محاكمة الإصلاحيين.. محاكمة للنظام

محمد قستي

مجتمع يتقدم ويدفع بالخطوط الحمراء الى الأمام، وأحياناً يقطعها مثلما تقطع الأسلاك الشائكة و(شبوك) الأمراء؛ ونظامٌ يضع المعوّقات والعراقيل لتعطيل مسيرته باتجاه انتزاع حقوقه.

قد يكون هذا ملخص السياسة الداخلية للعائلة المالكة.

السجون السعودية ممتلئة بالمعتقلين، من أصحاب الرأي، والناشطين الحقوقيين والسياسيين السلميين، وحتى القاعديين العنفيين، كلهم وضعوا في سلّة واحدة. السجون لم تعد كافية، وقد بشّرنا وزير الداخلية السابق قبل إقالته (أحمد بن عبدالعزيز) بأن هناك سجوناً عديدة قد اكتملت، وهي مجهزة بكافة الخدمات كما يقول؛ يعني: سجون خمس نجوم، كما وصفها أحد الصحافيين السعوديين من العاملين في جهاز الداخلية.

بيد أنه بات واضحاً أن الإعتقالات لا تحلّ إشكالية الدولة المستبدة، ولا تخفف من أعبائها، ولا تقلّص عدد المنخرطين في (السخط) على النظام ورموزه، إن لم يكن (معارضتهم) الصريحة له.

ولأن النظام لم يقرر القيام بإصلاحات سياسية، ولا يبدو في الأفق القريب أن هنالك نيّة بهذا الإتجاه، فلا يوجد أمامه من حلول إلا تلك القمعية، ذلك أنه لا يستطيع أن يرى المواطنين وهو يحطّون من شأن العائلة الحاكمة، ويزدرون بأدائها، ويوجهون لها التهم بالفساد وسرقة المال العام، فضلاً عن احتكار السلطة، وممالأة الغرب إن لم تكن (العمالة) له. يصعب على آل سعود أن يصمتوا وهم يرون شرعيتهم تنتقص، وأن سيادتهم المزعومة على البشر توضع تحت التشريح اليومي.

لكن المزيد من العنف الأعمى، والبطش غير المحدود ما عادت ممارسته ذات فائدة كبيرة. وأمام آل سعود تجربة حيّة يعيشونها يومياً مع الإعتراضات المتصاعدة من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي؛ حيث تحوّل ملف الإعتقالات الى قضية رأي عام غير قابلة للصمت ولا إخماد الأنفاس ولا قمع المواطنين بالمزيد من الإعتقالات.

هل يعني هذا أن آل سعود يعيشون حيرة لا يدركون كيفية حلّها في التعاطي مع معارضة المواطنين لحكمهم وزيادة انتقاد عبثهم؟

ربما هو كذلك. وهناك من بين الأمراء من ينصح بأن (اللاموقف) اي غياب الموقف الصارم يعني تشجيع المواطنين على كسر المزيد من الحواجز، واختراق العديد من فضاءات الممنوعات الحمراء!

كأن النظام اليوم يحاول أن يحدّ من الأصوات التي يعتبرها مشاغبة، وهناك مؤشرات عديدة على ذلك:

1 ـ الإعتقالات الإنتقائية التي تستهدف الأصوات العالية، ممن لها تأثير، وهذا واضح في المنطقة الشرقية. ومع هذا، فإن انتقائية النظام اذا لم تتوفر له معلومات كافية، أدت في أكثر الأحيان الى اعتقالات عشوائية غرضها الإرهاب العام.

2 ـ المضايقات، سواء للناشطين الحقوقيين او السياسيين، او حتى لرجال الدين؛ حيث يتم استدعاؤهم للمباحث والتحقيق معهم بشأن موقف أو خطبة أو تعليق أو مقابلة مع تلفزيون أو تغريدة في تويتر. لاحظنا مثلاً، أن ناشطين حقوقيين عديدين اختفت اصواتهم من تويتر، بعد التحقيقات، ومن بينهم نساء عديدات، استدعين للتحقيق، وجيء بأزواجهن أو ولاة أمرهن للتعهد بالنيابة عنهن بأن لا يقربن من (تويتر) أو لا يكتبن تعليقات ضارّة، مع التهديد بالسجن والتعذيب لهن أو لولاة أمرهن!

