجي لها دوافع خفية. فإضافة الى تأجيج النزاع الطائفي وتشويه سمعة شيعة السعودية، فإن الهدف هو صرف انتباه الشعب عن القضايا الأخرى مثل أوضاع السجناء السياسيين في البلاد.

الكلمة الفاضحة

كان يمكن أن يمر كل ما سبق على الرأي العام، وأن يدخل ضمن عملية التحريض الغرائزية المتواصلة وترسيخ الانقسامات الاجتماعية والسياسية والاثنية، وكان يمكن أن يخرج رؤساء التحرير والكتّاب من حفلة الجنون التي أطلقوها بسلام بل ومنتصرين أيضاً، ولكن يبدو أن الاتهامات غير المستندة على دليل لها كلف سياسية، ولن يقبل المتّهمون سواء كانوا دولاً أم جماعات أم أفراداً أن يخضعوا تحت تأثير جنون من لا يقدّرون قيمة الكلمة غير المسؤولة.

وزير الداخلية السابق، أحمد بن عبد العزيز، عقد مؤتمراً صحافياً في 21 أكتوبر الماضي أي قبل أيام من بدء موسم الحج، وتناول قضية المتسللين الايرانيين وقال: الذي بلغنا حتى الآن أنهم قادمون لطلب المعيشة وكان قدومهم حسب ما ذكروا أنهم كانوا متجهين للكويت، ولكن صادف أنهم في الحدود السعودية وأنزلهم صاحب القارب على الشاطئ السعودي..ولم يظهر لنا أن لهم نوايا سيئة .وبشأن امكانية المخاوف من الحجاج الإيرانيين تحديداً وخاصة مع التوتر السني الشيعي في المنطقة أفاد أن الجانب الإيراني أكد للمملكة حرصهم على راحة الحجيج وأدائهم للحج مثل ما تحرص المملكة أو أكثر.

بطبيعة الحال، فإن كلام وزير الداخلية حسم وختم الجدل حول قضية عملية الخفجي المزعومة، وبالتالي توقف هدير (التغريدات) المجنونة. وفيما تقدّم خاشقجي باعتذاره، وسحب الهتلان تصريحه، قرر البعض التمسّك برأيه حتى النهاية مثل الدوسري والراشد، اعتقاداً منهم بأن مثل هذا التراجع سيضاعف لهم العذاب من قبل الرأي العام الذي خدعوه ولم يحترموه ولو بكلمة توضيحية عن ملابسات ما جرى.

الصفحة السابقة