3 ـ التهديدات، سواء عبر الإتصالات الهاتفية المسمومة، التي تقول للأشخاص المزعجين للسلطة، بأن يكفوا عن العمل، وفي احيان تكون التهديدات والإزعاج أقسى، في اتصالات آخر الليل، أو متابعة الشخص في كل حركاته، مع إشعاره عمداً بأن هناك من يتبعه، أو حتى يهدد حياته. وهذا أمرٌ صار معلوماً، ولكن جرى التوسع بشأنه في الآونة الأخيرة، وقد سبق لعدد من الناشطين أن كشفوا مثل هذه التهديدات، بما فيه القتل والفصل من العمل، وسحب جواز السفر وغير ذلك، وهي كلها أمور تتم ممارستها بتوسّع، كبديل عن القمع المباشر الأعمى.

4 ـ وهناك وسيلة استخدمت مع المشهورين من الناشطين الحقوقيين والسياسيين، وهي (جرجرتهم) الى المحاكم بعد التحقيق والإستدعاء لدى جهاز المباحث. والغرض في أساسه هو: تعويق عمل الناشط، وترهيبه، مع احتمال اعتقاله، بحجّة أو بأخرى. مثل هذا حدث مع الناشط وليد أبو الخير، والآن مع الدكتور عبدالله الحامد، ورئيس جمعية حسم الدكتور محمد القحطاني. وعليه، فإن أبدى المعتقل تنازلاً وانضباطاً بالشكل الذي يريده جلادو النظام، لفلفت المحاكمة وطويت الأوراق، وسُكت عنه، مع مراقبته. وإن أصرّ على موقفه، أُدين بالتهم التي يرددها النظام وأبواقه القضائية، وهي تهم تضحك الثكلى مثل: تعويق التنمية؛ وتشويه سمعة البلاد؛ وإثارة الفتنة، وتأليب الرأي العام العالمي على الدولة، وغيرها من التهم العجيبة.

وما دفع النظام الى القيام بمثل هذه الخطوات مع المشهورين من الناشطين الحقوقيين، هو أنه قد سبق له أن اعتقلهم مراراً، كما هي الحال مع الدكتور عبدالله الحامد ولم يفد معهم الترهيب. وثانياً لأن هؤلاء الأشخاص معروفون لدى العالم بنشاطهم الحقوقي والسلمي، وبالتالي يصعب على النظام اقناع أحد بدعاواه، كما يجد أن الإعتقال وتكراره مكلف بدون مراعاة الحدود الدنيا لضوابط الإعتقال، خاصة لحقوقيين يعرفون جيداً ما هي حقوقهم، ويفهمون الأنظمة والقوانين أكثر من القضاة أنفسهم. لذا كان لا بد من استدعائهم من جديد، ومحاكمتهم على اقوال او خطابات او تصريحات أو مقالات، ليصار لاحقاً الى تجريمهم واعتقالهم، وبذا تكون (العدالة السعودية) قد طُبّقت تماماً وفق الإجراءات القضائية المتّبعة!

يجب التذكير هنا بوسيلة خامسة لم تستخدم إلا في المنطقة الشرقية، وهي استخدام الرصاص الأعمى وقتل المواطنين في الشوارع لمجرد أنهم تظاهروا، ومن ثمّ إلصاق تهم الإرهاب بهم، واتهام المتظاهرين بأنهم قتلوا بعضهم بعضاً، كما هي مزاعم بيانات وزارة الداخلية المضحكة. في المنطقة الشرقية، ولأسباب مذهبية، اضافة الى عنفوان ونضج الحراك المعارض هناك، وجد النظام نفسه مطلق اليد في استخدام ماكنة القتل، وما كانت لديه مشكلة في أن يعطي الأوامر بذلك دون أن يستدعي الأمر معارضة أو ممانعة من قبل القتلة من قواته، فهؤلاء مشحونون طائفياً، وتم توجيههم على أن الشيعة في الشرقية كفار عملاء للأجانب وأعداء للإسلام وللوطن، وبالتالي لا تقف أمام النظام وقوات بطشه القاتلة ومباحثه ومخابراته حواجز أخلاقية أو دينية وهو لا يرى تداعيات سياسية كبيرة ـ بنظره ـ إن مدّد العنف الى الرصاص. مثل هذا يصعب فعله في بيئة النظام السياسية والإجتماعية (نجد) التي بدأت هي الأخرى بالتحرك خاصة في ملف المعتقلين منذ سنوات بدون محاكمة.

المحاكمات التي لاتزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور، للدكتورين عبدالله الحامد ومحمد القحطاني، والتي تنشر تفاصيلها أولاً بأول على الفيس بوك وتويتر، تمثل واحدة من أدوات تعرية النظام في سياساته وممارساته بما يشمل قمعه وخطابه المتخلف سياسياً ودينياً. كما أنها تمثل تعرية واضحة للقضاء السعودي وللقضاة، وتكشف مستواهم العلمي، وفهمهم المتدنّي للحياة والسياسة وحقوق المواطنين، وتفسيرهم المتخلّف للدين الذي جعلوا منه خادماً للطغاة المستبدين.

تفاهة الإتهامات، وتآمر المدّعي العام والقضاة مع وزارة الداخلية ووزيرها محمد بن نايف، أوضح أن من الإستحالة بمكان تحقيق معايير (المحاكمة العادلة) التي هي أحد أهم مطالب المواطنين ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية. كما أن مزاعم إصلاح القضاء يحتاج الى شيء أكثر بكثير من الميزانيات المالية الضخمة المخصصة لذلك. فمشكلة القضاء والقضاة ليست في (الفلوس) بل في (الرؤوس) و(النفوس)! فحتى لو أتيت بألف دليل ودليل على أن الإستبداد قائم سياسياً، وأن الفساد معشعش ومحمي من الأمراء، وأن من حقّ الناس الإعتراض سلماً على النظام، والمطالبة جهراً بالحقوق، بالتظاهر والتجمعات وغيرها.. فإن المؤسسة الدينية عامة وجهاز القضاء خاصة لا يمكن إلاّ أن يجدا المواطنين متهمين، وأن وزارة الداخلية وأمراء الجهالة والطغيان هم دائماً على حق.

واضح من خلال المحاكمات أن هناك فرقاً بيّناً بين خطاب المواطنين ونظرتهم لحقوقهم وفق الشرع والعقل؛ وبين خطاب المشايخ المنحاز كليّاً للإستبداد، تشريعاً وتجريماً لمقاومته، الى حد اعتبار التظاهرات ليس فقط عملاً محرّماً دينياً يستحق فاعلها كسر الجمجمة!، وإنما هي أيضاً جرم سياسي وفق منظور آل سعود.

فرق واسع بين من يرى الحاكم أجيراً عند الشعب، وبين مشايخ يرون طاعة ولي الأمر (وإن جلد ظهرك وأخذ مالك)!

الإعتقالات والمحاكمات والتهديدات وغيرها للمواطنين جمعاً، أو للناشطين حصراً، تؤكد المرّة تلو الأخرى، بأن المؤسسة الدينية بمختلف رجالها ليس فقط مغيّبة عن الواقع ولا تفهم فقهه، وإنما نخرها أيضاً الفساد، وسيطر عليها الأمراء بشكل كامل. مثل هذه السيطرة الشاملة لا تخدم في محصلة الأمر أمراء آل سعود، لأن ذلك أدّى من الناحية العملية الى فقدان مصداقية مشايخ النظام، وبالتالي تقلّص تأثيرهم على الجمهور، ولم تعد شرعنتهم للنظام ذات قيمة كبيرة. وفي النهاية ما فائدة مؤسسة دينية وضعت لشرعنة النظام، غير قادرة على توفير أهم ما يطلب منها؟ وغير قادرة على كسب ثقة الجمهور؟

السعودية تعيش مخاضاً مؤلماً من أجل التغيير؛ والمواطنون اليوم هم أكثر من أي وقت مضى مستعدون لدفع شيء من ضريبة التغيير، من تحمل للعنت والقمع والإعتقال والفصل من الوظيفة والمنع من السفر والمحاكمة الجائرة وغيرها.

لكن في نهاية المطاف، لا يصحّ إلا الصحيح. وتجربة الماضي تؤكد بأن العائلة المالكة كما مؤسستهم الدينية والقضائية في حالة انحدار سريع في السمعة والمكانة، وقد أثبتوا أنهم غير جديرين بقيادة الشعب، الذي تفصلهم عنه مسافة طويلة سبقهم اليها، فيما هم يعيشون الماضي بأفكاره ورؤاه وسخف فتاواه.

الصفحة السابقة